في إطار التحولات الهامة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، أعلنت كل من السعودية وسوريا في 23 مارس عام 2023م إجراء محادثات لاستئناف عمل الخدمات القنصلية، ثم تسارعت الأمور ليجري الحديث عن اتفاق البلدين على عودة العلاقات الدبلوماسية بعد مرحلة قطيعة استمرت لأكثر من عقد من الزمان، إذ استقبل وزيرُ الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان وزيرَ الخارجية السوري فيصل المقداد، الذي لبى الدعوة لزيارة المملكة بتاريخ 12 أبريل 2023م. واتفق الجانبان في البيان المشترك، الذي بثته وكالة الأنباء السعودية، على أهمية حل الصعوبات الإنسانية ووصول المساعدات إلى سوريا، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين إلى مناطقهم وتوفير بيئة آمنة لهم، واتخاذ مزيد من الإجراءات التي من شأنها المساهمة في استقرار الأوضاع بكامل الأراضي السورية، والتسوية السياسية، ومساعدة سوريا على التصدي للإرهاب والتدخلات الخارجية. وهي خطوة مهمة سبقتها عدة مؤشرات على تحولات في الموقف السعودي تجاه سوريا، أبرزها: تصريح وزير الخارجية السعودي خلال انعقاد القمة السعودية-الصينية في ديسمبر 2022م، برغبة الرياض في البحث عن طريقة للتواصل مع النظام السوري، ورفع علم النظام السوري في أثناء انعقاد القمة العربية-الصينية، التي أعقبت القمة السعودية-الصينية، إضافة إلى الدعم الذي قدمته المملكة لسوريا بعد كارثة الزلزال الذي ضربها في فبراير 2023م، وأخيرًا الحديث عن احتمالية دعوة الرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمة العربية، التي سوف تستضيفها الرياض في مايو المقبل، ما يطرح بعض التساؤلات حول العوامل التي دفعت الطرفين إلى التقارب، وتحديد حجم المكاسب المتوقعة لكلا الطرفين، والتحديات أو العراقيل أمام تطوير العلاقات في المستقبل.
أولًا: سياق دولي وإقليمي مُواتٍ
لقد تواكبت الخطوات السعودية والسورية مع تحولات مهمة تشهدها الساحتان الدولية والإقليمية، فعلى الصعيد الدولي سحبت الحرب الروسية على أوكرانيا الاهتمام الدولي من المنطقة، وخففت سياسات الاستقطاب التي كان لها انعكاساتها على الصعيد الإقليمي. وبينما كانت الولايات المتحدة تُعيد تمركزها وتُوجِّه مواردها على الساحة الدولية بناءً على التنافس الإستراتيجي المتصاعد مع الصين، وتجييش أوروبا لمواجهة الخطر الروسي، فإنّ المنطقة باتت أكثر ميلًا إلى تهدئة التوترات، وعدم دخول لعبة المحاور الدولية، وإن كانت الصين قد نجحت في إحداث اختراق مهم في غياب الولايات المتحدة، وهو وساطتها الناجحة التي مهدت الطريق لعودة العلاقات السعودية-الإيرانية، الأمر الذي دفع بمزيد من التفاهمات في الملفات الإقليمية، بما في ذلك سوريا.
ولا شك أن كارثة زلزال سوريا قد سلطت الضوء على التأثير الكبير للعقوبات الأمريكية والغربية في سوريا، وكان الموقف بمنح سوريا استثناءات قد حفز إعادة النظر في العلاقات مع النظام السوري. كما أن انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية قد دفعها إلى محاولة تقريب وجهات النظر بين النظام والقوى الإقليمية التي لديها تحفظ عليه، كتركيا والسعودية، ناهيك بأن المنطقة في ظل التداعيات الاقتصادية ما بعد جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا باتت غير مستعدة لتحمل مزيد من تكاليف النزاع والأزمات.
وعلى الصعيد الإقليمي، فإنّ مرور أكثر من عقد من الأزمات جعل المنطقة أمام تحديات كبيرة، وباتت القوى الإقليمية تنظر إلى الصراعات على أنها ذات طبيعة صفرية، لا انتصار حاسم فيها لأحد. ومن ثم بدأت عملية مراجعة للسياسات الخارجية لهذه الدول، وقد أثمرت عن بعض التوافقات والمصالحات التي خففت حدة الاحتقان وحرب الوكالة التي كانت تدور على أكثر من جبهة. كان من أبرز هذه التفاعلات المصالحة الخليجية، والمصالحة الخليجية-التركية، والمصالحة المصرية-التركية، وأخيًرا الاتفاق السعودي-الإيراني الذي كان قمة التعبير عن هذه التوجهات المعتدلة، إذ إنّ هذا الاتفاق بمثابة نقطة تحوُّل مهمة تجاه الحد من الصراعات والخلافات في المنطقة.
