سوريا في ظل التصعيد الإسرائيلي الراهن.. خيارات الأسد ومواقف القوى السورية الفاعلة

https://rasanah-iiis.org/?p=36727

لقد ظلَّت اسرائيل توجِّه ضرباتها إلى سوريا باستمرار، حتى قبل عملياتها في غزة ولبنان، إذ لم يكُن يخلو أسبوع من استهداف إسرائيلي جوِّي أو صاروخي لمواقع الأذرُع الإيرانية أو قواعدها الصاروخية داخل الأراضي السورية. لكن التحوُّل الذي حدث منذ أكتوبر 2023م، لم يكُن أساسه «تغيُّر قواعد الاشتباك»، كما يُطلَق عليها، بقدر ما هو تحوُّلٌ في القرار السياسي لدى حكومة تل أبيب، من خلال توسيع المعركة خارج فلسطين. لذا كان حزب الله في لبنان المرحلة الأولى، ومع الخسائر السريعة لقُوى الحزب وفقدانه لمعظم قياداته وكوادره، تتبادر توقُّعات لدى كثيرين بأنَّ سوريا ستكون هي المرحلة التالية للبنان. من هُنا، رُبَّما فهِمَ كثيرون استهداف الطيران الإسرائيلي قنصلية إيران في دمشق، ولاحقًا مصياف، ثمَّ استهداف آخر لمراكز إيرانية بالقُرب من قاعدة حميميم الروسية، ومؤخَّرًا توسُّع التوغل في الجنوب السوري، كوجه من أوجه امتداد الحرب الإسرائيلية على حزب الله في سوريا. من هُنا، تُطرَح أسئلة عدَّة حول موقف حكومة بشار الأسد، ومواقف القُوى الأخرى، في حال توجيه الأنظار الإسرائيلية نحو الجبهة السورية بشنِّ عملية عسكرية واسعة داخل الأراضي السورية، في إطار ما تراه حربًا إقليمية على إيران وحُلفائها، وتداعيات تلك الحرب على مصالح تلك القُوى وتوازناتها القائمة على الجغرافيا السورية.

في هذا التقرير، نستعرض الدوافع والأهداف الإسرائيلية من توسيع عملياتها في غزة ولبنان وسوريا، وإستراتيجية الأسد في الصراع الراهن، وأخيرًا، آثار التصعيد الإسرائيلي على توازُنات القُوى في سوريا.

أولًا: توسيع نطاق العمليات العسكرية.. دوافع وأهداف إسرائيل في جبهات غزة ولبنان وسوريا

غيَّرت أحداث السابع من أكتوبر 2023م وما تبِعها من إعلان الحرب على قطاع غزة، ثمَّ فتْح إسرائيل جبهة ثانية في لبنان، واحتمال دخول سوريا كجبهة ثالثة، كثيرًا من المُسلَّمات، التي اعْتِيدَت مراقبتها خلال العقود الماضية، في ما يتعلق بإستراتيجية تل أبيب العسكرية وأهدافها وأسلوب إدارتها لعملياتها العسكرية السابقة. في هذ السياق، يمكن الإشارة إلى النقطتين التاليتين:

  1. يبدو أنَّ لدى إسرائيل رغبة في تجاوُز مسألة استعادة الردع، نحو فرْض واقعٍ أمني وسياسي مغاير، حيث تطوَّرت أهداف هذه الحرب على مدار الشهور الأخيرة، من استعادة هيبة الردع إلى محاولة فرْض واقع سياسي وأمني جديد على الأرض، إذ أصبح الهدف الرئيسي، السيطرة على قطاع غزة بالكامل، وتفريغه من سُكّانه، إلى جانب تدمير قُدرات حركة حماس، إلى جانب شنِّ عملية عسكرية واسعة على الجنوب اللبناني وعلى قُدرات وقيادات حزب الله في تلك المنطقة وغيرها، بجانب إشعال الجبهة السورية بضربات معمَّقة ضدّ أهداف عسكرية ومدنية وبُنًى تحتية، طالت مواقع مهمَّة في سوريا، كالقنصلية الإيرانية بدمشق، ومصياف، واللاذقية، والتغلغل الإسرائيلي في منطقة الجولان جنوب سوريا.
  2. زادت إسرائيل وتيرة قصفها على سوريا خلال عام 2024م، مقارنةً بعملياتها خلال الأعوام السابقة، إذ يُعَدُّ العام الحالي هو الأكثر استهدافًا للأهداف التابعة لإيران في سوريا، حيث بلغت ما يقارب 185 هدفًا، في حين بلغ عدد الأهداف عام 2023م نحو 154. ومن بين أبرز الضربات الإسرائيلية على سوريا، تلك التي شُنَّت على منطقة مصياف، واستهدفت خلالها إسرائيل 15 موقعًا عسكريًّا تابعًا لإيران. وتَعرَّض حيّ المزة منذ عام 2016م حتى أكتوبر 2024م، لما لا يقِلّ عن 10 ضربات إسرائيلية، 5 منها خلال 2024م فقط، فيما يُعَدّ شهر أكتوبر 2024 الأكثر استهدافًا للحي خلال العام الحالي، إذ تعرَّض خلال الثلث الأول من هذا الشهر لـ3 ضربات إسرائيلية.

وعمومًا، بالنسبة إلى إسرائيل، تُعَدُّ جبهة سوريا ذات أهمِّية لا تقِلّ عن نظيرتها اللبنانية في الحسابات الإسرائيلية، بخاصّة أنَّ تحرُّكاتٍ وتنقُّلات إسرائيلية جرت في سوريا، من القصف من بُعد إلى عمليات داخل سوريا، على غرار عملية مصياف والجولان السوري. في هذا السياق، تبدو جبهة جنوب سوريا، التي تمتَدّ من أرياف درعا الغربية والشمالية، مرورًا بالقنيطرة وريف دمشق الغربي، مرشَّحةً لتحرُّكاتٍ إسرائيلية أكبر في المرحلة المقبلة لعدَّة أسباب، من بينها وجود بُنْية عسكرية، وخزّان احتياطي من المقاتلين والأسلحة لحزب الله، التي هي جزء من الوجود العسكري الإيراني داخل سوريا، ويستطيع الحزب تفعيل هذه البُنَى عند الضرورة. إلى جانب اهتمام إسرائيل بالجنوب السوري، من المتوقَّع أن تركِّز تل أبيب أنظارها على شمال شرق سوريا، بوابة عبور السلاح والميليشيات الإيرانية إلى الأراضي السورية ثمَّ لبنان. بالتالي، يمثِّل توسيع العمليات من لبنان نحو سوريا هدفًا إسرائيليًّا قادمًا لتعطيل سلاسل إمداد حزب الله، وتدمير البنية التحتية العسكرية الرئيسية، وإضعاف قُدرات حزب الله التشغيلية، وبالتالي تحقيق إستراتيجيتها في فرْض واقعٍ أمني مغاير عن السابق. وقد كانت لافتةً دعوة السياسي الإسرائيلي «المتطرِّف» أفيغدور ليبرمان إلى احتلال الجزء السوري من جبل الشيخ، الذي يشرف على مناطق في البقاع الغربي اللبناني، واتخاذ القوّات الإسرائيلية إجراءات أمنية قُرب قرية حضر غير البعيدة عن مرجعيون.

ثانيًا: إستراتيجية الأسد في الصراع الراهن بين التوازن والمخاطر

مع تصاعُد العمليات الإسرائيلية وتوسع نطاقها واختلاف أهدافها يومًا بعد يوم منذ أكتوبر2023م، ومطاولة الضربات الإسرائيلية للميليشيات الإيرانية وحزب الله في سوريا، وبعد التصعيد الحادّ في الجنوب اللبناني بدءًا بالتفجيرات الإسرائيلية لأجهزة الاتصال اللاسلكية لعناصر حزب الله، ثمَّ الغارات التي استهدفت معظم القيادات السياسية والعسكرية للحزب، وما صاحبها من نزوحٍ جماعي من جنوب لبنان إلى مواقع لبنانية أخرى أو نحو سوريا، ظلّ موقف حكومة الأسد ثابتًا، من خلال الابتعاد عن الانخراط المباشر في المواجهة، سواء من حيث العمليات العسكرية واللوجستية، أو حتى على صعيد التصريحات والمواقف والبيانات الرسمية. وإذا كان موقف النظام السوري تجاه تجنُّب إبداء تجاوُب أكبر مع حركة حماس منذ السابع من أكتوبر مبرَّرًا إلى حدًّ ما، نظرًا إلى ما ساد علاقات الطرفين من توتُّر وتباعُد منذ السنوات الأولى من اندلاع الصراع السوري 2011م، فإنَّ موقفه يبدو مُحيِّرًا منذ أن تحوَّل تركيز إسرائيل نحو لبنان في الأشهر الأخيرة، حيث تَعرَّض حليفه الأقرب، حزب الله، لضربات مدمِّرة لبُنيَته السياسية والعسكرية.

هذه الحيادية الظاهرية تُثير تساؤلات حول كيفية قراءة الأسد للأحداث والصراع الدائر في المنطقة، بين من يُفترَض أنَّهم حُلفاؤه (محور إيران)، ومن يُفترَض أنَّهم أعداؤه (محور إسرائيل)، وتفكيره في إستراتيجيته المستقبلية. ويبدو أنَّه قد مال طرفٌ نحو القول إنَّ ذلك الموقف السوري، يأتي في إطار توزيع المهام والدعم العسكري والمادِّي والمعنوي ما بين أعضاء المحور وفق الإمكانات، بلا دخولٍ مباشر لمعترك الصراع مع إسرائيل. وقد تجلَّى ذلك في غياب الحديث عن القيادة السورية في خطابات محور إيران، إذ ذكرتها «حماس» في بدايات الحرب ثم غيَّبتها، وذكرها الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، مرَّةً أو مرَّتين فقط في خطاباته في سياقٍ عامّ، كالعادة.

في المقابل، يقرأ كثيرون الموقف السوري، في إطار موقفٍ مستجدّ للنظام من خلال هذه الحرب، يتناغم مع سياقات داخلية وإقليمية تحدّ من قُدرة النظام على تقديم دورٍ أكبر باعتباره جزء من هذا المحور، ومن بينها أنَّ التورُّط المباشر في الصراع الراهن لا يخدم مصالحها الإستراتيجية، فلا تزال سوريا تواجه تحدِّيات داخلية كبيرة، كما أنَّها لا تزال في حالة عدم استقرار أمني وسياسي وخضوع سُلطة الدولة لنزاع في بعض مناطقها الشمالية والجنوبية، فضلًا عن أنَّ الانخراط في حرب مع إسرائيل لصالح إيران قد يُعرِّض المكاسب المحدودة، التي حقَّقتها خلال السنوات الأخيرة للخطر. إلى جانب ذلك، لا تزال سوريا تسعى للتعامل مع عمليات إعادة الإعمار ومواجهة العقوبات الدولية، وبالتالي يكون الصمت أو الحياد سعيًا لتجنُّب الأسوأ من هذا الصراع القائم، وهو الاستهداف أو الإسقاط.

الإدراك السوري رُبَّما لحقيقة أنَّ إيران لم تعُد قادرة على تقديم الدعم، كما كان عليه الحال في السابق، خصوصًا مع غياب إيران عن المشاركة في الصراع الحالي ودعمها لحليفها الإستراتيجي حزب الله في الحرب مع إسرائيل، وانشغالها بمشكلاتها الخاصَّة، التي عليها التعامل معها على المستوى المحلِّي، وأيضًا على مستوى صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة، وحرصها في هذا السياق على تجنُّب أيّ تصعيد قد يؤدِّي إلى سقوط نظامها السياسي أو تكبُّدها خسائر اقتصادية إضافية، هو ما يدفع بالنظام السوري، مع جملة هذه المعطيات، إلى تجنُّب الدخول في مواجهة مع إسرائيل.

حياد الأسد يتناغم أيضًا مع المشهد السياسي الإقليمي المتغيِّر ما بعد السابع من أكتوبر 2023م، ورغبته في إعادة تشكيل صورة حُكمه، ليس فقط على المستوى الداخلي، بإظهار أنَّ سياسة النأي بالنفس عن الصراع الجاري قد جنَّبت سوريا، دولةً وشعبًا، مواجهة مُحتمَلة مع إسرائيل من الممكن أن تكون لها تداعيات كارثية قد تزيد سوء الأوضاع السورية الراهنة، وبالتالي مساعدته على استعادة ثقة قواعده الشعبية بقيادته وسُلطته. كما قد يكون ذلك الحياد خطوةً مهمة في إعادة تشكيل صورة حُكم الأسد وقُدرته على موازنة العلاقات بين أطراف إقليمية ودولية متصارِعة، أمام المجتمع الإقليمي والدولي، كطرفٍ يسعى للحفاظ على استقرار المنطقة.

لكن، على الرغم من ذلك، يحمل هذا النهج في طيّاته مخاطر وتحدِّيات عدَّة، لا سيّما أنّ المنطقة على حافَة تغيير كبير في ميزان القُوى، وأنَّ نتائج الصراع الحالي بين إيران وإسرائيل على أراضي المنطقة ودولها، ستكون لها تداعيات على الأسد وحُكمه، حتى مع سياسة النأي بالنفس، التي ينتهجها. إذ إنَّ الحروب دائمًا ما تفرض منطقها على المحيطين بها، والمجاورين لدائرة نارها المندلعة، سواء انخرطوا فيها كأطراف متصارِعة، أو كانوا ضحايا لها، أو رفعوا راية الحياد أو الاعتراض بجوانبه الإيجابية أو السلبية، وسيكون لها في نهاية المطاف آثارها الجانبية، وستترك بصمتها على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للدول المتأثِّرة، في حين أنَّ الآثار السياسية قد تؤدِّي إلى إعادة رسْم التحالفات وتغيير ميزان القُوى الداخلية.

ومن هنا،الراجح من التوقُّعات، أنَّ الحرب ماضية نحو التوسُّع، لا التوقُّف، إذ إنَّ حكومة بنيامين نتنياهو، ومعه المؤسَّسة العسكرية والأمنية، تُبدي رغبةً جامحة في استثمار نافذة الفُرَص المفتوحة أمامه لتفكيك محور إيران وإضعاف ساحاته، خصوصًا تلك التي تقع ضمن نطاق الحلقة الأولى المحاذية لإسرائيل، أو مناطق التَّماسّ، التي تتشكَّل بدرجة أساسية من جبهات جنوب سوريا وجنوب لبنان وشرقه، بالإضافة طبعًا إلى غزة والضفة الغربية، وعدم التوقُّف قبل الوصول إلى نقطة يستطيعون معها تقديم صورة نصر للداخل الإسرائيلي.

كما أنَّ سياسة دمشق الإقليمية المعتادة، ومحاولات إبقاء العلاقات مفتوحة مع جميع الأطراف بلا انحياز كامل لطرف ضد آخَر، والسير على خيط التوازن الرفيع ما بين الدول الحليفة وغير الحليفة، باتت اليوم هذه المقاربة أقلّ فاعلية في ظلّ تصاعُد الصراع السياسي والعسكري في المنطقة.

بالتالي فإن جُملة ما سبق قوله، تُلقي بشكوكٍ حول ما إذا كانت الحكومة السورية لا تزال قادرةً على الصمود أمام هذا التحدِّي، وإبقاء نفسها خارج إطار التأثُّر بالحرب الحالية وتطوُّراتها المستقبلية المُتوقَّعة، وهي شكوك قد تثبت صحتها وقد تنتفي، إذ إنَّها محكومة بمسار المتغيِّرات الإقليمية والدولية.

ثالثًا: آثار التصعيد الإسرائيلي على توازنات القُوى في سوريا

تخضع الجغرافيا السورية لسيطرة من مختلف القُوى الإقليمية والكُبرى، وباتت ساحة صراعات بينية، ارتفعت وتيرتها في ظل الظروف السياسية والأمنية، التي يفرضها التصعيد العسكري الإسرائيلي الراهن على غزة، الذي مضى عليه أكثر من عام، وتوسُّعه أخيرًا إلى لبنان مع احتمال وصوله لاحقًا إلى سوريا. بالتالي، احتمال اتّساع دائرة هذا التصعيد الإسرائيلي نحو سوريا لن يلقي بثقله على طرف دون آخر، ولن تكون إيران هي المعنية به وحدها، بل ستطال مختلف الفواعل والقُوى الأخرى، من بينها روسيا وتركيا، وستُعيد ترتيب توازناتها الحالية في سوريا. وظهَرَ هذا التوجُّس والخشية في عديد من التحرُّكات والقرارات والتصريحات الاستباقية لتلك الدول، المرتبطة بخطورة توسُّع التصعيد، الذي يشمل سوريا إلى جانب لبنان. وكان المتحدِّث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف، حذَّر من أنَّ توسُّع العمليات العسكرية جغرافيًّا في الشرق الأوسط ستكون له عواقب كارثية على المنطقة، تعليقًا على تقارير رجَّحت احتمال أن تشنّ إسرائيل عملية عسكرية برِّية في سوريا. فيما حذَّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من تحرُّكٍ إسرائيلي نحو الأراضي السورية بعد لبنان، واعتبر أنَّه «بمجرَّد احتلال دمشق ستصِل إسرائيل إلى الحدود التركية في شمال سوريا».

تبرُز إيران في مقدِّمة القُوى المتأثِّرة بفعل الموقف السوري والتصعيد الإسرائيلي المقابل، وتتصاعد هُنا التساؤلات حول استمرارية موقف دمشق من «اللا موقف»، الذي يسلكه الأسد بتحييد نفسه وحدوده مع إسرائيل عن التصعيد الإسرائيلي تجاه إيران ونفوذها في سوريا وخارج سوريا. وفي حين كان القبول بالحياد السوري أمرًا ممكنًا حين كانت المواجهة بين طهران وتل أبيب محدودة، إلّا أنَّ ما باتت تشعر به القيادة الإيرانية من مستوى تهديدٍ غير مسبوق نتيجة الضربات التي تلقّاها حزب الله خلال الأشهر الأخيرة، وتزعزُع ما يطلق عليها «إستراتيجية الدفاع المتقدِّم»، ودخول التصعيد الإسرائيلي مع إيران مرحلة متقدِّمة نحو إضعاف الأخيرة ونفوذها المجاوِر للحدود الإسرائيلية، قد يصنع تبدُّلًا في الحسابات الإيرانية نحو فرْضٍ إيراني بتحويل سوريا إلى جبهةٍ جديدة في مواجهة إسرائيل.

وتبرُز روسيا هي الأخرى كإحدى القُوى المراقبة لمسار التصعيد الإسرائيلي الراهن، إذ تُعَدُّ أحد الأطراف الفاعِلة في ميزان القُوى السورية، وتمتلك علاقات جيِّدة مع الأطراف الثلاثة، إيران وإسرائيل وسوريا، تتّسِم بمزيج من المصالح المتناقضة والتوازنات الدقيقة بين أطرافه. وبرَزَ هذا التقاطع في المصالح بين روسيا والأطراف الثلاثة تارةً، وتناقضها تارةً أخرى، بشأن التوافق الروسي-الإيراني إزاء إسرائيل منذ التدخُّل الروسي في سوريا عام 2015م، وحتى ما قبل عملية أكتوبر 2023م، من خلال مصلحة الحفاظ على نظام الأسد باعتباره ركيزة للنفوذين الروسي والإيراني، فيما تراه إسرائيل ضرورة للحفاظ على استقرار حدودها. في المقابل، كان بين الأطراف الثلاثة تناقُض للمصالح، في ما يتعلَّق باحتواء النفوذ الإيراني، إذ نظرت كلٌّ من موسكو وتل أبيب إلى هذه المصلحة من زاوية مختلفة، فموسكو، على الرغم من المصالح المشتركة التي تجمعها بإيران، أصبحت ترى فيها شريكًا مُضِرًّا بدور روسيا في سوريا، ومع ذلك، اقتضت مصلحتها الاحتفاظ بقدرٍ من علاقتها مع إيران دون إنهاء دور الأخيرة بالكامل في سوريا، لحاجتها إلى موازنة قُوى خصوم روسيا، وللمساومة مع خصوم إيران. لذلك شاهدنا كيف تتعاون روسيا مع إيران في سوريا، وفي الوقت نفسه تتغاضى عن القصف الإسرائيلي المتكرِّر لمواقعها.

لكن المعادلة التي كانت قائمة قبل أكتوبر 2023م، غير تلك التي نشأت بعد هذا التاريخ، فمع التطوُّرات الدراماتيكية للعمليات العسكرية الإسرائيلية وتضاعُف ضرباتها ونطاق أهدافها الجوِّية لمواقع وشخصيات إيرانية ولبنانية تابعة للحرس الثوري الإيراني وحزب الله في لبنان وسوريا، باتت موسكو معنية بمراقبة هذه التوتُّرات المتصاعِدة بين إيران وإسرائيل. وعلى الرغم ممّا قد يجنيه هذا التصعيد من فوائد لموسكو في سياق دائرتها الأبعد من الشرق الأوسط، فبالمثل ستواكبه أيضًا جُملة من التحدِّيات والتساؤلات حول موقف موسكو، وكيف ستتصرَّف في حال عمَّقت تل أبيب عملياتها من لبنان نحو سوريا، واستمرَّ تعقُّب الأهداف الإيرانية داخل الأراضي السورية، لكن ليس من خلال الضربات العارِضة والانتقائية، كما جرت العادة خلال الفترات التي سبقت وأعقبت أحداث غزة، بل من خلال حرب مفتوحة، كالتي تجري في لبنان. وهو احتمال قد يضع روسيا أمام خيارات صعبة في المستقبل القريب، وستجِد موسكو نفسها أمام خيارين محتمَلين: الاستمرار في مسارها الراهن الملتزمِ عدمَ اعتراضٍ فعليٍّ للعمليات الإسرائيلية وتمرير الانتقادات العلنية للموقف الإسرائيلي ورفع وتيرتها بين فترةٍ وأخرى، أو التوجُّه إلى زيادة دعمها لخصوم إسرائيل في وقت تتجنَّب فيه التورُّط العسكري المباشر. وهُنا، كانت الزيارات السورية والإيرانية المُتبادَلة مع روسيا لافتة، والدعوة الروسية الأخيرة من نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف لعقد اجتماع جديد حول سوريا بموجب صيغة أستانا قبل نهاية العام الحالي، وهي في غالبها رسالة إلى أكثر من طرف إقليمي بأنَّ إضعاف سوريا أو إيران واعتماد نتنياهو على ضرباتٍ أمنية كُبرى قد تطالهما، وبمساعدة واشنطن، هي تحوُّلاتٌ ممنوعة في الحساب الإستراتيجي الروسي الأوسع.

الموقف التركي من التصعيد الإسرائيلي على لبنان والتحرُّكات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية-السورية، كان لافتًا أيضًا، فتحذير أردوغان من تحرُّكٍ إسرائيلي نحو الأراضي السورية بعد لبنان، واعتباره مقدِّمة لاحتلال دمشق والوصول إلى الحدود التركية في شمال سوريا، بجانب الدعوة التركية للثلاثي الروسي-الإيراني-السوري في دمشق إلى تَحمُّل مزيد من المسؤوليات تجاه هذا التصعيد الإسرائيلي، هي في غالبها رسائل وإشارات على أكثر من جبهة، وبأكثر من اتجاه محلِّي وإقليمي، ومن بينها الحدس التركي بأنَّها لن تكون بمنأى عن مضاعفات الأحداث الكُبرى الجارية في المنطقة، ومحاولة محاصرة الحكومة السورية بما تريده أنقرة والتفكير في مزايا استعادة علاقتها مع تركيا، لحلحلة القضايا العالِقة.

خلاصة

يمكن القول إنَّ سوريا اليوم باتت أمام مرحلة انتقالية متقلِّبة، قد يتغيَّر فيها الوضع بسرعة، اعتمادًا على كيفية تطوُّر الصراع الإقليمي الراهن، وكيفية اختيار الجِهات الفاعلة الخارجية كإيران وإسرائيل للمناورة داخل هذا المشهد الجيوسياسي المعقَّد، والتي يمكن على ضوئها أن يتقرَّر مصير سوريا. فيما تقِف سوريا مرتبكة محكومة بتوازنات وحسابات دقيقة، على الأسد أن يواجهها، فهو عالِقٌ بين المطالب المتنافِسة للقُوى الإقليمية، والضعف الاقتصادي، والحاجة إلى الحفاظ على نظامه.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير