«شبكة العنكبوت» والهجوم الروسي الصيفي.. التصعيد والاستنزاف وحدود المسار الدبلوماسي

https://rasanah-iiis.org/?p=37800

بواسطةأحمد السلمي

بعد أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، تبلورَ هذا الصراع إلى حالة تتّسِم بالجمود الاستراتيجي، وحرب استنزاف، وتلاشي الآمال بإمكانية التوصُّل إلى تسوية عبر التفاوض. فالحرب التي بدأت كغزوٍ خاطف، تحوَّلت إلى مواجهة مرهقة تستنزف موارد هائلة، وتُعيد رسْم الخطوط الميدانية وتدفع الطرفين نحو اعتماد متزايد على أدوات غير متكافئة. وبينما تواجه أوكرانيا ضغوطًا متصاعدة نتيجة تراجع الدعم الغربي وشُحّ الموارد، لجأت إلى الابتكار لاستعادة زمام المبادرة. وفي المقابل، توسِّع روسيا أهدافها الإقليمية (التوسُّع داخل الأراضي الأوكرانية)، وتواصل اختبار حدود التصعيد. وفي هذا السياق، جاءت عملية «شبكة العنكبوت» الأوكرانية ومؤشِّرات عودة الهجوم الروسي الصيفي، لتُضيفا مزيدًا من التوتُّرات والاضطرابات إلى مشهد مأزوم أساسًا. يناقش هذا المقال تداعيات التطوُّرات الأخيرة في الحرب الروسية-الأوكرانية، التي دخلت في مسار تصعيد خطير في حرب باتت تُعرَّف الآن بالقدرة على الصمود وتحمُّل كلفة طويلة الأمد أكثر من مجرَّد مناورةٍ عسكريةٍ خاطفة.

في الأول من يونيو 2025م، أطلق جهاز الأمن الأوكراني عملية سرِّية بالطائرات المسيَّرة تحت اسم «شبكة العنكبوت» شكَّلت تصعيدًا ملحوظًا في الحرب. واستهدفت العملية خمس قواعد جوِّية في العُمق الروسي، شملت مورمانسك وريازان وإيركوتسك وإيفانوفو وآمور، وذلك باستخدام طائرات مسيّرة منخفضة الكلفة موجَّهة عن بُعد. وتُشير التقارير إلى أنَّ هذه الطائرات أُدخِلت إلى روسيا عبر شاحنات مدنية، وجرى توجيهها بدقَّة عالية عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، لضرب أهداف عسكرية استراتيجية، من بينها قاذفات بعيدة المدى من طراز «تو-95» و«تو-160» و«تو-22إم3»، إلى جانب طائرات الإنذار المبكِّر «إيه-50». وقد أعلنت أوكرانيا عن ضرب 41 طائرة وتدمير 13 منها، بينما قدَّرت أجهزة الاستخبارات الغربية الأضرار بنحو 20 طائرة متضرِّرة و10 مدمَّرة.

وأظهرت هذه العملية قُدرة أوكرانيا على إيصال ضرباتها إلى عُمق الأراضي الروسية، باستخدام تقنيات زهيدة الثمن وفعّالة؛ الأمر الذي أربك قُدرات روسيا على تنفيذ قصْفٍ استراتيجي، وكشْف ثغرات في منظومة الحماية الجوِّية، وفرْض على روسيا إعادة نظر في خططها العسكرية على مستوى الإمداد والأمن. وقد وصَفَ مسؤولون أوكرانيون العملية بأنَّها تعبير عن الصمود والابتكار في وجه تصاعُد الضغوطات في ميدان الحرب وتراجُع الدعم الدولي.

غير أنَّ آثار العملية تتجاوز الخسائر المباشرة، إذ ردَّت روسيا بهجوم انتقامي استخدمت فيه 472 طائرة مسيّرة لضرب بنى تحتية أوكرانية في عدَّة مناطق. ومنذ ذلك الحين، تتوالى الضربات الروسية بشكلٍ شبه يومي، مع تصعيد ملحوظ في وتيرتها ونطاقها، في محاولة لتدمير منظومة الطاقة الأوكرانية، وإضعاف مراكز الإمداد، والنيل من معنويات المدنيين. وهذا التصعيد السريع يعكس تحوُّلًا مُحتمَلًا في مسار الصراع، فمنذ بداية الحرب كانت روسيا تتجنَّب اللجوء إلى قصْف شامل وعشوائي، وتركِّز على أهداف عسكرية محدَّدة، لكن عملية «شبكة العنكبوت» قد تغيِّر هذا النهج، لا سيّما إذا اعتبرت روسيا أنَّ الضربات الأوكرانية في العُمق الروسي أصبحت ركيزةً جديدة في عقيدة الحرب الأوكرانية؛ ما قد يدفعها إلى تكثيف وتوسيع رقعة قصفها، واعتماد سياسات ردع أشدّ قسوة.

وتتّسِع المخاطر لتشمل المستوى الجيوسياسي أيضًا، إذ من الممكن أن ترى موسكو في هذا الهجوم المنسَّق مؤشِّرًا على تورُّطٍ من خلف الستار لحلف شمال الأطلسي أو أجهزة استخبارات غربية. وإذا ترسَّخ هذا الاستنتاج، فقد يدفع روسيا إلى الانسحاب من اتفاقيات قائمة لضبط التسلُّح، وعلى رأسها «معاهدة ستارت الجديدة»، التي تُلزمِ الجانبين؛ الروسي والأمريكي، بكشف مواقع قاذفاتهما الاستراتيجية للمراقبة عبر الأقمار الصناعية ضمن آليات التحقُّق المُتبادَل. فالبند الذي كان يُنظَر إليه كأداة لمنع سوء التقدير، بات يُنظَر إليه في موسكو كثغرة أمنية، بعدما كشَفَ عن نقاط ضعْف يمكن استغلالها في ضربات عميقة، كالتي وقعت في الأول من يونيو. وفي أعقاب عملية «شبكة العنكبوت»، قد تُعيد روسيا تقييم مدى الحكمة الاستراتيجية في الالتزام بهذا القدر من الشفافية، لا سيّما إن رأت أنَّها اُستُغِلَّت لتنفيذ ضرباتٍ في عُمقها، ناهيك أنَّ قرارًا روسيًا بتعليق أو إلغاء آليات التحقُّق هذه سيُفاقم من هشاشة الثقة الاستراتيجية، ويزيد من احتمالات سوء الفهم في الأزمات المستقبلية.

كل ذلك يجري في ظل مؤشِّرات متزايدة على تحضير روسيا لهجوم صيفي واسع النطاق؛ فقد تراجعت القوّات الأوكرانية من مواقع قرب كورسك، وحشدت روسيا أعدادًا كبيرة من قوّاتها في محافظة سومي. وأعلن الرئيس فلاديمير بوتين عن إنشاء منطقة عازلة جديدة على حدود بيلغورود وكورسك؛ ما يعني عمليًا تثبيت ممرّ احتلال يُعيد رسْم موازين القُوى الإقليمية. أمّا التقدُّم الأخير في محافظة دنيبروبتروفسك، والتي لم تكُن من بين الأهداف الروسية المُعلَنة، يُشير إلى اتّساع نطاق الأهداف الروسية. وقد يكون هذا التوغُّل اختبارًا لمدى جهوزية أوكرانيا أو محاولةً لاستنزاف دفاعاتها المنهكة، ورُبَّما تمهيدًا لزحف أعمق نحو وسط البلاد.

وفي المقابل، تواجه أوكرانيا صعوبات متزايدة على مستوى الموارد البشرية والعتاد؛ إذ تُشير التقارير الميدانية إلى صعوبات في تعويض الخسائر البشرية، وتراجُع في القُدرة على تعبئة قوّات جديدة، وسط تراجُع الدعم الأمريكي والأوروبي، بما يزيد الطين بلَّة ويعرِّض القوّات الأوكرانية لمزيد من الإرهاق والضغوط اللوجستية. وإذا تمكَّنت روسيا من الحفاظ على وتيرتها الهجومية الحالية، فقد تتمكَّن من تحقيق تقدُّمٍ مفصلي في هذا الصيف يقلب موازين المعركة لصالحها.

وفي ظل هذه التطوُّرات، لا تزال المسارات الدبلوماسية مسدودة؛ فتوقيت تنفيذ  عملية «شبكة العنكبوت»، قبل يوم واحد فقط من الجولة الثانية من محادثات السلام بين أوكرانيا وروسيا في إسطنبول، يُثير تساؤلًا: كيف تؤثِّر أو قد تحبط العمليات العسكرية فُرَص التفاوض. وسواءً جاءت الضربة في سياق منسَّق مع الرسائل التفاوضية أم لا، فإنَّها لم تُحدِث أيّ تأثير ملموس على استعداد أيٍّ من الطرفين لتقديم تنازلات؛ إذ لا تزال موسكو متمسِّكةً بأهدافها، فيما تُصِرُّ كييف على الدفاع عن سيادتها الوطنية دون تراجُع. وبهذا، انعدمت الظروف الموائمة لتحقيق تقدُّمٍ ملحوظ، وأصبحت الجهود الدبلوماسية مجرَّد تحرُّكات رمزية أكثر منها خطوات جادَّة نحو حلٍّ فعلي للصراع.

لقد دخلت الحرب مرحلة الاستنزاف، وأدرك الطرفان ألّا مجال لتسوية سريعة؛ فأوكرانيا تستمرّ في المقاومة دفاعًا عن وجودها، وروسيا ترى في استكمال أهدافها حجرَ أساس لشرعية حكمها. وفي هذا السياق، تبدو المفاوضات عاجزةً عن بلورة إطار واقعي للسلام، بينما تتحوَّل المعركة إلى صراع بقاء سيطول أمده اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا.

تكشف عملية «شبكة العنكبوت» عن قُدرة أوكرانيا على التكيُّف والابتكار في أحلك الظروف، وتقدِّم مثالاً على كيفية استخدام وسائل بسيطة لضرب طائرات قيمتها بمليارات الدولارات. لكنّها، في المقابل، تسلِّط الضوء على مخاطر الابتكار المنفصل عن رؤية استراتيجية متماسكة؛ إذ أنَّ توسيع رقعة الحرب واستفزاز ردود فعل روسية أوسع، قد يزيد من هشاشة الموقف الأوكراني ما لم يُقابل بعودة الدعم الدولي وتموضُع عسكري أوكراني قادر على الاستمرار.

وفي ظل مُضيها نحو هجومها الصيفي وانسداد الأُفق السياسي، يبدو أنَّ الحرب تتّجِه نحو مواجهة مدمِّرة وطويلة الأمد، لن تُحسَم من خلال انتصارات خاطفة أو عمليات رمزية، بل من خلال الصمود. على أوكرانيا أن تجِد سبيلًا لتعويض نقْص القُوى والدعم، وعلى روسيا أن تحوِّل مكاسبها الميدانية إلى نفوذ دائم من دون التورُّط في استنزاف يفوق قُدرتها، أمّا الأطراف الخارجية («الناتو» وغيره من الدول المهمَّة في المنطقة) فالمطلوب منها إدارة مخاطر التصعيد والتوفيق بين الضغط والحوار. الأشهر المقبلة ستكون حاسمة؛ ليس فقط لمصير الحرب، بل لتحديد الطرف القادر على تحمُّل كلفتها المرهقة على المدى الطويل. فعلى الرغم ممّا أظهرته «شبكة العنكبوت» من براعة تكتيكية، إلّا أنَّها تطرح سؤالاً استراتيجيًا أعمق: هل تكفي الضربات الجريئة لتغيير مسار صراعٍ باتت تحكمهُ قوانين الاستنزاف وضبابية جيوسياسية؟


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

أحمد السلمي
أحمد السلمي
باحث سياسي