تواجه دول وحضارات العالم أثناء تطورها مجموعة من التحديات، فإذا تغلبت عليها يُمكنها مواصلة مسيرة النهضة والترقي، لكن عندما يكون التحدي أكبر من قدرة الحضارة على مقاومته، فتدخل في احتمالين؛ إما الانسحاب المؤقت وإعادة الكرّة من جديد، أو الدخول في مرحلة الجمود الحضاري المنتهي بالموت. بمعنى أن العامل الأساس الذي يقرر صيرورة الأمم ومساراتها الحضارية، وَفقًا لنظرية «التحدي والاستجابة» للمؤرخ البريطاني الشهير جوزف توينبي (1889م-1975م) هو قدرتها على الاستجابة لهذه التحديات والمخاطر ومرونتها في التعامل مع كل أبعادها. يقول الفيلسوف الألماني شبنجلر: إنّ التاريخ الإنساني ليس خطًا مستقيمًا إلى التقدم، بل هو دوريات متعاقبة من النمو والانحلال. وهكذا كان نشوء وسقوط القوى العظمى منذ فجر التاريخ وحتى سقوط دفة الاتحاد السوفيتي عام 1989 من النظام الثنائي القطبية الذي تشكّل في مؤتمر يالطا بنهاية الحرب العالمية الثانية.
ومنذ إعلان الرئيس الأمريكي السابق بوش الأب عام 1990 عن ولادة «نظام عالميٍّ جديد»، والولايات المتحدة الأمريكية تتنامى هيمنتها الأحادية دون منافس حتى وصلت الذروة في عهدي الرئيس بوش الابن (2001م-2009م) حينما ساد اعتقاد لدى تيار المحافظين الجدد بأنّ الأمة الأمريكية بلغت فعلا مرحلة «نهاية التاريخ» على طريقة فوكوياما، وأنها لحظة «القرن الأمريكي» بما يستوجبه من حوكمة للعالم وتدويل للعولمة الرأسمالية بتجلياتها الاقتصادية والثقافية والعسكرية تحت شعار بوش الابن «إنْ لم تكُن معي فأنت ضدي»!
وبالرغم من الاصطفاف الدوليّ، رغبةً أو رهبة، مع واشنطن في حربها ضد «الإرهاب» فإنّ أعراض «الوهن الإستراتيجي» دبت في مفاصل مشروع القرن الأمريكي الجديد؛ بسبب ما وصفه وزير خارجية فرنسا السابق أوبير فرين بأنه تبعات «فرط القوة الأمريكية»! التي تجلت في صعوبة إدارة الفوضى الناتجة عن حربي أفغانستان والعراق، وضعف العائد الإستراتيجي مقابل التكلفة التي بلغت ما يقارب الستة ترليونات دولار. تلكما الحربان أفضت إلى نكسة حقيقية للقدرة الاقتصادية الأمريكية والتي تكللت بانهيار أسواق المال الأمريكية في عام 2008، وتراجُع سمعة الولايات المتحدة وثقلها العالمي مقابل صعود قوتين جديدتين هما الصين وروسيا. وهذا ما ألقى أعباءً كبيرة على إدارتي الرئيسين أوباما وترامب لمعالجة الآثار الناجمة من سياسات الإدارة السابقة والاضطرار إلى الانكفاء نسبيًّا للداخل، بما أسماه الرئيس أوباما بـِ«الصبر الإستراتيجي» وَ«القيادة من الخلف». ولم تكُن الأمة الامريكية تعاود انتعاشها حتى دخلت عليها جائحة كورونا والتي شكّلت أكبر هزة اقتصادية لأمريكا منذ كساد عام 1929م. كل هذا كان مدعاةً لنضع سؤال القرن؛ هل ستستمرّ أمريكا كقوة وحيدة تُهيمن على النظام الدولي، أم أننّا بصدد الانتقال تدريجيًّا إلى توازن إستراتيجيٍّ جديد؟
أغلب الشواهد والمؤشرات تُشير إلى أنّ الاقتصاد الأمريكي منذ أزمة 2008م يراوح بين النمو البسيط والتراجع مقابل النمو السريع للاقتصاد الصيني والروسي. فبحسب صندوق النقد الدولي إجمالي الدين العام الأمريكي بلغ 21.9 ترليون دولار لعام 2018م وهو ما شكّل نسبة 107% للناتج المحلي. جائحة كورونا بدورها أدخلت الاقتصاد الأمريكي في منعطف جديد، ظهرت بداياته في تقلص الناتج المحلي بنسبة 4.8 في الربع الأول من هذا العام، وهو الأكبر منذ أزمة 2008م، ويُتوقع أن يتقلص أكثر في الربعين القادمين، وأنْ يدخل في انكماش اقتصادي حاد يقترب من 5.5% مع نهاية عام 2020م،إضافةً إلى الانخفاض غير المسبوق في الأسواق المالية، وتسجيل النِّفط الخام الأمريكي لسعر بالسالب لأول مرة في التاريخ، والتوقع بوصول الانكماش الاقتصادي إلى ما نسبته 11% في نهاية العام. هذا ما جعل مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية تنشر تقريرًا جاء فيه: «أنّ وباءَ كورونا قد يودي إلى إعادةِ تشكيلِ النظامِ العالميِّ، حيث تناورُ الصين من أجلِ قيادةِ العالمِ في الوقتِ الذي يتداعى فيه دورُ الولاياتِ المتحدة»!