انعكست التطورات التي حدثت مؤخرًا على الأزمات الإقليمية، وكان من أبرزها الأزمة السورية، إذ شهدت سوريا انفتاحًا من الإمارات والبحرين ومصر، ثم أخيرًا من السعودية التي تبحث عن عودة العلاقات، وربما فتح الطريق أمام النظام السوري للعودة إلى جامعة الدول العربية، وذلك بلا شك مقابل تنازلات مهمة تحقق المصالح السعودية.
لقد وقع على عاتق المملكة مسؤولية إقليمية منذ اندلاع أحداث الربيع العربي، وهو ما أحدث تغييرات جوهرية على سياستها الخارجية، كان من أبرزها الدفاع عن الأمن والاستقرار الإقليمي. وقد تحملت تكلفة ذلك في ظل حالة من الفوضى الإقليمية غير المسبوقة، ونجحت في أن توقف عديدًا من المشاريع التي كانت تهدد دول المنطقة، بما في ذلك سوريا واليمن والبحرين. وفي إطار تطلعاتها لأجل شرق أوسط أكثر استقرارًا، فإنها بمبادرة إقليمية رائدة لا تقل أهمية عن مبادراتها خلال السنوات الماضية، فإنها تتطلع إلى استعادة التهدئة في المنطقة ووضع حد للصراعات البينية وداخل الدول، الأمر الذي يُعيد الاستقرار الإقليمي ويمهد الطريق نحو تحقيق المملكة لرؤيتها الداخلية والإقليمية، في إطار شرق أوسط أكثر استقرارًا وازدهارًا. وتأتي سوريا ضمن هذه الجهود، لا سيما بعد الاتفاق السعودي-الإيراني الذي يفترض أنه حد من الاستقطاب الذي نشأ في سوريا منذ عام 2011م. وبالتالي أعطى دفعة لاستئناف علاقة الرياض بدمشق، التي كانت مجالًا لمحادثات بين البلدين منذ أكثر من عام مضي.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أعلنت أن موقفها من التطبيع مع النظام السوري لن يتغير، فإنه في إطار سياسة الاستقلالية التي تتبعها الرياض ورؤيتها المتقدمة لشرق أوسط أكثر استقلالًا واستقرارًا، قد مضت قدمًا في المفاوضات مع النظام السوري.
بالإضافة إلى ذلك، تشكَّل شبه إجماع عربي بشأن عودة سوريا إلى محيطها العربي، وحفز الاتفاق السعودي-الإيراني هذا التوجه. وقد كان هناك عديد من المبادرات الإقليمية من أجل إيجاد حل للعلاقة مع سوريا، بما في ذلك المبادرة الأردنية، وبالتالي تهيأت الظروف للنظام السوري لترميم بعض من شرعيته، ونجح في أن يُعيد تموضعه وتحسين علاقاته ببعض القوى الإقليمية، بما في ذلك بعض دول الخليج، كالإمارات وعمان اللتين زارهما الأسد، فضلًا عن تركيا ومصر، وذلك بمساعدة روسيا.
وبما أن المملكة لديها مسؤولية تجاه القضايا العربية بحكم مركزها وموقعها القيادي، ولديها رؤيتها للمنطقة والمدفوعة بالأساس بعوامل داخلية لها صلة بـ«رؤية 2030»، فقد تشكلت إرادة داخلية لمواكبة حالة الانفتاح الإقليمي على نظام الأسد. وقد أكد ذلك ما أشار إليه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، على هامش مؤتمر ميونخ للأمن في 19 فبراير 2023م، بأنه «بدأ يتشكل إجماع في العالم العربي على أنه لا جدوى من عزل سوريا، وأن الحوار مع دمشق مطلوب في مرحلة ما، حتى تتسنى على الأقل معالجة المسائل الإنسانية، بما في ذلك عودة اللاجئين».
