منذ تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين كوريا الجنوبية واليابان في عام 1965م، شهدت العلاقات بين الدولتين تقلبات عدة، ارتبطت بالعديد من العوامل والمحركات المتداخلة، بما في ذلك اتجاهات الحكومات في كلا البلدين، ومواقف الرأي العام الداخلي، وإرث الخلافات التاريخية بين الدولتين خلال المرحلة الاستعمارية (1910 -1945م)، التي ما زالت تُلقي بظلالها الكئيبة على علاقات الدولتين. وبالرغم من ذلك وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، تطورت العلاقات بين البلدين بشكل إيجابي، وكأن الرياح كانت تهبُّ لصالحهما، ولاسيَّما في ظلّ التهديدات المشتركة من كل من الصين وكوريا الشمالية، وهو ما دفعهما نحو إبداء نوع من التوافق في قضايا الأمن الإقليمي، وإنشاء منصاتٍ ملموسة للاحتفال بنجاحات العقود الستة الماضية، وتمهيد الطريق لتعاون أعمق مستقبلًا في شمال شرق آسيا.
بالطبع كان للعوامل المشتركة دور أكبر في تحريك العلاقات بين سيؤول وطوكيو نحو الوئام المستقر، ولكن كان لمشاركة الولايات المتحدة ودورها في قيادة النظام الإقليمي في شرق آسيا بعيدًا عن الصين، تأثير واضح أيضًا على مسار هذه العلاقات؛ فمنذ ما يقارب 60 عامًا دفعت واشنطن الطرفين نحو القبول بتطبيع العلاقات الدبلوماسية، مرورًا بتأثيرها المباشر وغير المباشر على توقيع اتفاقيات عدة، خَففت من قضايا التوتر التاريخي بين الدولتين سواء في عام 2015م بشأن قضية «نساء المتعة»، أو عبر توقيع اتفاقية الأمن العام للمعلومات العسكرية (GSOMIA) بين كوريا الجنوبية واليابان في نوفمبر 2016م. ومع دخول الولايات المتحدة والصين مع ما بات يُعرف بحقبة »الحرب الباردة الجديدة«، تعمل واشنطن على بناء تحالف مناهض لبكين، مع دول في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك كوريا الجنوبية واليابان، وفي أغسطس 2023م، وقعت كوريا والولايات المتحدة واليابان اتفاقيات في كامب ديفيد، بهدف رفع مستوى العلاقة إلى ما يمكن اعتباره تحالفًا شبه عسكري.
اليوم ومع اقتراب حلول الذكرى الستين لتوقيع معاهدة إقامة علاقات دبلوماسية بين كل من سيؤول وطوكيو، ومحاولات التقارب الأخيرة التي سادت العلاقات الثنائية، فإن هذا التقارب قد لا يصمد أمام ذاكرة التاريخ والتطورات السياسية التي يمر بها البلدان؛ إذ تواجه كوريا الجنوبية أزمة سياسية غير مسبوقة، منذ حادثة الأحكام العرفية في ديسمبر عام 2024م، وإقرار مشروع قانون العزل وتعليق عمل الرئيس يون سوك يول. وفي اليابان خسر «الحزب الديمقراطي الحر» الذي هيمن – مع استثناءات قليلة- على حكم البلاد منذ عام 1955م، بأغلبيته في انتخابات مجلس النواب لعام 2024م، حاصدًا بذلك نقمة الشارع وغضبه، بسبب التضخم المتصاعد والتباطؤ الاقتصادي في اليابان.
في هذا السياق، وفي حال جرت الانتخابات الرئاسية لكوريا الجنوبية في موعدها عام 2027م، أو حدثت تغييرات سياسية مبكرة، فثمَّة احتمال كبير لعودة القوى التقدمية، التي تتبنّى مواقف قومية أكثر حدة تجاه طوكيو، ومن بينها احتمال فوز «الحزب الديمقراطي التقدمي» المعارض، والذي يُصنّف ضمن التيار اليساري القومي، ويتزعّمه السياسي لي جاي ميونغ. عودة هذا التيار إلى السلطة قد تعني تَبَنِّي نهج أكثر صدامية تجاه اليابان، وإعادة تقييم لعلاقة الدولة الكورية مع الولايات المتحدة، خاصة في ظلِّ مواقف الحزب الانتقادية للتحالفات الأمنية القائمة.
فيما تقف اليابان أمام حالة من الاستقطاب الداخلي وهشاشة في التوافق السياسي داخل البلاد، وتنظر في المقابل بتوجس ما بين التشاؤم والتفاؤل الحذر لعواقب عزل الرئيس الكوري الجنوبي يول، ومستقبل الانتخابات الرئاسية لدى جارتها الغربية. وبالتالي تفرض الحالة الراهنة للسياسة الداخلية في كل من سيؤول وطوكيو ضغوطًا قد تُهدد الإنجازات التي تحققت مؤخرًا في إطار تعاونهما الثنائي، وتؤدي إلى تراجع التحسن في العلاقات الثنائية، الذي تحقق في عهد إدارة يول السابقة.
كذلك قد تجد سيؤول وطوكيو نفسيهما أمام أولويات متغيرةلحليفهما التاريخي الأمريكي، في ظلِّ عودة إدارة الرئيس دونالد ترامب. وكان ترامب قدأظهر في ولايته الأولى ميلًا إلى تقليص الالتزامات الأمريكية التقليدية تجاه الحلفاء، مطالبًا شركاء واشنطن بتحمل أعباء أمنهم بأنفسهم، وركز خلال ولايته تلك على الصفقات الثنائية أكثر من التعاون المتعدد الأطراف، وتقارب مع كوريا الشمالية وروسيا. وفي سياق ولاية ترامب الثانية، تُواجه الآلية الثلاثية بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية تحديات متزايدة، وتُخيّم سحابة من عدم اليقين والشكوك حول هذه الشراكة؛ جراء توجسات القيادتين الكورية واليابانية من سياسات ترامب المتقلبة وغير المتوقعة إزاء حلفاء واشنطن، واحتمالية أن ينعكس ذلك على شكل خلافات داخلية، تتعلق بتقاسم تكاليف القوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة، والميزان التجاري، وقرار ترامب وسياسته التجارية بشأن فرض تعريفات جمركية إضافية على الواردات الدولية إلى الولايات المتحدة، التي أضافت شعورًا متناميًا لدى كل من سيؤول وطوكيو وغيرهما من الدول، بتراجع دبلوماسية القيم في المجتمع الدولي بشكل عام.
وتزداد المخاوف مع طريقة تعامل ترامب غير التقليدية مع قوى مثل كوريا الشمالية والصين وروسيا، ومنظوره الذي ظهر جليًا خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، في عدم وجود ترابط بين مسارح الأمن الأوروبية الأطلسية والمحيطين الهندي والهادئ، على خلاف منظور الحكومتين الكورية الجنوبية واليابانية، اللتان تعتبران أن طبيعة التسوية في أوكرانيا ستنعكس مباشرة على أمن شرق آسيا. جميع هذه العوامل تُضعف منسوب الثقة المتبادلة بين سيؤول وطوكيو من جهة، وبينهما تجاه واشنطن من جهة أخرى.
تفرض جملة الحقائق السابقة على كل من سيؤول وطوكيو إعادة تشكيل أولوياتهما تجاه علاقاتهما الثنائية، وتجاه مصالحهما المختلفة في شرق آسيا؛ لتثبيت أسس التعاون وردم الفجوات، وتظهر هذه القراءة بشكل جلي وواضح في إحدى الإحصائيات التي نشرها معهد دراسات الشرق الأقصى في جامعة كيونغنام، والتي أشارت إلى أن العلاقات بين الكوريين الجنوبيين مع اليابانيين من جهة، وبين هاتين الدولتين والإدارة الأمريكية الجديدة من جهة أخرى، معرّضة للاهتزاز والتقلبات، أمام تحديات الداخل وتقلبات الأوضاع في الخارج، ما يستدعي جهودًا دبلوماسية وقائية، للحفاظ على المكتسبات الحساسة التي جنتها الدولتان خلال السنوات القليلة الماضية. وفي المقابل، فإن لإدارة ترامب أيضًا مصلحة مماثلة، ليس في تفادي انفراط التحالف الأمني الثلاثي بشأن أمن شرق آسيا فحسب، وإنما أيضًا لتفادي تعزيز فكرة توحيد حلفاء الولايات المتحدة وأعدائها ضد سياسيات ترامب الخارجية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد