زار رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الولايات المتحدة في 14 فبراير، حيث التقى بالرئيس دونالد ترامب والعديد من كبار المسؤولين الأمريكيين، جاءت زيارته وسط مخاوف متصاعدة بشأن سياسات ترامب حول التعريفات الجمركية، والمناقشات الجارية بصدد نهج إدارته في السياسة الخارجية القائم على عقد الصفقات، كما جاءت زيارة مودي بعد نشوب غضب شعبي داخلي، وتصاعُد انتقادات المعارضة في البرلمان الهندي، على إثر ترحيل 104 هنود من الولايات المتحدة، مع انتشار تقارير وصور تُظهرهم مقيدين. الجدير بالذكر أن مودي وترامب يتمتعان بدعم داخلي قوي، وعُرف عنهما اهتمامها بالإعلام وأن يظهران بصورة الرجال الأقوياء، كما تمكن القائدان خلال مسيرتهما السياسية من حشد قاعدة كبيرة من الناخبين، متكئين على القومية مع تأطير سياساتهما الخارجية على أنها ضرورية لحماية المصالح الوطنية. وخلال هذا الاجتماع ناقشا سُبل تعزيز العلاقات الثنائية، وتعزيز العلاقات بين الشعبين والتعاون المتعدد الأطراف.
جرى هذا اللقاء بعد وقت قصير من إعلان ترامب فرض تعريفات جمركية متبادلة على جميع شركاء الولايات المتحدة التجاريين، ورغم أن هذه السياسة مازالت قيد المُراجعة، فقد أثارت ردود أفعال ومخاوف عالمية؛ لأنها قد تؤدي إلى رفع التعريفات الجمركية، مما قد يؤدي إلى زيادة تكاليف الاستيراد، وكانت نيودلهي تُراقب الوضع عن كثب منذ عودته إلى البيت الأبيض، لاسيما وأن ترامب أكد على القومية الاقتصادية، ووصف الهند خلال حملته الانتخابية بأنها «ملك الرسوم الجمركية» و«المعتدي الكبير» على العلاقات التجارية، ودعا إلى اتخاذ تدابير لموازنة العجز التجاري. ولتخفيف حِدة التوترات، وافقت الحكومة الهندية في ميزانيتها الأخيرة ومن خلال تحديثاتها اللاحقة، على خفض الرسوم الجمركية على المنتجات الأمريكية الرئيسة ذات الأهمية، مثل: السيارات الفاخرة (الدراجات النارية الثقيلة) والمعادن والأدوات الإلكترونية، مما يُشير إلى التزامها بالمشاركة البناءة مع إدارة ترامب، وعزمها الوصول إلى الأسواق الأمريكية الخاصة ببعض المنتجات الزراعية الأمريكية، وقد تؤدي التعريفات الجمركية المتنامية والضغوطات لزيادة الواردات من الولايات المتحدة إلى تعقيد خطة الهند، الرامية لتعزيز التصنيع المحلي والحد من الاعتماد على الواردات، بموجب مبادرة الاعتماد على الذات «أتمانيربهار بهارات | Atmanirbhar Bharat» أي بالعربية: «الهند المكتفية ذاتيًا»، وحسب تصريحات وزير الخارجية الهندي فيكرام ميسري، تبحث الهند في اتفاقيات تجارية يمكن أن تعود بالنفع على الجانبين في مُعالجة المخاوف الرئيسة في الأسواق، ومن المتوقع أن تتبع ذلك مفاوضات في الأشهر المقبلة، وانخفضت مؤشرات البورصة الهندية القياسية بعد فشل اجتماع مودي وترامب في حل مخاوف الأسواق بشأن التعريفات الجمركية.
في عام 2024م، بلغ حجم التجارة الثنائية 129.2 مليار دولار، مع عجز تجاري أمريكي بلغ 45.7 مليار دولار، حيث ارتفعت الصادرات إلى 41.8 مليار دولار والواردات إلى 87.4 مليار دولار. بالنسبة للولايات المتحدة، تبقى موازنة العجز التجاري أولوية، لكن بالنسبة للهند فإنها تضع الطاقة والدفاع أولوية في سياستها الخارجية، ومع كل هذا تبقى إستراتيجية الهند في استيراد النفط محكومة بالأسعار، إذ تُفضل الحصول على النفط من أفضل الموردين من حيث السعر. حتى عام 2021م، كانت الهند من أبرز مستوردي النفط الأمريكي، لكن تغير هذا الاتجاه بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وما تلاها من تبعات على سوق النفط العالمية، حينها أصبحت الهند من أكبر مستوردي النفط الروسي، بفضل أسعاره التنافُسية، لكن هذا الواقع قد يتغير في المستقبل القريب، وهذا ما أشار إليه وزير الطاقة الهندي هارديب سينغ بوري، الذي أكد التزام الهند بتأمين احتياجاتها من الطاقة، من خلال تنويع مصادر الاستيراد، لكن يتناقض نهج الهند المحكوم بالأسعار مع تأكيدات ترامب على الحد من العجز التجاري الأمريكي. ولتحقيق هدفها المتمثل في زيادة صادراتها النفطية إلى الهند، لا بد لإدارة ترامب من تقديم أسعار أكثر تنافُسية وحوافز سياسية، لتأمين حِصة أكبر من سوق الطاقة الهندية الآخذ في التوسع، والجدير بالذكر هنا أن الهند تُعد من أكبر الدول في تكرير النفط في العالم، ومن أكبر مستوردي النفط الخام في العالم، مما يجعلها لاعبًا محوريًا في أسواق الطاقة العالمية.
وفي مجال الدفاع، لكي تتمكن الهند من تعزيز إنتاجها المحلي والحد من الاستيراد على نطاق واسع، تحتاج إلى أخذ تكنولوجيا الولايات المتحدة وضمان سريان فوائد إستراتيجية طويلة الأمد، للحفاظ على تحديث قطاعها الدفاعي، لاسيما وأن المعارضة انتقدت حكومة مودي بسبب القصور الذي شاب مبادرة «صنع في الهند»، واعتمادها المستمر على الموردين الأجانب. ووفقًا للبيان المشترك من نيودلهي وواشنطن، من المقرر أن يوقع الجانبان إطارًا دفاعيًا مدته عشر سنوات، تحت اتفاقهما المشترك «تحفيز الفُرص للشراكة العسكرية وتسريع التجارة والتكنولوجيا»، وغيرها من المبادرات المهمة تشمل مبيعات دفاعية موسعة، والإنتاج المشترك للأنظمة المتقدمة، وتسهيل الإجراءات والقوانين المتعلقة ببيع وشراء الأسلحة، بالإضافة إلى تعزيز الشراكات الصناعية في الأنظمة الذاتية، والمفاوضات بشأن اتفاقية «المشتريات الدفاعية المتبادلة | RDP».
ومن جانبها، عرضت الولايات المتحدة على الهند شراء طائرات مقاتلة من الجيل الخامس مثل طائرات «إف-35»، لكن ميسري أوضح في مؤتمر صحافي: أن «الصفقة لا تزال مطروحة على الطاولة»، ويجري حاليًا في الهند مُناقشة شراء طائرات «إف-35» نظرًا لسعرها مقارنة بطائرات «سو-57» الروسية؛ إذ تتصاعد المخاوف في الهند من أن تُواجه الحكومة ضغوطات لقبول هذه الصفقات الدفاعية باهظة الثمن، مما قد يستنزف ميزانيتها الدفاعية، ويُؤثر على إستراتيجيتها طويلة الأمد في المشتريات. وفي ظل تأكيد نيودلهي على عقد صفقات شراء ناجعة من حيث التكلفة، وعلى توطين الصناعات الدفاعية، فإن أي صفقة تتضمن طائرات «إف-35» من المحُتمل أن تُبنى على شروط تمويل تُفضلها الهند، بالإضافة إلى أهمية نقل التكنولوجيا إلى الهند، ناهيك عن أن تكون هذه الصفقات داخل الإطار العام للشراكة الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة.
وسوف تُركز اتفاقيات مثل مبادرة الثقة الأمريكية-الهندية «تحويل العلاقة بين الولايات المتحدة والهند باستخدام التكنولوجيا الإستراتيجية» على تعزيز التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات وتكنولوجيا الفضاء، ومن بين مجالات التعاون الرئيسة الأُخرى بين البلدين تبرز أمامنا الطاقة النووية المدنية، إذ أعادت الهند والولايات المتحدة التأكيد على التزامهما بتعزيز التعاون في هذا القطاع، من خلال تعزيز توطين الطاقة النووية المدنية على نطاق واسع مع نقل تكنولوجيا المفاعلات النووية. وللتغلب على العقبات القانونية السابقة، تعمل الهند على تعديل «قانون الطاقة الذرية» و «قانون المسؤولية المدنية عن الأضرار النووية»، مما يفتح الباب للاستثمار في القطاع الخاص، ويُعالج المخاوف المتعلقة بالتزامات الموردين. وحتى بعد زيارة مودي إلى واشنطن وما تبِعها من تطورات بين البلدين ما تزال التحديات ماثلةً أمامهما. نذكر أهمها؛ عضوية الهند في مجموعة «البريكس»، التي تهدف إلى تحدي النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة وتعزيز نظام مالي بديل، وقد تكون عضوية الهند في هذا المجموعة شوكةً في العلاقات الهندية-الأمريكية، وقد هدد ترامب بالفعل بفرض تعريفات جمركية بنسبة 100% ردًا على مساعي مجموعة «البريكس» إلغاء التعامل بالدولار الأمريكي، ورغم تهديدات ترامب تبقى مجموعة «البريكس» بالنسبة للهند حجر زاوية ترتكز عليها في مساعيها لإصلاحات الحوكمة العالمية وطموحاتها لأن تصبح قوًة عالميًة تقود الجنوب العالمي؛ إذ تلعب الهند دورًا محوريًا في منطقة المحيط الهندي والهادئ، وتعد حائط صدٍ لطموحات الصين، وتتمتع بأهمية إستراتيجية نظرًا لعضويتها في «المنتدى الأمني الرباعي» والذي يُعرف بــ «Quad» ومجموعة «I2U2»، و «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط |IMEC» والذي تهدف من خلاله إلى تعزيز استمرارية سلاسل التوريد، والحِفاظ على الأمن، وتوطيد الشراكات في مجال الطاقة، لذا من غير المتوقع أن تُثير إدارة ترامب مشكلة كبيرة حول عدم اصطفاف نيودلهي إلى جانبها في قضايا معينة، لكنها سوف تتصدى للمخاوف ومصادر التوترات عبر قنواتها الدبلوماسية. وفي سياق التنافس الدائر بين الولايات المتحدة والصين، من المحتمل أن تُعزز الهند والولايات المتحدة تعاونهما في مجالات الدفاع ومكافحة الإرهاب والأمن البحري ومبادرات بناء القدرات الرامية إلى ضمان «منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة»، وهي أولوية كُبرى لدى الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.