تَعُجُّ الساحة الدولية بعديد من الأزمات السياسية المتتابعة، إذ أصبح تاريخ العصر الحديث عبارة عن أزماتٍ متلاحقة، تمثِّله بدرجة أولى صراعات القوى السياسية الكبرى على الساحة الدولية، ثمَّ التنافس الجيوسياسي للقوى الإقليمية الصاعدة، وانعكاس ذلك على دول العالم وشعوبه كافَّة، عطفًا على ترابُط وتداخُل الاقتصاديات في عصرنا الحديث. وتتفاقم هذه الأزمات في خِضَم محاولات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لتثبيت النظام الدولي القائم، وضمان استمراره أمام القوى الصاعدة.
يقدِّم هذا التحليل قراءةً موجزة للمشاهد السياسية ومتغيِّرات الصراع الروسي-الأوكراني على المستوى الدولي خلال الأسابيع القليلة الماضية، بتناوله ثلاثة محاور: أولًا مستجدّات الأزمة الروسية-الأوكرانية، وثانيًا اتفاقية تصدير الحبوب وتقييم الوساطة التركية، وثالثًا استمرار الدعم العسكري الغربي مقابل محاولات الإبقاء على آمال التهدئة، لنصِل إلى قراءة واستنتاجات محدَّدة حول السياسات المؤثرِّة على الساحة الدولية، خلال الفترة القصيرة الماضية.
مستجدّات الأزمة الروسية-الأوكرانية
لا تزال الحرب سِجالًا بين روسيا وأوكرانيا، ولا تظهر أيّ ملامح للتهدئة في الأُفق القريب. بل إنَّ الأزمة، التي ألقت بظلالها على القِيَم الحديثة للعلاقات الدولية وخرجت عن قواعد النظام الدولي، باتت هي المحكّ لتقييم مستقبل السياسة الدولية، والمدخل للقوى الصاعدة لنيل حيِّز من التأثير الواسع في نطاقات ومجالات جغرافية أخرى.
إثر تصريح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي عبَّر فيه عن شرعية الهجوم على الأراضي الروسية في ظل تطوُّرات الأزمة وطول أمدها، بدا أنَّ الهجمات الجوِّية المتكرِّرة بالطائرات المسيَّرة على أراض روسية، كما حدث في منطقتي كورسك وروستوف الحدوديتين مع أوكرانيا، قد شُنَّت بواسطة كييف، على الرغم من عدم تبنِّي الأخيرة للضربات. وفي حين تستمِرّ روسيا بشنّ الضربات الصاروخية على الأراضي الأوكرانية، وكان آخرها الهجوم على مدينة تشيرنيهيف شمال أوكرانيا، فإنَّ وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت إحباطها لهجوم أوكراني بطائرات مسيَّرة فوق منطقة ستوبينسكي في مدينة موسكو، بينما كانت متّجِهةً نحو العاصمة الروسية.
ويظهر أنَّ إستراتيجية الهجوم المضاد الأوكراني، وإن آتت ثمارها في بادئ الأمر لردع القوات الروسية وبثّ الحماسة في صفوف القوات الأوكرانية رغبةً في تحرير مناطق بالغة الأهمِّية ممّا سيطرت عليه روسيا من الأراضي الأوكرانية، إلّا أنَّ التريُّث الروسي قد يطبِّق الإستراتيجية المُتَّخَذة ضدّه في الأشهر الماضية من قِبَل أوكرانيا وحلفائها الغربيين، والمتمثِّلة في الاستنزاف وإطالة أمد الصراع على الأرض؛ بُغية إنهاك الخصوم. فما زالت الحرب بين مدٍّ وجزر حول المناطق الأوكرانية، التي أعلنت روسيا ضمّها لأراضيها. وبحسب تقديرات تقارير «واشنطن بوست»، فإنَّ الحسم الأوكراني المُبتغَى يبدو بعيد المنال، كما أنَّ الخيارات المُتاحة أمام كييف وعمليتها المضادَّة آخِذة في التقلُّص.
اتفاقية تصدير الحبوب وتقييم الوساطة التركية
تتجلَّى في الجوانب الاقتصادية من الأزمة الروسية-الأوكرانية، معضلة تجديد اتفاق تصدير الحبوب، الذي علَّقت موسكو العمل به منذ منتصف شهر يوليو الماضي، كأبرز المخاطر، التي تحيط بسلاسل الإمداد والأمن الغذائي العالمي، لا سيّما في الدول الأفريقية. وتهدُف الاتفاقية، التي كان للأُمم المتحدة وتركيا أدوار وساطة فاعلة في إتمامها العام الماضي وتجديدها ثلاث مرّات من حينها؛ كي تتيح لسفن شحْن الحبوب العبور الآمن من وإلى الموانئ الأوكرانية المُطِلَّة على البحر الأسود، وهي أوديسا وتشورنومورسك وبيفديني الخاضعة للسيطرة الأوكرانية. غير أنَّ أوكرانيا لم تقِف مكتوفةَ الأيدي أمام التعليق الروسي، وسرَّعت من عملية التفاوض مع جارتها رومانيا؛ ليوقِّع الطرفان اتفاقية تنُصّ على العمل سويًا نحو تحقيق هدف تصدير الحبوب الأوكرانية عبر رومانيا، التي يأمل رئيس وزرائها مارسيل سيولاكو في الوصول إلى تصدير 60% من إجمالي صادرات الحبوب الأوكرانية.
الجانب الروسي وضع شروطًا لتجديد الاتفاقية، مفادها رفع العقوبات الغربية، التي ترى فيها حجر عثرة أمام تطبيق الجزء الثاني من الاتفاقية، والمتعلِّق بوصول الأسمدة والحبوب الروسية إلى الأسواق العالمية. وإذا ما أخذنا العلاقة الروسية-التركية في الحسبان كأحد العوامل الرئيسية في تمكين أطراف الاتفاق من المُضي قُدُمًا في عملية التجديد، فإنَّ مؤشِّرات العلاقة الراهنة بين الطرفين لا تشيء بنتائج إيجابية، على الرغم من تبديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لهذه الاحتمالية.
وقد بدت العلاقة التركية-الروسية في تذبذُبٍ واضح، من بعد فوز الرئيس التركي أردوغان بالانتخابات الرئاسية، وإبدائه ميلًا نحو تعزيز العلاقات مع الغرب، وقبوله انضمام السويد لـ«الناتو»، وتصريحاته المؤيِّدة لانضمام أوكرانيا للحلف، وتسليم أنقرة خمسة قادة عسكريين أوكرانيين لبلادهم على هامش زيارة الرئيس الأوكراني زيلينسكي الأخيرة لتركيا، بعد أن سلَّمتهم موسكو لأنقرة تحت شرط الامتناع عن تسليمهم لبلادهم لحين انقضاء الحرب، فضلًا عن حاجة تركيا لتدفُّق الاستثمارات الغربية؛ للحيلولة دون مزيد من تدهور الاقتصاد والعملة المحلِّية.
استمرار الدعم العسكري الغربي مقابل محاولات الإبقاء على آمال التهدئة
تستمِرّ الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون في تقديم الدعم العسكري لكييف، حيث وافقت واشنطن مؤخَّرًا على نقل طائرات مقاتلة من هولندا والدنمارك من طراز إف-16 الأمريكية إلى أوكرانيا، إذ تأتي الخطوة ضمن تصعيد متزايد في الأزمة، ومع اعتبارٍ لتداعياتها الممكنة واستفزازها للجانب الروسي، الذي لا شكَّ يخشى تقليص فارق التفوُّق الجوِّي مع أوكرانيا. غير أنَّ تدريب الطيارين الأوكرانيين على المقاتلات، قد يستغرق شهورًا عدَّة. وقد أعلنت الولايات المتحدة، على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، عن حزمة مساعدات أمنية لأوكرانيا تبلغ 200 مليون دولار أمريكي، تشمل ذخائر دفاع جوِّي، وصواريخ مدفعية، وقُدرات دفاعية، ومعدَّات إضافية لإزالة الألغام.
ومن جانب آخر، قامت المملكة العربية السعودية باستضافة مؤتمر للسلام حول أوكرانيا أحيت من خلاله الآمال بتفعيل الحوار، وتغليب لغة التهدئة في الأزمة الأوكرانية، وإن حامت الشكوك حيال ما يمكن تحقيقه من خلال الدبلوماسية، في ظل استمرار التصعيد العسكري من قِبَل الجانبين الروسي والأوكراني-الغربي. فالمملكة انطلاقًا من مكانتها الجيوسياسية والاقتصادية ذات الأهمِّية القصوى على المستوى الدولي، تسنَّمت مقعد القيادة في هذه المحاولة، التي تنشُد تقريب وجهات النظر، وإيجاد الحلول السِلْمية. ويمكن تلخيص مكاسب المؤتمر في ثلاث نقاط؛ أولها قُدرة المملكة على الاضطلاع بأدوار الوساطة والتنسيق الفاعلين مع الجانبين الروسي والأوكراني على السواء، كما ثبُت في عمليات تبادُل الأسرى، التي أنجزتها سابًقا، وكما اتّضح في عدد الدول المشاركة في المؤتمر، وثانيًا اغتنام المملكة لعلاقاتها الوثيقة مع الطرفين؛ ما يمكِّنها من تفعيل مُخرَجات الحوار لصالح إمكانيات التهدئة على الرغم من غياب الجانب الروسي، وثالثًا استجابة قوى دولية كُبرى من المعسكر الغربي والمعسكر المحايد، كالولايات المتحدة والصين والبرازيل والهند، ومشاركتهم بتطلُّع لتسريع وتيرة الحلول السِلْمية والإبقاء على آمال السلام، دون إغفال عن ما قد يعنيه ذلك إزاء القوانين والأعراف الدولية.
