حثّ وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني مؤخرًا، دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية على إجراء محادثاتٍ مع إيران. وعبّر المسؤول القطري عن أمله في حدوث ذلك. وأضاف في مقابلةٍ مع محطة تلفزيون «بلومبيرغ»: «ما زلنا نعتقدُ أنّ هذا يجب أن يحدث». مِن جانبه، علّق وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على هذا التصريح عبر حسابه على «تويتر» بالقول: «ترحبُ إيران بدعوة أخي (الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني) للحوار الشامل في المنطقة. هذا ما نؤكّد على ضرورته وندعو إليه دائمًا، فالحل لكل تحدِيَاتنا هو العمل المشترك للوصول إلى «منطقةٍ قويّة».
وفي لقاءٍ له مع وكالة الأخبار الإيرانية «مهر» قال: «مددنا دائمًا يد الصداقة لدول الخليج لأنّها منطقتنا جميعًا وأمنها يصبُ في صالحنا كلنا». وفي نفس اللقاء اِدّعى ظريف أنّ النظام الإيراني قد سبق وقدّم مقترحاتٍ للحوار قبل تلك التي قدّمتها الدول في المنطقة، قائلًا: «قبل كل هذه المقترحات، قدّمنا مقترحًا، كما أنّ الرئيس حسن روحاني قدّم العام الماضي “مبادرة الأمل”، لذلك فإنّ استعدادنا للحوار ليس موضوعًا جديدًا، وكما قلت لوزير الخارجية القطري إنّ هذه هي سياسة إيران الدائمة». وقال شامتًا: يجب أن تعي الآن دول الخليج أنّها أضاعت أربع سنواتٍ بسبب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مُستذكرًا مبادرة حلّ الأزمة الخليجية التي قدّمها الأمير الكويتي الراحل الشيخ صباح أحمد جابر الصباح وقبلها المرشد الإيراني علي خامنئي إلّا أنّ رد دول الخليج كان على حدّ قول ظريف: «يجب أن نتحلى بالصبر؛ لأن ترامب تولى الحكم للتو». وأضاف: «أضاعت هذه الدول أربع سنواتٍ… غادر ترامب…نحنُ وهُم مَن بقى».
تجب الإشارة هنا إلى أنه لم تصدرُ أيّ ردود فعلٍ رسميةٍ من بقية الدول الخليجية حيال هذه التصريحات. السؤال الذي يطرح نفسهُ في مثل هذا الظرف الزمني هو: هل إيران بالفعل جادة في التعاطي إستراتيجيًّا وليس تكتيكيًّا مع أيّ مبادراتٍ حقيقيةٍ للتهدئة؟ وهل يمكنُ أن تتراجع عن سلوكها الراهن تُجاه المنطقة؟
منذُ قيام النظام الثوري، استخدمت إيران القوة العسكريّة الوحشيّة في الحرب العراقية-الإيرانية التي استمرت لثمان سنوات (1980-1988م). خرجت إيران مِن هذه الحرب مُنهكةً اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، وكانت تحتاج إلى وقتٍ لاستجماع قواها والتغلب على الأزمات التي كانت تمرُ بها آنذاك. لذلك لجأ النظام الإيراني لنهج «القوة الناعمة» موظفًا العلاقات الدبلوماسيّة والثقافيّة والعزف على المشتركات الحضارية في الفترة الثانية للرئيس الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني (1993-1997م)، وبخاصّة عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي (1997-2005م).
شهدت هذه المرحلة المكسوة بالسّلام ظاهريًّا أخطر مراحل التوغل الإيراني في الداخل العربي فاستثمرت مرحلة الانفتاح المُمَنهَج على المنطقة لزرع خلاياها وتثبيت أقدامها فيها مُخفيَةً وجه العُنف خلف قناعٍ مِن الدبلوماسيّة المُنفتحة ودعوات حوار الحضارات ومعارض المنتجات الإيرانية التي جابت العديد مِن العواصم العربية والخليجية.
في هذه المرحلة أيضًا، ركزت إيران على تأسيس وتفعيل ما يُسمى بالمراكز الثقافية التي يديرها مسؤولون أمنيّون تابعون للحرس الثوري الإيراني ومرتبطون بشكلٍ مُباشرٍ بمكتب المرشد الأعلى وليس وزارة التعليم أو الخارجية أو حتّى البعثات الدبلوماسية الإيرانية في تلك الدول، وهذا يُشير إلى أهداف إيران العدوانية من وراء بنائها. عملت هذه المراكز على تكثيف الأنشطة والفعاليات كغطاءٍ تمويهي لأهداف التجنيد والاستقطاب والأدلجة. كما شهدت هذه المرحلة أيضًا التعاون الإيراني مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية لتسهيل عملية اجتياح أفغانستان في 2001م، والعراق 2003م، وقد قالها صراحةً محمد أبطحي نائب الرئيس محمد خاتمي: «لولا إيران لما سقطت كابول وبغداد». في أواخر هذه المرحلة هلّل الشارعُ العربي المتعطِّش للانتصارات، انتصارَ حزب الله بما سُميَ «حرب تموز 2006»، التي أنهكت لبنان ودمرتها دون أيّ مكاسبَ تذكر سوى للجانب الإيراني الذي ذهب بعض العرب إلى التصفيق له قبل أن ينكشفَ الغطاء مع بداية ما يُسمى بـِ«الربيع العربي».
مع مرحلة التقلبات السياسيّة التي شهدتها المنطقة العربية منذ 2011م، عادت إيران من جديد إلى سياسة القوة الخشنة وإن كان ذلك عبر الحروب بالوكالة والاعتماد على الميليشيات الشيعية المُسلحة في المنطقة العربية والخطاب الطائفي والعزف على المظلوميّة الشيعية، علاوةً على تحريك بعض خلاياها النائمة والنشاط الاستخباراتي الكبير عبر خلايا التجسّس الإيرانية في المنطقة وبخاصّة دول الخليج حيث شهدت السنوات القليلة الماضية تفكيك العديد مِن الشبكات التجسُسيّة في الكويت والسعودية والبحرين والإمارات واليمن. أيضًا عمدت إيران إلى دعم ميليشيا الحوثي في اليمن بالسلاح والمال والرجال، وكثّفت أيضًا نشاطها في البحرين والكويت خلال هذه المرحلة.
وعلى الرغم مِن تدخل إيران في المنطقة، لم تنظر دول الخليج العربي إلى إيران بنظرةٍ تشاؤميةٍ مطلقةٍ؛ لأن الجميع يرغب في علاقة جيّدة بين دول ضفتي الخليج العربي والتعايش السِّلمي بين إيران ومحيطها الجغرافي العربي تحديدًا. بعبارةٍ أكثر وضوحًا، إنّ دول المنطقة العربية والخليجية تحديدًا ليست ضد الحوار مع إيران لكن هناك انعدامٌ للثقة بين الجانبين الإيراني والخليجي في أغلبه، ولبناء الثّقة والوصول إلى حوارٍ جادٍّ ومُثمرٍ وليس الوصول لحوارٍ مِن أجل الحوار فقط، يجب أن يتّخذَ الجانب الإيراني خطوات على الأرض تُثبت جدِّيَته هذه المرة في حل الإشكاليّات من محيطه الجغرافي؛ لأنّ «المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين».
لقد تشبّع الجميع من الحملات الإعلاميّة والخطابات السياسيّة الناعمة والدبلوماسية البراقة والوعود التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، وفي انتظار خطواتٍ حقيقيةٍ تُثبت جدِّيَة إيران وأنّها فعلًا ترغبُ في التحول إلى دولةٍ طبيعيةٍ جادةٍ في تحسين العلاقات مع العالم والمنطقة والتخلي عن مشاريعها التوسعية وإثارة الصراعات الطائفية ودعم الإرهاب. الخميني كان يعُدُ السعودية عدوَّ إيران الأول، وقال قبل وفاته: «إنْ تخلّينا عن القدس وتجاوزنا الخلاف مع أمريكا وتصالحنا مع صدام فإنّنا لن نفعل ذلك مع السعودية»، فهل تغيرت إيران حقًّا وهل تخلّت عن هذه الأدبيات؟ هل ستقوم إيران بحلّ كافة ميليشياتها في المنطقة من لبنان شمالًا إلى اليمن جنوبًا؟ هل ستتعهّدُ بعدم التدخل في الشأن الداخلي للدول؟ هل ستوقفُ حملات التحشيد الطائفي؟ ماذا ستقدمُ حيال اعتدائها على البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد؟ الإجابة على هذه الأسئلة تُظهر بجلاءٍ مدى جدِّيَة طهران من عدمها في الوصول إلى توافقٍ مع دول الخليج، أما العوائد الإيجابية للوصول إلى التفاهم بين ضفتي الخليج العربي فكثيرةٌ جدًّا وتحتاج إلى مقالٍ خاصٍّ بها.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد