توجَّه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في 20 أغسطس 2020م إلى مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، بناءً على طلب من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، من أجل تقديم شكوى رسمية إلى رئيس مجلس الأمن، متّهِمًا إيران بانتهاك الاتفاق النووي لعام 2015م، وذلك في إطار تفعيل آلية «سناب باك» أو آلية «العودة التلقائية إلى العقوبات»، المنصوص عليها في القرار 2231.
وقد جاءت هذه الخطوة بعدما أخفقت الولايات المتحدة في تمرير قرار من مجلس الأمن الدولي في 18 أغسطس 2020م، كان يهدف إلى تمديد حظر السلاح المفروض على إيران، والمقرَّر أن ينتهي في 18 أكتوبر 2020م.
لا شكّ أنّ هذا التطوُّر يثير عددًا من التساؤلات الخاصّة بملفّ إيران والتعاطي الدولي معه، أهمّها ماهية آلية «سناب باك»، والإشكاليات التي تواجه تفعيلها، وفُرص تفعليها، وردود فعل إيران على ذلك؟
وفي إطار الإجابة عن هذه التساؤلات، يمكن التطرُّق إلى العناصر الآتية:
أوّلًا: الولايات المتحدة ودوافع تفعيل آلية «سناب باك»
تعني كلمة «snapback» في اللغة الإنجليزية الارتداد السريع أو المفاجئ، أو العودة إلى وضع سابق، وقد وردت هذه الآلية في البندين 11 و12 من قرار مجلس الأمن رقم 2231، الذي صدر بعد التوصُّل إلى الاتفاق النووي بين القوى الكبرى وإيران عام 2015م، الذي رُفِعت بموجبه العقوبات التي كانت مفروضة على طهران، وبالتالي هي تعني في هذا المقام «العودة التلقائية إلى العقوبات». ولطالما كانت هذه الآلية مجال فخر إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، كونها أعطت الولايات المتحدة حقّ العودة التلقائية لفرض العقوبات على إيران.
وتمنح هذه الآلية أيّ دولة طرف في الاتفاق النووي المُبرَم مع إيران في 2015م الحقّ في أن تلجأ إليها لإعادة فرض العقوبات على إيران، إذ تنُصّ المادة 11 من القرار 2231 على أنّه «في غضون 30 يومًا من تلقِّي إخطار من دولة مشاركة في خطَّة العمل تبلِّغ فيه بمسألة ترى أنّها تشكِّل إخلالًا كبيرًا بالالتزامات المنصوص عليها في خطَّة العمل، سيُصوَّت على مشروع قرار بشأن استمرار سريان أحكام الإنهاء المبينة في الفقرة 7 (أ) من هذا القرار، ويقرر كذلك أنه إذا لم يقدِّم أيّ عضو من أعضاء مجلس الأمن، في غضون 10 أيّام من تاريخ الإخطار المذكور أعلاه، مشروع قرار من ذلك القبيل للتصويت عليه، فسيقدِّم رئيس مجلس الأمن عندئذ مشروع القرار ويطرحه للتصويت في غضون 30 يومًا من تاريخ الإخطار المذكور أعلاه، ويعرب عن اعتزامه أن يأخذ في الحُسبان آراء الدول المعنية بالمسألة، وأيّ رأي بشأن المسألة تُبديه الهيئة الاستشارية المنصوص عليها في خطَّة العمل».
ورغم أنّ الولايات المتحدة قد انسحبت من الاتفاق النووي في 08 مايو 2018م، لكنّها تسوِّق عددًا من الدفوع القانونية التي تسمح لها بتفعيل الآلية، وأهمّها أنّ نصّ البندين 11 و12 من قرار مجلس الأمن رقم 2231، اللذين يُعطيان المشاركين في خطّة العمل المشتركة ومنهم الولايات المتحدة حقّ استخدام آلية «سناب باك»، وأنّ قرار الولايات المتحدة الصادر في 08 مايو 2018م بوقف أداء الالتزامات التي كانت عليها بموجب خطَّة العمل المشتركة الشاملة، ليس له أيّ تأثير على حقوق والتزامات الولايات المتحدة بموجب القرار 2231، إذ تحتجّ الولايات المتحدة بالفصل بين صفة الدولة «المشاركة» المنصوص عليها في القرار الدولي رقم 2231، وهي دائمة، وبين الانسحاب من الاتفاق، فحقّها كمشارك في القرار شيء موجود بشكل مستقلّ عن انسحابها من خطَّة العمل الشاملة المشتركة.