استنتاجات المتابعة لتطوُّرات الأزمة الروسية وانعكاساتها على الساحة الدولية
من خلال قراءة المشهد السياسي الراهن والمتعلِّق بواقع الأزمة الروسية-الأوكرانية وانعكاساتها على توجُّهات القوى الكُبرى والصاعدة، يمكن الخروج بعدد من الاستنتاجات، كالتالي:
- -يستمِرّ الصراع الروسي-الأوكراني بطريقة تبادُل الأدوار، واتّخاذ إستراتيجيات إطالة أمد الصراع، واستنزاف الخصوم على أرض التشابك العسكري، وكانت القوات الأوكرانية وداعموها الغربيون يعوِّلون على أحداث الشِقاق الداخلي لدى القوات الروسية، إثر انقضاض قوات فاغنر على مناطق روسية. كما أنَّ عملية الهجوم المضادَّة الأوكرانية تبدو بعيدةً عن تحقيق أهدافها المنشودة، عقِب شهرين من انطلاقها. وتستمِرَ القوى الداعمة لكييف، لا سيّما هولندا والدنمارك، في إمدادها بالمقاتلات والدعم العسكري بموافقة أمريكية، فيما يكثِّف المعسكر الغربي من محاولات عزْل روسيا، وإيجاد البدائل لسلاسل الإمداد المُسيطَر عليها من قِبَل روسيا، بالاتجاه نحو رومانيا لتصدير الحبوب الأوكرانية.
- -ينصَبُّ تركيز الولايات المتحدة الأمريكية في سياساتها الخارجية على الجبهة الأوكرانية مع روسيا، لكن ذلك لا يلغي تركيزها بذات القدر على سياسات احتواء الصين، وما ينطوي عليه من تفعيل أدوارها في المحيطين الهندي والهادئ، كما يتبدَّى في حراكها الراهن لتقريب وجهات النظر بين اليابان وكوريا الجنوبية في كامب ديفيد؛ لتوحيد جبهة حلفائها أمام الند الصيني، الذي يدخل في حلقة جديدة من التوتُّر مع تايوان، إثر توقُّف نائب رئيس تايوان في الولايات المتحدة الأمريكية.
- -تضطلع القوى الإقليمية والصاعدة الدولية بأدوار حيوية على الساحة الدولية، إذ قدَّمت المملكة العربية السعودية نفسها كوسيط جدير بالاستحقاق في الأزمة الروسية-الأوكرانية، قادرٍ على جلْب عديد من الرؤى العالمية المختلفة والمتصادمة على طاولة الحوار الدبلوماسي، فيما تُمنِّي تركيا النفس بعلاقات متوازنة مع طرفي النزاع -على الرغم من بوادر الشقاق مع الجانب الروسي- كي تستمِرّ في أدوارها الرامية لتجديد اتفاقية تصدير الحبوب، وتفعيلًا لسياساتها البرغماتية، التي تعي من جهة حاجة روسيا لها، ومن جهة أخرى حاجتها هي للعلاقات السياسية والاقتصادية الفاعلة مع العالم الغربي.
- – تنعكس متغيِّرات الأزمة على دوائر الصراع العالمية المختلفة، وأبرزها مناطق الصراع الأفريقية المشتعلة إثر انقلاب النيجر، والتي غدت تحت وطأة الصراع الدولي، وبين مطرقة قوى العالم الغربي وسندان قوات فاغنر الروسية. وقد أعطت هذه التطوُّرات مزيدًا من الزخم لقمَّة دول بريكس -التكتُّل الاقتصادي متعاظم القوة في النظام الدولي- والتي عُقِدت في جنوب أفريقيا، خصوصًا أنَّ دول المجموعة تضع ضمن أولوياتها الأمن الغذائي وتداعيات الأزمة الأوكرانية على الدول الأفريقية، ناهيك تطرقت القمَّة إلى ملف توسيع عضوية المجموعة، وهو ما يراكم من تحدِّيات النظام العالمي، ويبحث في بدائله المُجدِية، مع ظهور مناطق قوة مختلفة ومتباعدة جغرافيًا تلغي ثُنائية الصراع التقليدي ما بين الشرق والغرب.