كانت لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أذربيجان في أغسطس 2024م، عدَّة ارتدادات جيوسياسية هامَّة على المنطقة، بدءًا من علاقة روسيا بأذربيجان، ومن ثمَّ التفاعلات الأوسع في منطقة جنوب القوقاز. وكان الهدف الأول لهذه الزيارة، هو توطيد العلاقات الثنائية بين باكو وموسكو، إذ أكَّدت الأخيرة التزامها بتعزيز التعاون في مختلف القطاعات، لا سيمّا في قطاعي الطاقة والنقل. أمّا باكو فكانت دائمًا حذِرَة في موازنة علاقاتها مع روسيا وتركيا والغرب، فهي تُدرِك جيِّدًا أهمِّيتها الجيوسياسية، بعدما أصبحت اليوم لاعبًا محوريًا في المنطقة.
تأتي الزيارة في وقت تعاني فيه العلاقات الروسية-الأرمينية من تدهور كبير، خصوصًا بعدما اصطفَّت أرمينيا إلى جانب الغرب، بعد حرب مرتفعات كاراباخ الثانية عام 2020م. وعلى الرغم من هذا التوجُّه السلبي، لا تزال روسيا قوةً عسكرية داعمة للمجهود أرمينيا الحربي، كما عرضت روسيا التوسُّط لإجاد حل سِلْمي للنزاع بين أرمينيا وأذربيجان، لكن بقوَّة أقلّ، لا سيّما بعد تراجُع نفوذها في المنطقة، ناهيك عن أنَّ أذربيجان حقَّقت مكاسب لا يُستهان بها في اشتباكات مرتفعات كاراباخ عام 2023م.
وأثمرت الزيارة عن توقيع اتفاقيات لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، خصوصًا في قطاع الطاقة، إذ تحرص موسكو على استمرار نفوذها في قطاع الطاقة الأذربيجاني، في ظل توسيع باكو دورها في إمدادات الطاقة إلى الأسواق الأوروبية، إذ تحرص موسكو على مصالحها في هذا المجال؛ لأنَّها تساعدها على تخطِّي العقوبات عبر طريق بحر قزوين. وهذا يفسِّر لنا اهتمام موسكو في تنفيذ «ممرّ النقل الدولي شمال – جنوب INSTC|» الذي يربط الهند وإيران وأذربيجان وروسيا وآسيا الوسطى.
وألمحت الزيارة إلى احتمالية أن نشهد إعادة اصطفافات سياسية في المنطقة، خصوصًا بعدما أبدت أذربيجان رغبتها بالانضمام إلى منظَّمات مثل «البريكس»، والاصطفاف إلى جانب قُوى غير غربية. من جانبها، تسعى روسيا إلى تعزيز تحالفاتها الإقليمية، وهذا منطقي في ظل تنامي النفوذ الغربي والتركي، والمصاعب التي تواجهها في حربها على أوكرانيا، وتحوُّل موازين القُوى في القوقاز. لكن تستمِرّ التوتُّرات في التصاعُد بين روسيا من جانب، وأرمنييا وإيران من جانبٍ آخر، وأجَّجت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بخصوص «ممرّ زنغزور» هذه التوتُّرات، إذ ترى إيران وأرمينيا أنَّ هذه الممرّ يهدِّد النقل الإقليمي والديناميات الجيوسياسية، لكن خفَّفت إيران من حدَّة انتقادها لهذا الممرّ، بعدما استدعت روسيا سفيرها في طهران.
وخلاصة القول، عزَّزت زيارة بوتين من أهمِّية أذربيجان في إستراتيجية روسيا الإقليمية، خصوصًا مع تحوُّلات المصالح الجيوسياسية في منطقة جنوب القوقاز، لكنّها أظهرت مدى تراجُع نفوذ روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، لا سيّما في ظل جهودها لحل نزاع كاراباخ. والآن تواجه روسيا تحدِّيًا جديدًا يتمثَّل في مدى قُدرتها على تطوير علاقات جيِّدة مع أذربيجان وإيران لمعالجة القضايا الإقليمية، على الرغم من أنَّ كلا البلدين (أذربيجان وإيران) على خلاف فيما يخُصّ مستقبل القوقاز.
وفي سبتمبر 2024م، قرَّر الرئيس بوتين القيام بزيارة مهمَّة إلى المنطقة، حيث زار منغوليا، وكانت لزيارته نتائج مهمَّة على الصعيد الداخلي لمنغوليا، وعلى الصعيد الدولي من حيث مكانتها القانونية والدبلوماسية. وزارها الرئيس بوتين، على الرغم من أنَّها مُلزَمة قانونًا، بصفتها عضو في المحكمة الجنائية الدولية، باعتقاله. والجدير بالذكر هُنا، أنَّ المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكِّرة توقيف بحقِّ الرئيس بوتين بتُهمة ارتكابه جرائم حرب «مزعومة» وقعت خلال الحرب الروسية على أوكرانيا، لا سيّما بشأن ترحيل الأطفال من أوكرانيا. ومع ذلك، اختارت الحكومة المنغولية عدم الامتثال، متذرِّعةً بأهمِّية علاقاتها الاقتصادية الحيوية مع روسيا، خاصَّةً في إمدادات الطاقة. وتواجه منغوليا الآن انتقادات من منظَّمات حقوق الإنسان، واحتمالية إحالتها إلى «جمعية الدول الأطراف» في المحكمة الجنائية الدولية لعدم الامتثال، وفي حين أنَّه لا تُوجَد إجراءات عقابية فورية، فإنَّ مثل هذه الإحالة قد تضُرّ بسُمعة منغوليا الدولية.
تعتمد منغوليا اعتمادًا كبيرًا على روسيا في الواردات الحيوية، خاصَّةً النفط؛ حيث تستورد تقريبًا 95% من وقودها من روسيا، وأكثر من 20% من كهربائها. وكان هذا الاعتماد الاقتصادي عاملًا مهمًّا في قرارها باستضافة بوتين، على الرغم من مذكِّرة المحكمة الجنائية الدولية؛ فإن قامت مانغوليا بأيّ فعل عدائي ضدّ بوتين، ستواجه انتقامًا روسيًّا يضُرّ بشدَّة أمنها في مجال الطاقة. لذلك، تجِد منغوليا نفسها محاصرةً بين سندانة الحفاظ على العلاقات الاقتصادية الحيوية مع روسيا ومطرقة الوفاء بالتزاماتها الدولية بموجب المحكمة الجنائية الدولية، وهذه الحالة تسلِّط الضوء على الموقف الدبلوماسي الحسّاس للدول الأصغر، التي تعتمد على جيران أقوياء.
بالنسبة لروسيا، عزَّزت الزيارة نفوذها في المنطقة وأظهرت قُدرة بوتين على السفر، على الرغم من مذكِّرة المحكمة الجنائية الدولية، كما أظهرت استعداد منغوليا للحفاظ على علاقات وثيقة مع روسيا، حتى على حساب توتُّر علاقاتها مع الغرب. ويمكن اعتبار الزيارة جزءًا من إستراتيجية روسيا الأوسع لتعزيز العلاقات مع الدول المجاورة، وتأكيد قوَّتها الإقليمية، على الرغم من محاولات عُزلتهًا دوليًا، خاصَّةً من الدول والمؤسَّسات الغربية. كما أرسلت هذه الزيارة رسالةً إلى الصين، مفادها أنَّ روسيا لا تزال قوَّة إقليمية مهمَّة، على الرغم من حربها في أوكرانيا. وبشكل عام، أبرزت الزيارة التحدِّيات، التي تواجهها دُوَل مثل منغوليا، والتي يتعيَّن عليها أن تتعامل مع تعقيدات جيوسياسية على أرض الواقع، مع الامتثال بالالتزامات القانونية الدولية. كما أظهرت جهود روسيا المستمِرَّة لتقويض شرعية المؤسَّسات الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، وأرسلت رسالة إلى القُوى الغربية الساعية لتعزيز نفوذها في الجوار الروسي، مثل فرنسا. كما أنَّ موسكو متشائمة من تطلُّعات منغوليا لتطوير سياسة خارجية مستقِلَّة، والتي ستصُبّ في صالح تعزيز المصالح الغربية في الجوار الروسي. لذلك، بهذه الزيارة الرئاسية، أكَّدت روسيا نفوذها في منغوليا، في ظل محاولات القُوى الغربية لتعزيز نفوذها ومصالحها في هذه الدولة.