ويضيف الطرف الأمريكي أنّ منطوق الفقرة ذات الصلة لا يقول إنّ الانسحاب من الاتفاق يفقدها صفة الطرف المشارك. على هذا الأساس، توجَّه بومبيو يومَي 20 و21 أغسطس إلى مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، وسلَّم رسائل إلى كلٍّ من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ورئيس مجلس الأمن، أخطرهما فيها بأنّ الولايات المتحدة تشرع في استعادة جميع عقوبات الأمم المتحدة تقريبًا على إيران، التي رُفِعَت بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231.
ومن خلال نجاح الولايات المتحدة في مسعاها، فإنّه سيُعاد فرض نطاق واسع من عقوبات كانت مفروضة ما قبل توقيع الاتفاق النووي في 2015م، وإعادة الآثار المدمِّرة للقرارات الستّة 1835، 1803، 1929، 1747، 1737، 1669، ومنها حظر بيع السلاح إلى إيران، ونظريًّا سيكون إنفاذ تلك العقوبات القديمة لازمًا على جميع أعضاء الأمم المتحدة.
وتقف خلف مساعي الولايات المتحدة لتفعيل آلية «سناب باك» عدَّة عوامل، أهمّها ما يأتي:
1. تقويض الاتفاق النووي: وهو هدف رئيسيّ ووعد انتخابيّ لترمب، لا سيّما أنّ بقاء الصفقة النووية يوفِّر مركزًا قانونيًّا ومكاسب سياسية ودبلوماسية لإيران، فمن الواضح أنّ إدارة ترمب عازمة على تقويض الصفقة النووية تمامًا قبل الانتخابات الأمريكية، والضغط من أجل سحب طهران إلى طاولة التفاوُض.
2. خطورة رفع حظر السلاح عن إيران وتنفيذ صفقات مع روسيا والصين: أفاد التقرير السنوي لوكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية (DIA) المفوَّض من قِبل «الكونغرس» لتقييم القوّة العسكرية لإيران لعام 2019م، والذي صدر في نوفمبر 2019م، بأنّ إيران تريد «شراء أنظمة أسلحة متقدِّمة جديدة من المورِّدين الأجانب لتحديث قوّاتها المسلَّحة، بما في ذلك المعدَّات التي لم تتمكَّن إلى حدٍّ كبير من الحصول عليها لعقود»، كما يُقيِّم التقرير نفسه حظر السلاح المفروض على إيران بأنّه لم يكُن فعّالًا، إذ يشير التقرير إلى أنّ إيران تقدِّم مجموعة واسعة من الأسلحة والمعدَّات العسكرية إلى جهات حكومية وغير حكومية، بما في ذلك المنظَّمات الإرهابية في مختلِف دول المنطقة. أيضًا تخشى الولايات المتحدة تنفيذ روسيا والصين لصفقات سلاح لإيران بعد انتهاء الحظر، فضلًا عن تصدير طهران للسلاح لميليشياتها، بما يعظِّم من خطر إيران ويهدِّد الاستقرار الإقليمي. واستشهدت الولايات المتحدة بقضية انتهاء حظر السلاح، لتأكيد نظرتها بأنّ خطَّة العمل المشتركة برمّتها كانت معيبة، بل زادت من خطر إيران، وهو ما يتوجَّب إنهاءها عبر «سناب باك».
3. الحاجة إلى فرض واقع دوليّ جديد تجاه الأزمة مع إيران: كان عدم وجود توافُق دوليّ حول السياسة الأمريكية تجاه إيران من أكبر التحدِّيات التي واجهت إستراتيجية الضغوط القصوى، وظهر ذلك بوضوح عندما طرحت الولايات المتحدة القضية أمام مجلس الأمن خلال صيف 2020م، إذ ظهر أنّ هناك خلافات عميقة ربما أكبر من ملفّ إيران، وقد حالت هذ الخلافات بدورها دون تشكيل إجماع دوليّ ضدّ إيران، وهو ما تُرجم في النهاية من خلال رفض مشروع القرار الأمريكي في 14 أغسطس 2020م، بتمديد حظر السلاح المفروض على إيران بأغلبية كبيرة.
4. ضغوط الحلفاء الإقليميين على الولايات المتحدة بتكثيف ضغوطها على إيران: فقد تزايدت الضغوط في الفترة الأخيرة نتيجة خطورة رفع حظر السلاح المفروض على إيران، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وانعكاسات ذلك على الأمن الإقليمي.
ثانيًا: إشكاليات تفعيل آلية «سناب باك»
من الناحية النظرية تبدو عملية استعادة العقوبات مسألة إجرائية محدَّدة بمدَّة ثلاثين يومًا، الأمر الذي يمكِّن الولايات المتحدة من تدمير الصفقة النووية، ووضع إيران في ظروف مماثلة للظروف التي سبقت توقيع الاتفاق النووي في 2015م، وذلك تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. لكن تواجه المساعي الأمريكية عدَّة إشكاليات، أهمّها:
1. إشكالية قانونية: تتعلَّق بمدى حقّ استخدام الولايات المتحدة لآلية فضّ المنازعات، فإيران وبقية أطراف الاتفاق النووي يدفعون بأنّ الولايات المتحدة قد انسحبت من الاتفاق النووي في 08 مايو 2018م، ولم تعُد وفقًا لوثائقها وبياناتها الرسمية «مشاركًا في خطَّة العمل الشاملة المشتركة»، وبالتالي لا يحقّ لها استخدام آلية فضّ المنازعات، استنادًا إلى القرار 2231، فهي بالأساس لم تعُد طرفًا مشاركًا بإعلان انسحابها من الخطَّة، وبالتالي لا تملك أيّ صفة لاستدعاء هذا البند.
2. تحدِّي القوى الدولية مساعي الولايات المتحدة: فقد أعلنت 13 دولة في عضوية مجلس الأمن، من ضمنها أربع دول أعضاء دائمون وتسع دول غير دائمة العضوية، معارضتها للطلب الأمريكي بتفعيل آلية «سناب باك» فور تقديمه، واعتبرته بلا أساس قانونيّ. من جانبها ادّعت إيران بأنّ الولايات المتحدة لا تتمتَّع بصلاحية من الناحية القانونية لتفعيل آلية «سناب باك»، وأعلنت الترويكا الأوروبية في بيان مشترك رفض الخطوة الأمريكية، وبرَّرت ذلك بأنّ الولايات المتحدة فقدت أهلية تفعيل آلية «سناب باك»، وأن هذه المبادرة «لا تتجانس» مع جهودهم الراهنة للمحافظة على «خطَّة العمل الشاملة»، وأنّها تضُرّ بالإجراءات والمؤسَّسات التي تشكِّل أُسُس التعدُّدية، وتحديدًا المحافظة على وحدة وسلامة مجلس الأمن الدولي، وهو ما ينذر بوجود أزمة بين الولايات المتحدة والقوى الدولية داخل أروقة مجلس الأمن.
3. عدم وجود جهة منوط بها حسم الخلاف حول أهلية الولايات المتحدة لتفعيل آلية «سناب باك»: في ظلّ هذا الخلاف، ولا سيّما الموقف الصلب من روسيا والصين الرافض لتفعيل الآلية، وكذلك موقف القوى الأوروبية وبقية أعضاء مجلس الأمن، تبدو إشكالية أُخرى في من يقرِّر أحقِّية الولايات المتحدة في تحريك آلية «سناب باك» من عدمه، وقد تتّجه الأمور نحو مجلس الأمن نفسه، الذي تملك فيه الولايات المتحدة حقّ الفيتو بما يمنع تمرير قرار يعتبرها طرفًا غير مشارك، وبالتالي لا تملك أحقِّية استخدام الآلية، وقد تتّجه الأمور أيضًا في حالة الخلاف العميق والتصعيد إلى استنزاف مزيد من الوقت، وذلك قبل احتمال اللجوء إلى طلب تفسير قانونيّ من محكمة العدل الدولية. فوفقًا للمادَّة 96-أ من ميثاق الأمم المتحدة، فإنّ لأيٍّ من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلب من محكمة العدل الدولية إفتاءه في أيّ مسألة قانونية، وهو الأمر الذي قد يستغرق وقتًا أكبر، يتكرَّس خلاله واقع جديد يخُصّ ملفّ بيع السلاح لإيران، بل ملفّ إيران ككُلّ، وهو أمر لن تقبله الولايات المتحدة.
4. تحوُّل ملف إيران إلى ورقة لتسوية الخلافات بين القوى الدولية: أصبح ملفّ إيران مجالًا لاستقطاب كبير بين القوى الدولية الرئيسية على الساحة الدولية، هذا الاستقطاب يتخطَّى الخلاف حول تمديد حظر السلاح على إيران، ليصل إلى ورقة يوظِّفها بعض هذه القوى كروسيا والصين، بل وبعض الأطراف الأوروبية، وتستفيد منها إيران، وذلك في إطار خلافات عميقة بين هذه القوى والولايات المتحدة حول طبيعة وهيكلية النظام الدولي الراهن، باعتبار الأزمة الراهنة فرصة لتحدِّي القيادة المنفردة للولايات المتحدة ورفض الأُحادية الأمريكية، فضلًا عن مقاومة الضغوط والعقوبات التي تمارسها على هذه الأطراف كافّة، وهو ما يدفعها إلى جعل ملفّ إيران محاولة لكسر هذه القواعد والضوابط، في طريقها نحو الانتقال إلى تعدُّدية جديدة، ونظام ودور مختلف على الساحة الدولية.
5. حدود التزام العقوبات على إيران دوليًّا: تبدو إشكالية أخيرة مرتبطة بتعاطي المجتمع الدولي والتزامه العقوبات الدولية، حال عودتها بعد تمرير قرار من مجلس الأمن وفق الإدارة الأمريكية، إذ إنّ التعاوُن الدولي حول تنفيذ هذه العقوبات قد لا يكون فعّالًا بدرجة كافية، وهذه إشكالية عملية، إذ سينتقل الخلاف القانوني والخلاف السياسي، الذي يقف خلفه، إلى الاختبار على أرض الواقع، لا سيّما أنّ روسيا والصين لديهما عقود لمبيعات أسلحة إلى إيران، ولم يعُد لديهما الشكوك الأمريكية ذاتها في سلوك إيران النووي، وتنظران إلى إيران كحليف مُحتَمل ومضمون في منطقة حيوية من العالم، فضلًا عن احتمال استمرار تمسُّك إيران بالصفقة النووية، رغم تفكيك مكتسباتها، وبالتالي استمرار تمسُّك الأوروبيين من جانبهم بها، على أمل حدوث تغيير في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة.
ثالثًا: فُرَص استعادة العقوبات.. وخيارات إيران
1. استعادة العقوبات: على الرغم من الإشكاليات الموضَّحة أعلاه، فإنّ تصميم آلية فضّ المنازعات ضمن القرار 2231 كان فعّالًا لدرجة يصعب معها تعطيل المساعي الأمريكية، وبالتالي قد لا يمكن منع الولايات المتحدة من استعادة فاعلية العقوبات الدولية على إيران في نهاية المطاف. كما أنّ بوسع الولايات المتحدة رفض أيّ قرار من مجلس الأمن خلال الثلاثين يومًا بإنهاء العقوبات المفروضة على إيران، حسب اتفاق 2015م، وحتّى في حال قرَّرت روسيا والصين تمرير قرار ينُصّ على حقّ الولايات المتحدة في استخدام آلية «سناب باك»، فإنّ الولايات المتحدة قد تستخدم حقّ النقض، لتأخذ الآلية طريقها نحو التفعيل خلال ثلاثين يومًا، ويُعاد العمل بالعقوبات تلقائيًّا.
وقد تنحاز أيّ من الدول الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي إلى الولايات المتحدة في حال وصلت الأمور إلى طريق مسدود، لا سيّما أنّ بومبيو قد صرَّح بأنّ الدول الأوروبية تتّفق مع الولايات المتحدة على خطورة رفع الحظر عن السلاح المفروض على إيران، ولديها موقف مختلف خلف الأبواب المغلقة، وتحسم دعوة أيّ طرف أوروبي لتفعيل آلية فضّ المنازعات الجدل الدائر حاليًّا.
ولا شكّ أن تفعيل «سناب باك» بعودة العقوبات مع نهاية سبتمبر المقبل سوف يثير جدلًا واسعًا داخل أروقة مجلس الأمن، وخلافًا بين القوى المشاركة في الاتفاق، واحتمال وجود حالة غموض حول آليات وكيفية تطبيق العقوبات ومدى التزام كل الأطراف، وقد تصل الخلافات إلى موعد الانتخابات الأمريكية، واحتمال حدوث تغيير في القيادة الأمريكية، بما قد يدفع باتّجاه إعادة النظر في مسألة عودة العقوبات.
يدعم هذا السيناريو كذلك عدم وجود بدائل متاحة لدى الأطراف المعارضة للمبادرة الأمريكية، والرفض الأمريكي لأىّ حلول وسط، بالإضافة إلى التصميم الأمريكي على المُضيّ قُدُمًا في هذا المسار، الذي سيحقِّق رغبة ترمب في إنهاء فاعلية الاتفاق النووي، بجانب وجود ضغوط دولية وإقليمية واسعة النطاق لمعاقبة إيران على تجاوُزاتها النووية، وتطوير برنامج صواريخها الباليستية، وسلوكها المرتبط بالإرهاب على الساحة الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى تنامي المخاوف من سلوك إيران الإقليمي واتّساع دائرة نفوذها، ونهجها في دعم الميليشيات وتعميم الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، وهى المشكلات التي قد تتفاقم مع منح إيران الحقّ في شراء الأسلحة وتعزيز قُدراتها العسكرية، وكذلك زيادة فُرص تصدير الأسلحة إلى الميليشيات والجماعات، بما يخلّ بالأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
2. عدم استعادة العقوبات: يُوجَد سيناريو آخر هو عدم تمكُّن الولايات المتحدة من تفعيل آلية «استعادة العقوبات تلقائيًّا»، باعتبار الولايات المتحدة لم تعُد طرفًا مشاركًا في الاتفاق، وقد حذَّر مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون من أنّ محاولة إدارة ترمب إعادة فرض العقوبات من خلال آلية «سناب باك» قد تقوِّض حقّ النقض في مجلس الأمن في ما بعد، أو عدم إثبات وجود انتهاك جسيم من قِبل إيران، لا سيّما أنّ إيران تحتجّ بتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية، التي أفاد أغلبها بوفاء إيران بالتزاماتها في إطار الاتفاق النووي، كما قد تواجه الولايات المتحدة عقبات إجرائية من أجل تفعيل الآلية داخل مجلس الأمن.
وهذا السيناريو سيكون بمثابة خسارة كبيرة لترمب، وضربة مؤثِّرة لإستراتيجية الضغوط القصوى، وانتقاص من مكانة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، فضلًا عن أنّ خصومه الديمقراطيين سيُوظِّفونها قُبيل الانتخابات لتأكيد فشل سياسات ترمب الخارجية، لكنّه احتمال صعب، إذ ستستخدم الولايات المتحدة مزيجًا من القوّة والقانون لإنفاذ بند واضح في القرار 2231، حتّى لو شكَّكت فيه أطراف الاتفاق الأخرى.
جدير بالذكر أنّ عدم القدرة على استعادة العقوبات تلقائيًّا سيدفع الإدارة الأمريكية إلى استخدام آلية العقوبات لردع أيّ مبيعات أسلحة لإيران، وهي تشمل قانون حظر انتشار الأسلحة بين إيران والعراق، وقانون حظر انتشار الأسلحة الإيرانية وكوريا الشمالية وسوريا (INKSNA)، والأمر التنفيذي رقم 13382، وقانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات، وتصنيف إيران كدولة راعية للإرهاب، الأمر الذي يوفِّر للرئيس سُلطات لفرض عقوبات على مورِّدي الأسلحة لإيران. وبدلًا من ذلك، قد تحاول الولايات المتحدة إثناء بائعي الأسلحة المحتملين لإيران عن إتمام أيّ مبيعات.
3. عودة العقوبات قانونيًّا مع عدم الالتزام الدولي: بحيث تعود العقوبات قانونيًّا لكن لا تُلتزَم فعليًّا، وذلك من خلال عدم وجود تعاوُن دوليّ كافٍ لتطبيق العقوبات الأُممية، بما يجعل اللجوء إلى هذه الآلية عديم الفائدة. وسيكون ذلك في حالة وجود رغبة من القوى الدولية الرئيسية في تقويض تحرُّكات الولايات المتحدة أُحادية الجانب على المستوى الدولي، وتغيير في هياكل القوى، بما يحدّ من الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.
لكن هذا السيناريو يعتمد على مدى قُدرة القوى الدولية على تحدِّي الولايات المتحدة، وإمكانية تقديم مبادرة بديلة يقبل بها جميع الأطراف، يمكن من خلالها تمديد حظر السلاح المفروض على إيران مع الحفاظ على خطَّة العمل المشتركة، فضلًا عن تحمُّل هذه الأطراف تبعات مواقفها، ومواجهة العقوبات الأمريكية في حال السماح لإيران بخرق العقوبات الأُممية، وكذلك تغاضيها عن مواقف القوى الإقليمية الرئيسية الداعمة للإستراتيجية الأمريكية، والرافضة لسلوك إيران، مما قد يخلق أزمة إقليمية قد تمتدّ تداعياتها إقليميًّا ودوليًّا، بما يطال مصالح هذه القوى الدولية نفسها.
4. التداعيات وخيارات إيران المحُتمَلة: في حالة إخفاق الولايات المتحدة في تفعيل آلية «سناب باك»، أو عدم فاعلية العقوبات بعد استعادتها، فإنّ إيران ستكون قد أخذت دفعة قوية للاستمرار في سياساتها التدميرية داخليًّا وخارجيًّا، وهو خيار مُستبعَد حتّى من الديمقراطيين أنفسهم، إذ إنّ المُستقَرّ هو أنّ إيران باتت تشكِّل خطرًا لا بُدّ من مواجهته، ليس من الولايات المتحدة، بل من الأطراف الأوروبية وعدد من القوى الإقليمية والدولية كذلك.
أمّا في حال استعادة العقوبات الدولية، وهو السيناريو المُرجَّح، فسيكون الاتفاق النووي قد تعرَّض لانتكاسة كبيرة، وستكون إيران في مواجهة ضغوط دولية واسعة النطاق، إذ لم تعُد الضغوط أمريكية من جانب واحد، ومع هذه التطوُّرات المُحتَملة ستكون هناك عدَّة خيارات أمام إيران، أهمّها تفعيل الأدوات القانونية والدبلوماسية لإحباط مساعي الولايات المتحدة بتفعيل آلية «سناب باك»، والتعاوُن مع الدول الرافضة لسلوك الولايات المتحدة، بالتوازي مع محاولة كسب الوقت والرهان على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2020م، ونجاح الديمقراطي جو بايدن منافس ترمب، وحدوث تغيير في التعاطي الأمريكي مع ملفّ إيران، واحتمال العودة الأمريكية إلى الاتفاق النووي، أو تشجيع القوى المعارضة للولايات المتحدة على الساحة الدولية على عدم التجاوُب مع العقوبات وإفراغها من مضمونها.
وقد تلجأ إيران إلى توظيف بعض أوراقها عبر متابعة برنامجها النووي وفق خططها الخاصّة، وإعادة جميع الأنشطة النووية إلى مستويات ما قبل عام 2015م، وذلك باستخدام أجهزة الطرد المركزي من الجيل IR4 وIR6 وIR8 لأغراض التخصيب. وكذلك الإسراع في عمليات صناعة الوقود النووي، مع احتمال الإعلان عن الانسحاب من الاتفاق النووي، لكن هذا خيار غير مؤكَّد، نظرًا إلى حاجة إيران إلى الاتفاق في جهودها القانونية والسياسية والدبلوماسية لمواجهة الولايات المتحدة.
لكن مع نجاح ترمب، الذي يقول إنّه سينجح وسيوقِّع اتفاقًا مع إيران في غضون 30 يومًا، فإنّ إيران ستكون في مواجهة ضغوط شديدة الوطأة، وسيكون إصرار النظام على سياسة المواجهة وتحدِّي الضغوط مؤثِّرة، لدرجة احتمال اتجاه النظام نحو الانهيار، إذ أوصلت العقوبات الأمريكية أُحادية الجانب وحدها طهران إلى مرحلة شديدة القسوة، ووضع سياسيّ واقتصاديّ كارثيّ لم تشهده إيران منذ الثورة.
وسيكون الأمر أكثر صعوبة مع تدمير ما تبقَّى من الاتفاق النووي، واستعادة كل العقوبات الدولية وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذا ما قد يدفع النظام نحو خيار حتميّ، وهو التفاوُض والتفاهُم حول اتفاق جديد.