وبعد كارثة زلزال السادس من فبراير، زاد هذا الانفتاح زخمًا في إطار دبلوماسية الكوارث، إذ كان من بين هذه المساعدات مساعدات سعودية عبر منصة «ساهم»، التي أُنشئت لهذا الغرض. ومن بين هذه المساعدات ما وصل إلى مناطق المعارضة، ومنها ما وصل إلى مطار حلب بالتعاون مع الهلال الأحمر السوري، حيث مناطق سيطرة النظام، وكان هذا أول مؤشرات التقارب مع النظام السوري.
ثانيًا: المكاسب من عودة العلاقات السعودية-السورية
يتطلع كلا الطرفين السعودي والسوري من عودة العلاقات الرسمية بينهما إلى تحقيق جملة من المكاسب والغايات على الأصعدة الداخلية والخارجية، يمكن إجمال أهمها في ما يلي:
- مكاسب المملكة العربية السعودية:
تسعى الدول إلى ربط خطواتها السياسية بمصالح تخصها، وتنطلق الرياض في تقاربها مع دمشق وإعادة علاقاتها السياسية مع حكومتها من أولوياتها الخاصة وحسابات مصالحها القريبة والبعيدة، ومن بين هذه المصالح الإستراتيجية:
أ. تعزيز أولويات المملكة واعتباراتها القريبة والبعيدة: تمثل عودة العلاقات السعودية-السورية مكتسبًا مهمًّا للسعودية، في إطار سعيها لتعزيز موقعها الإستراتيجي في المنطقة، وتحقيق مشاريعها التنموية، عبر الخروج من مناخ المواجهة نحو محاولة تصفير المشكلات وإزالة العقبات الدبلوماسية للمباشرة في التعاطي مع المسائل الخلافية.
ب. إعادة ترتيب البيت العربي بقيادة سعودية: أخذت خطوات ترميم العلاقة بين دول عربية ودمشق منحنى متصاعدًا خلال السنوات الأخيرة، وبلغ ذروته بعد كارثة الزلزال التي ضربت كلًّا من سوريا وتركيا، إلا أن الرغبة السعودية في إعادة العلاقات مع سوريا تُعتبر هي الخطوة الأهم والأبرز في هذا المسار العربي، لما تمثله السعودية من مكانة وثقل سياسي إقليمي ودولي قادر على قيادة المنطقة والعالم نحو السلام والاستقرار.
ج. الضغط على الولايات المتحدة: في ضوء التحولات التي تطرأ على ميزان العلاقات الدولية، وتولد قناعة سعودية بانشغال أمريكي عن شؤون المنطقة وغياب خطة واضحة للأمن الإقليمي، فإنّ الأولويات السعودية في سوريا باتت تتركز اليوم بشكل أساسي على تغيير طبيعة علاقتها، وتنويع خياراتها، وكيفية إدارة توازنات المنطقة بما يخدم مصالحها الإستراتيجية، وإن تطلَّب ذلك تنويع الشركاء وعقد اتفاقات مع منافسين للولايات المتحدة الأمريكية. لذا، يُعتبر التقارب السعودي-السوري، فضلًا عن الاتفاق الدبلوماسي السعودي-الإيراني برعاية الصين، ثمرة التراجع الأمريكي في الشرق الأوسط، وأداة سعودية لتحقيق رؤيتها في ما يتعلق بمواجهة التحديات الأمنية والإستراتيجية في المنطقة.
د. التصدي لتهريب المخدرات والعصابات المسلحة: أصبح الاقتصاد السوري أسيرًا لتجارة المخدرات (الكبتاغون)، في إطار ما يُعرف بـ«اقتصاد الظل»، إذ تأخذ تلك التجارة طريقها على أيدي العصابات المسلحة لتهديد دول جوار سوريا، وتمتد إلى دول الخليج، الأمر الذي يستدعي إعادة تأهيل النظام السوري، لوقف هذه الآفة الخطيرة.
2. المكاسب السورية:
الحكومة السورية هي الأخرى تسعى لتثبيت عدد من المكاسب المحتملة من تقاربها مع نظيرتها السعودية، يأتي في مقدمتها:
أ. كسر العزلة الدولية واستعادة مكانة سوريا بين الدول العربية: تعاني حكومة الأسد من عزلة دولية لم تقتصر على دول الجوار والمحيط العربي، بل شملت دولًا كبرى، ومختلف المؤسسات والمنظمات الدولية. وأضعفت هذه العزلة وحجمت إمكانية تجاوز أزمات النظام السوري الداخلية وقدرته على التأثير في محيطه العربي، فضلًا عن قدرته على حماية نفسه من التدخلات الخارجية، وهو أمر لطالما مثَّل هاجسًا ودافعًا سوريًّا نحو محاولة إعادة علاقاتها مع دول العالم، وكسر طوق العزلة المفروضة على نظامها في المؤسسات الدولة والإقليمية، ومنها استعادة مقعد الجامعة العربية، خصوصًا أن كثيرًا من الدول العربية قطعت علاقتها بدمشق، بعد تعليق عضويتها في جامعة الدول العربية منذ 2012م. وتركز حكومة الأسد على تقارب أكبر وأسرع مع السعودية، لأنها تمثل جسرًا بثقلها السياسي المؤثر في المشهد العربي، يمكن أن يحسن علاقة سوريا بالدول العربية.
ب. تحسين الاقتصاد والحصول على دعم عربي: عودة دمشق إلى المنظومة العربية، وبالأخص الجامعة العربية، تمثل مكسبًا اقتصاديًّا مهمًّا للأسد، عبر عودة العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول العربية والعائدات المالية التي ستجنيها الحكومة السورية من جراء عودة العمل باتفاقية تنظيم النقل بالعبور بين الدول العربية. ويمثل تردي الأوضاع الاقتصادية الداخلية، في ظل تأثير العقوبات عليه وعلى داعمتيه روسيا وإيران، وقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية العربية مع حكومته، أحد أهم التحديات التي يواجهها الأسد في السنوات الأخيرة، وقد اضطرت حكومته في الفترات الأخيرة إلى تعطيل المؤسسات والدوائر الحكومية، لعدم القدرة على تأمين وسائل المواصلات والتدفئة، بسبب الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، وهو ما أدى إلى شلل اقتصادي كامل.
3. مكاسب المنطقة:
أ. تخفيف التوتر في المنطقة: تعيش الدول الإقليمية وعلى مدى عقد من الزمان حالة من الفوضى والاحتراب الداخلي، ما جعلها عرضة بشكل أكبر لتهديدات الفاعلين من غير الدول، وتنامى خلال السنوات الماضية مزيد من مهددات الأمن غير التقليدية، كالجريمة المنظمة والتهديد البيئي، وأزمات النقص في الموارد، والكوارث الطبيعية، وتجارة تهريب الأسلحة والمخدرات. وبشكل خاص، تكررت حالات الاستفزاز والتوترات التي تسببت فيها إسرائيل من جهة، وتلك التي تسببت فيها إيران وميليشياتها من جهة أخرى. ولأن استمرار هذا الوضع وتصاعده قد يجر المنطقة إلى حالة من الاستقطاب السياسي والأمني، وهو أمر لا يصبّ في مصلحة المنطقة عمومًا والرياض خصوصًا، ورؤيتهما في الخروج من إرث الحروب المكلفة والمزعزعة للاستقرار والمؤثرة سلبًا في تطور المنطقة وتنميتها، لذا يمثل التقارب العربي مع دمشق، وقبله التقارب مع طهران وأنقرة، أحد المكتسبات المهمة نحو تخفيف التوتر في المنطقة، والسعي للخروج من الاصطفافات المتناقضة إلى منطق التكامل في مواجهة التحديات السياسية والأمنية.
ب. مكاسب إيرانية حاضرة في عودة العلاقات السعودية- السورية: طهران تعي جيدًا السعي السوري للخلاص من العزلة وتحجيم تأثير عقوبات المجتمع الدولي المفروضة على حكومته، لذا من المتوقع ألا تبدي طهران أي تحفظات أو معرقلات ظاهرية على سياسة الأسد الخارجية وتوجهه نحو تحسين علاقاته العربية. كما يمكن أن يساعد تخفيف حدة التوتر بين عواصم دول المنطقة ودمشق في استقرار مكاسب طهران في سوريا، وستساعد هذه الديناميكية الجديدة على استقرار شريكها الإقليمي الرئيسي على المدى الطويل، وتضييق الدعم الضمني لجماعات المعارضة المناهضة للأسد، وهو مكسب مشترك مهم لكل من دمشق وطهران.
ثالثًا: عراقيل قد تقف في وجه عودة العلاقات السعودية-السورية
على الرغم من أن هناك عوامل ضرورية دافعة إلى عودة العلاقات السعودية-السورية، ومكاسب الطرفين من عودة العلاقات الدبلوماسية، فإنّ أمام البلدين عددًا من العراقيل والتحديات قد تحدّ من إحداث اختراق كبير يؤدي إلى عودة العلاقات إلى سابق عهدها، ويتوقع أن تلعب هذه التحديات دورًا بارزًا في تحديد شكل العلاقات السعودية-السورية على المدى المنظور، وهي على النحو التالي:
1. تباين وجهات نظر الطرفين حول عدة ملفات عالقة:
علاوةً على تباين وجهات نظر الطرفين تجاه عدد من القضايا الإقليمية، التي تعمقت بشكل كبير عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وتقرب النظام السوري من حزب الله اللبناني، الذراع العسكرية الأقوى لإيران في المنطقة، فضلًا عن الارتماء في الحضن الإيراني كليةً، غير أن بين الجانبين خلافات جوهرية عالقة تفاقمت منذ اندلاع الأزمة السورية قبل نحو 12 عامًا، خصوصًا الموقف من المعارضة في الجنوب السوري، إذ لا تزال المملكة تتمسك بموقفها في ما يخص المعارضة، بضرورة التوصل إلى حل سياسي مُرضٍ للجميع، وإيصال المساعدات إلى كل المناطق المحاصرة، كما تحضّ صناّع القرار في سوريا على تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، من خلال تفكيك أو إخراج الميليشيات المسلحة الموالية لإيران في سوريا، والحيلولة دون إنشاء مزيد من القواعد والتمركزات الجديدة التي تعمق نفوذ إيران وتتيح لها أوراق ضغط جديدة في المعادلة السورية، وتمكّنها من الاستمرارية في قلب ميزان القوى لصالحها في الساحة السورية.
تنظر السعودية إلى نطاق النفوذ الإيراني في سوريا على أنه عامل تقويض للمصالح العربية والخليجية المحتملة في سوريا، وللجهود العربية لعودة سوريا إلى المحيط العربي، بل إعاقة أي تسوية سياسية للأزمة السورية ترتب توازنًا في العلاقات السورية الخارجية والوصول إلى الحل السياسي المرضي للجميع بعد سنوات طويلة من الصراع، لا سيما في ما يخص شكل المعادلة السورية الجديدة، وطبيعة الدولة السورية وقوتها بوصفها دولة وطنية بمؤسسات قوية غير خاضعة لتأثير الميليشيات أو الجماعات المسلحة، فضلًا عن قضايا اللاجئين والوضع الإنساني.
لذلك، فإنّ تذليل العقبات العالقة بين الطرفين، سواء في ما يتعلق بالساحة السورية أو ما يتعلق بالخلافات في الساحة اللبنانية أو العراقية، يتوقف على مدى قدرة كل طرف على إعادة رسم أولوياته ومقارباته وعلاقاته بحلفائه الإستراتيجيين، خصوصًا من الطرف السوري. وهذا ليس بالأمر الهين خلال المرحلة المقبلة، ويتطلب وقتًا وخلق ثقة بين الطرفين، من خلال حرصهما على استمرارية الحوار وتبادل المعلومات حيال القضايا التعاونية والخلافية، مع إبداء النية في القفز على كل ما يمكن أن يعكر صفو العلاقة، والتزام لغة خطاب سياسي مختلفة، واحترام النظام السوري لقرارات المحكمة الدولية الخاصة بمقتل رفيق الحريري، بما لا يؤدي إلى تفاقم الخلافات مجددًا حول الملف اللبناني، وكذلك التفاهم حول سُبل ضبط الوضع الداخلي في الساحتين اللبنانية والعراقية، بما يسفر عن حلحلة الأزمات وتهدئة الصراعات، مع ضرورة أن يمضي الطرفان السعودي والسوري في مسألة إعادة تعريف المصلحة العربية في المنطقة العربية، بما يخدم مصالح الطرفين في المستقبل، ويسفر عن خلق دولة سورية وطنية مستقلة ومتوازنة في علاقاتها الخارجية.
2. ارتهان القرار السوري للتأثير الروسي-الإيراني:
يشكّل ارتهان القرار السوري للتأثير الروسي والإيراني إحدى العقبات الرئيسية أمام علاقات سعودية-سورية شاملة. ويرجع التأثير الروسي والإيراني الكبير في القرار السوري، ليس فقط إلى ذلك الدور الكبير والمفصلي والتاريخي الذي لعبته الدولتان في الحيلولة دون سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، بل في استعادة سيطرته على زمام الأمور في سوريا من خلال استعادة عديد من المدن والمحافظات والمناطق من سيطرة الفصائل المعارضة والتنظيمات الإرهابية والمتطرفة، حتى أصبح النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد يسيطر رسميًّا على ما نسبته 90% من الأراضي السورية، باستثناء محافظة إدلب الخاضعة للمعارضة، وأجزاء صغيرة من الجنوب السوري.
3. انقسام سوريا إلى مناطق نفوذ لعدة لاعبين مؤثرين:
على الرغم من إعادة سيطرة الرئيس بشار على زمام الأمور في سوريا، منذ استرداده مدينة حلب خلال عام 2017م، وتبدل ميزان القوة بشكل حاسم لصالح نظامه، فإنّ الساحة السورية على أرض الواقع باتت مقسمة إلى عدة مناطق نفوذ للاعبين دوليين وإقليميين وداخليين، فهناك مناطق خاضعة للنفوذ الروسي تقع ضمن ما اصطلح على تسميته بـ«سوريا المفيدة»، مناطق حيوية وإستراتيجية من حيث المواقع الجغرافية على الشريط الساحلي والمناطق الحدودية، أو من حيث الموارد المتاحة كالفوسفات والغاز، مثل دمشق وريفها وحمص واللاذقية وطرطوس.
وكذلك هناك مناطق خاضعة للنفوذ الإيراني، أجزاء كبيرة منها تقع ضمن ما يعرف بـ«سوريا المفيدة»، ما يفسر الخلاف الروسي-الإيراني على مناطق النفوذ في سوريا، قُبيل مرحلة التعاون الروسي-الإيراني تجاه الأزمة الأوكرانية، ومناطق خاضعة للنفوذ التركي في الشمال السوري، ومناطق خاضعة لسيطرة الرئيس بشار الأسد، ومناطق خاضعة لسيطرة المعارضة في إدلب، ومناطق آمنة، ومناطق حظر جوي، ما من شأنه صعوبة تحقيق أي تعاون سعودي-سوري على أرض الواقع.
4. العقوبات الأمريكية على سوريا:
العقوبات تشكل أبرز العراقيل أمام تقدم العلاقات السعودية-السورية، خصوصًا في المجالات الاقتصادية والتجارية، فمن ناحيةٍ تتخذ واشنطن موقفًا رافضًا لاتجاه التطبيع مع النظام السوري، وتبرر ذلك بغياب تقدم حقيقي ودائم نحو حل سياسي يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254 -مشروع قرار أمريكي- الصادر في ديسمبر 2015م، ذلك القرار الذي ينص على: «إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة، وتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات حرة تحت إشراف أممي». كما تبرره أيضًا بعدم الاستجابة للاشتراطات الدولية، المتمثلة في إطلاق سراح السجناء السياسيين، والسماح بالعودة الآمنة للاجئين، ومحاكمة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا، وتقديم المتورطين للعدالة.
ومن ناحية ثانية، تفرض واشنطن عقوبات على سوريا بموجب «قانون قيصر»، الذي وقعه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 20 ديسمبر 2020م، ومدته خمسة أعوم من تاريخ توقيعه، إذ ينص القانون على فرض عقوبات على أي حكومة أو شركة أو فرد يتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر مع الحكومة السورية، وكذلك يتيح القانون للولايات المتحدة فرض عقوبات على أي حكومة أو شركة أو فرد يتعامل مع الحكومة السورية في أربعة قطاعات حيوية: قطاع الطاقة، قطاع الطيران، القطاع المالي والمصرفي، قطاع البناء والهندسة، ما من شأنه إعاقة أي رغبة سعودية للتعاون مع سوريا في مجالات اقتصادية وتجارية ومشاريع إعادة الإعمار السورية.
خاتمة
يشير الحراك العربي والإقليمي تجاه سوريا إلى قرب حدوث انفراجة في الأزمة السورية التي تجاوزت عامها الثاني عشر. ويأتي اتجاه السعودية لتحسين علاقاتها مع سوريا من منطلق دورها الرائد في حلحلة القضايا والأزمات الإقليمية ورأب الصدع العربي، فضلًا عن حماية دول الخليج من التهديدات الأمنية المتمثلة في المخدرات والميليشيات المسلحة.
ومما لا شك فيه أن عودة العلاقات السعودية-الإيرانية سوف تعود بالنفع على دول المنطقة برمتها، خصوصًا سوريا، التي تأمل في دور سعودي يعيدها إلى الصف العربي، ويحول دول تمزقها، ويعينها على مواجهة الأوضاع الإنسانية والاقتصادية المتردية التي تعاني منها منذ عام 2011م.