في الحقيقة، لايزال من المبكر الحكم بأنّ عالم ما بعد كورونا سيشهد ولادة نظامٍ عالميٍّ جديد.ما سنُواجهه هو استمرار انكفاء الإرادة السياسية الأمريكية؛ ليس بسبب ضعف القوة الأمريكية، بقدر ماهي الحاجة للقيام بجرد حسابات بمعنى «مراجعة الأداء الإستراتيجي» والخروج بخيارات إستراتيجية ستكون الأولوية فيها لسياسات الإنعاش الاقتصادي والتجاري، وتطوير السياسات الاجتماعية التي تهمُّ الناخب الأمريكي، بالتوازي مع استمرار التصعيد للحرب التجارية ضد الصين، مثل فرض تعريفات جمركية جديدة، وشروط على قوانين الملكية الفكرية، وقوانين تجارية أخرى، في وقت وصل حجم التجارة بين الدولتين إلى 737 مليار دولار لعام 2018م بعجز تجاري لصالح الصين بلغ 378 مليار.
أيضًا، ستواصل واشنطن من خلال مفهوم «القوة الذكية» فرض الردع الإستراتيجي ضد من يقف أمام مصالحها أو يتعرض لمناطق نفوذها، أو يهاجم حلفاءها، لكنها في ذات الوقت لن تغامر مرة أخرى في شنِّ حرب عسكرية استباقية شاملة. ستعتمد أكثر على تنفيذ ضربات عسكرية انتقائية محدودة ضد مراكز ثقل العدو ومفاصله الإستراتيجية وقياداته البارزة، وستستمر البنتاغون بشكلٍ أسرع في تطوير ترسانتها الإلكترونية وقدراتها في مجال الأجيال الجديدة من الحروب اللا تماسية في مجال الفضاء الإلكتروني والسيبراني.
هذا ما يدفعني للاعتقاد بأنه، رغم تراجع الإرادة الأمريكية، من المبكر الحكم بأننا سنشهد أفولًا مفاجئًا للّحظة الأمريكية وولادة نظامٍ عالميٍّ جديد تتصدّره الصين. الإدارة الأمريكية مرت بأزماتٍ عديدة منذ بداية القرن الماضي وأثبتت دائمًا قدرتها على التعافي والعودة للمنافسة بفضل قدراتها الإدارية والمعرفية والابتكارية، ناهيك عن شركاتها متعددة الجنسيات، وعِظَم دورها في المنظمات والتحالفات الدولية.
ووَفقًا للمعايير العالمية لقياس القوة الشاملة للدول، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تتصدر تراتبية دول العالم. فهي حتى الآن الأقوى في كل عناصر القوة الشاملة: الاقتصادية والطاقة والتعليم والتقنية والنقل، وبالأخصّ القوة العسكرية. مع ذلك يجب أن نعرف أنه في الماضي كانت الانتصارات العسكرية العامل الأساس لتمكين الدول، أما اليوم فكثيرًا من المؤشرات تعطي اتجاهًا مستقبليًّا بأنّ الريادة العالمية ستكون من نصيب الدول التي تستثمر بكفاءة في مصادر الإنتاج الاقتصادي والمعرفي. ومن المحتمل أنّ مَن يتصدر السباق في هذين البعدين معًا سيكون هو الأقرب لحوكمة النظام العالميّ الجديد الذي لن يرى النور قبل عقدٍ على الأقل.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد