زيارة السيسي إلى أنقرة.. وتطور العلاقات من العداء إلى التعاون

https://rasanah-iiis.org/?p=36415

زارَ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤخَّرًا أنقرة، حيث التقى بنظريه التركي الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد قرابة عقدٍ من العداء، تبنَّى خلاله كلا الرئيسين مواقف متعارِضة تجاه الصراعات الإقليمية؛ ما أجَّج التوتُّرات، وحدَّ من آمال التوصُّل إلى أيّ انفراجة تُفضي لتعاونٍ فعّال بين البلدين. وقبل هذه الزيارة، زارَ أردوغان القاهرة في فبراير 2024م، وبزيارته تلك أنهى رسميًا عقدًا من العداء الطويل بين أنقرة والقاهرة. وخلال زيارة السيسي لأنقرة، دعا الرئيسيان إلى تعزيز العلاقات الثنائية، وأشارا إلى عزمهما على تنسيق ردود الفعل ضدّ إسرائيل، وتسهيل مرور المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين. دفَعَ الوضع الأمني ​​الإقليمي المتقلِّب في ظلّ الحرب على غزة، إلى تسريع جهود التقارب بين البلدين، على الرغم من خلافاتهما بشأن حركة حماس؛ ففي الوضع الحالي، لا بُدَّ للبلدين النظر إلى ما هو أبعد من خلافاتهما الأيديولوجية العالِقة، والتركيز على المصالح الاقتصادية والاعتبارات الإستراتيجية البراجماتية، نظرًا لحاجتهما الماسَّة لتحسين اقتصاديهما.

بدأ تدهوُر العلاقات بين مصر وتركيا بالتفاقم، بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، في أعقاب ثورة 30 يونيو عام 2013م. وكان مرسي، الذي تولَّى السُلطة بعد مظاهرات ما يُسمَّى بــ «الربيع العربي»، حليفًا قريبًا لتركيا، التي دعمت الإخوان المسلمين. وفي فترة العداء هذه، استمرَّ الإعلام التركي بانتقاد السيسي، وأقحمَ أردوغان مرارًا اسم السيسي في خطابه السياسي، مقارنًا بين السيسي وبعض المعارضين في تركيا؛ بهدف حشْد الدعم. وبدأت العلاقات بين البلدين في التحسُّن، بعد أن اتّخذت تركيا تدابير لتخفيف التوتُّرات مع الدول الإقليمية، ومنها مصر. ووفقًا للتقارير، بذلت البلدان جهودًا دبلوماسية سرِّية في السنوات الأخيرة لتحسين علاقتهما؛ ما أثمر في النهاية إلى إعادة تعيين السفراء. وخلال الزيارة الأخيرة، وقَّع البلدان العديد من اتفاقيات التعاون، في مجالات الطاقة والزراعة والتعليم والسياحة والتجارة.

تشكَّلت التطورات الأخيرة؛ بسبب عدَّة مصالح اقتصادية وإستراتيجية، ناهيك عن المشهد الجيوسياسي الإقليمي الآخِذ في التغيُّر:

أولًا: لا بُدَّ من الإشارة هُنا، إلى أنَّه حتى بعد قطْع العلاقات، استمرَّ البلدان في تجارتهما الثنائية؛ إذ بقِيَت مصر الشريك التجاري الأول لتركيا في أفريقيا، كما بقِيَت تركيا واحدةً من بين أكبر خمسة شُركاء تجاريين لمصر. وهذا يُشير إلى أنَّه على الرغم من التوتُّرات السياسية، كان كلا البلدين حذِرَين من أن تؤثِّر النزاعات المستمِرَّة سلبًا على علاقاتهما التجارية. وخلال المؤتمر الصحافي، الذي أعقب الاجتماع بين الرئيسين، قال أردوغان إنَّ كلا البلدين يعتزمان تعزيز تجارتهما السنوية الثنائية، والنهوض بها من 7 مليارات دولار إلى 15 مليار دولار، في السنوات الخمس المقبلة. وفي هذا الصدد، تُشير أجندة تحسين التعاون الاقتصادي الثنائي وتنويع الاستثمارات، إلى أنَّ مصر وتركيا حريصتان على حل خلافاتهما وتبايناتهما السياسية في المقام الأول؛ بسبب وضعهما الاقتصادي الداخلي.

ثانيًا: إنَّ ضرورة إعادة تقويم سياستهما الخارجية لتتكيَّف مع وضع البيئة الجيوسياسية المتغيِّر في المنطقة، كانت من الدوافع خلف التقارب التركي-المصري. ففي الأزمة الليبية، دعمت مصر وتركيا فصائل متحارِبة في ليبيا؛ ما فاقم التوتُّرات بينهما، إذ دعمت تركيا حكومة «الوفاق الوطني» المُعترَف بها من الأُمم المتحدة في طرابلس؛ بسبب تقاربها الأيديولوجي مع جماعات مثل جماعة الإخوان المسلمين، ودعمت مصر «الجيش الوطني الليبي» بقيادة الجنرال خليفة حفتر؛ لمنع القُوى الإسلامية من اكتساب نفوذ في هذه المنطقة، التي قد تشكِّل تهديدًا لأمن الحدود المصرية.

ثالثًا: تسعى تركيا حاليًا إلى تعزيز أمنها في مجال الطاقة، وتحسين البنية الأساسية لاستيراد الغاز الطبيعي المُسال، والبحث عن مورِّدين جُدُد. وتهدُف أنقرة لأن تصبح مركزا للغاز ومورِّدًا للاتحاد الأوروبي، وتأتي تحرُّكات أنقرة الأخيرة في المقام الأول لتحقيق هذه الطموح، عبر البحث عن فُرَص توريد للغاز من مصر. وفي هذا الصدد، اتّفقت شركة خطوط أنابيب البترول التركية «بوتاس» وشركة الغاز الطبيعي القابضة المصرية «إيجاس»، فبراير الماضي، على تعزيز تعاونهما في مجال تجارة الغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المُسال.

رابعًا: سعت تركيا بنشاط في السنوات الأخيرة إلى توسيع صادراتها الدفاعية على مستوى العالم، وركَّزت بشكلٍ خاص على الوصول إلى أسواق شمال أفريقيا. ويهدُف هذا التركيز الإستراتيجي إلى وضْع صادرات الدفاع كمساهم كبير في اقتصاد تركيا. وفي فبراير، وافقت تركيا على تصدير طائرات مسيَّرة قتالية ومعدّات عسكرية أخرى إلى مصر؛ ما يُشير إلى تحوُّل في العلاقات الثنائية بين البلدين. وتأتي احتمالية دخول البلدين في تعاونٍ دفاعي، من بين المنافع المتبادلة لهذه النوع التعاون، لا سيّما أنَّ مصر أعربت عن اهتمامها بمنتجات الدفاع التركية، خاصَّةً الطائرات المسيَّرة. ناهيك عن أنَّ هذه الشراكة من شأنها أن تعزِّز العلاقات بين البلدين بشكل أكبر، خصوصًا أنَّ العلاقات الدفاعية ترسِّخ علاقات ثنائية ثابتة على اعتبارات طويلة الأجل.

خامسًا: تهدُف تركيا إلى تجنُّب تصعيد التوتُّرات الإقليمية وتأمين مصالحها البحرية، خاصَّةً بعد استبعادها من منتدى غاز شرق المتوسِّط، ​​الذي تأسَّس في عام 2020م. ومن خلال علاقتها مع مصر، تسعى تركيا إلى التخفيف من عُزلتها الإقليمية، التي نشأت من المصالح البحرية المتضارِبة مع اليونان وقبرص ومصر.

سادسًا: لدى مصر وتركيا مصالح إستراتيجية في القرن الأفريقي؛ لذا قد يساعد التفاهم بينهما على حفظ هذه المصالح، في خِضَمّ التوتُّرات الإقليمية المتصاعِدة. وفي هذا الشأن، وقعَّت أثيوبيا اتفاقية تاريخية في يناير الماضي مع صوماليلاند، على الرغم أنَّها دولة غير مُعترَف بها دوليًا، تحصل بموجبها أثيوبيا على منفذٍ على البحر الأحمر مقابل الاعتراف بسيادة صوماليلاند. وبهذا الاتفاق، تهدُف أثيوبيا إلى التحرُّر من القيود الجغرافية كونها دولة حبيسة، بأخذ منفذ على البحر الأحمر. ومؤخَّرًا، كثَّفت أنقرة جهودها في محادثات الوساطة بين الصومال وأثيوبيا، بهدف تعزيز نفوذها الدبلوماسي في المنطقة. وعلى الجانب الآخر، ثمَّة خلاف عالِق بين مصر وأثيوبيا على سدِّ النهضة، الذي تخشى مصر أن يشكِّل تهديدًا خطيرًا لأمنها المائي. وردًّا على نشاطات مصر المتنامية في القرن الأفريقي، حذَّر رئيس الوزراء الأثيوبي أبيي أحمد من أنَّ أثيوبيا سوف «تُذِلّ» أيّ دولة تهدِّد سيادتها. يأتي هذا الخطاب التصعيدي، بعد توقيع مصر على اتفاقية عسكرية مع الصومال، التي تراها أثيوبيا تحدِّيًا لاتفاقيتها البحرية مع صوماليلاند. وفي حال استمرَّت هذه التوتُّرات بالتصاعد، قد ينشب صراع بالوكالة يأتي بعواقب جسيمة؛ نظرًا لما تتمتَّع به هذه المنطقة من أهمِّية إستراتيجية عظيمة. في خِضَمّ ما تشهده المنطقة الآن من تطوُّرات جيوسياسية، تُدرِك القاهرة وأنقرة حاجتهما إلى التقارب والتشارك، وهذا يتّضِح جليًّا في مشاركة تركيا في قمَّة الجامعة العربية في القاهرة، التي تأتي استكمالًا لجهود تركيا في ترميم علاقاتها مع دول الجوار في المنطقة. ومع استمرار الحرب على غزة، أصبح تعاونهما أمرًا حتميًا؛ نظرًا للقُرب الجغرافي بين مصر وقطاع غزة؛ ما يمكِّنها من لعِب دورٍ محوري في إيصال المساعدات الإنسانية للقطاع. وتعي جيِّدًا أنقرة هذه الحقيقة، وترى في تقاربها مع مصر فُرصةً لتعزيز علاقتها الثنائية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير