ترى الحكومة الأفغانية مقاتلي لواء «فاطميون» -الذين التحقوا بتحالف الميليشيات الشيعية في سوريا بسبب الفقر- قوةً موالية لإيران وتهديدًا لأمنها الداخلي، وتعتقد السلطات الأفغانية أن إيران شكَّلَت جيشًا سرِّيًّا من الشيعة الهزارة لينشطوا في أفغانستان بعد خروج الولايات المتحدة من هذا البلد. يقول أحد هؤلاء الجنود إن الحرس الثوري الإيراني يستغلّهم كقوات فدائية في حربه بالوكالة في سوريا، وقد أصبحت حياتهم ومعيشتهم بعد عودتهم إلى أفغانستان أسوأ من ذي قبل.
غادر مهدي وهو في السابعة عشرة من عمره منزله في أفغانستان وذهب إلى إيران باحثًا عن فرصة عمل تمكّنهُ من الوصول إلى أوروبا. كان مهدي فقيرًا بحيث لم يكُن يستطيع حتى شراء دفتر وقلم للمدرسة، لكنه في النهاية وجد نفسه وسط الحرب الأهلية السورية في مناطق الحرب هناك، حرب تبعد ألفَي كيلومتر عن منزله ولا علاقة له بها.
مهدي واحدٌ من عشرات آلاف الأفغانيين الذين جنّدتهم إيران ودربتهم ودفعت لهم الرواتب كي يساندوا حليفها، بشار الأسد، وعندما وصل إلى سوريا أُرسِلَ إلى الخطوط الأمامية الأكثر دموية، حيث كانت تحيط به جثث رفاقه، وكان يعيش تحت نيران ميليشيات داعش؛ كانوا قريبين منه بحيث كان يسمع أصوات تكبيرهم قبل أي انفجار مميت.
مع انطلاق الحرب في سوريا، استقطبت إيران شيعة المنطقة في عملية واسعة، وشكّلت شبكة من المليشيات الشيعية للحيلولة دون سقوط حكومة الأسد، وقد ضمت هذه الشبكة إضافة إلى الأفغان باكستانيين وعراقيين ولبنانيين، والآن بعد انحسار نيران حرب السنوات الثماني في سوريا، يطرح السؤال نفسه: ما الذي تنوي إيران فعله بهذه القوات المسلحة المدربة؟
فبعد تصاعد الاحتجاجات في سوريا توجهت قوات الحرس الثوري إلى هناك لدعم قوات الأسد، غير أن إيران لم تكتفِ بذلك، فباشرت بتشكيل تحالف من الميليشيات التي يُعتبر حزب الله اللبناني أقواها وأشهرها، ومع هذا فإن الجماعة الأكثر عددًا مكونة من أفغان جُنِّدوا تحت ما يُعرف بلواء «فاطميون»، الذي يُقدِّر خبراءُ عدد قواته بـ١٥ ألف شخص، وفيه دُرِّبَ عشرات آلاف الأفغان وقاتلوا في صفوفه خلال السنوات الماضية، ومعظمهم من قومية الهزارة التي تنتمي إلى أشد الطبقات الاجتماعية فقرًا في أفغانستان.
يقول أحد المسؤولين الكبار في وزارة الداخلية الأفغانية، القريب من الاستخبارات الحكومية، الذي لم يرغب في الكشف عن اسمه، إن نحو ١٠ آلاف من قوات لواء «فاطميون» عادوا إلى أفغانستان بمن فيهم مهدي وجنود آخرون مرتزِقة معظمهم من المجتمع الشيعي الأفغاني الفقير.
فاطميون وتهديد الأمن القومي في أفغانستان
الناس في أفغانستان ينظرون إلى هؤلاء المرتزقة بريبة وشكّ، ويرى المسؤولون الأمنيون هناك أن إيران لا تزال تشرف عليهم وتديرهم، لكن هذه المرة كجيش سرِّيّ لتوسيع نفوذ طهران في النزاعات المستمرة في أفغانستان.
يقول مهدي: «نحن نخاف هنا؛ إنهم يقولون إننا جميعًا إرهابيون». يبلغ مهدي الآن ٢١ عامًا، وقد عاد إلى هرات مسقط رأس والدته، وهو يتجنب الحديث مع مراسل «أسوشيتد برس» في البيت أو الأماكن العامة خوفًا من كشف هويّته، ولم يكُن مستعدًّا لإجراء حوار إلا في سيارة مركونة في منطقة بعيدة، معظم سكانها من الشيعة، وحتى هناك غطَّى وجهه بوشاح مشتبهًا في أي سيارة تمرّ بجانبهم.
يتعرض المقاتلون الأفغان العائدون من سوريا، للتهديد من جهات مختلفة، فهم يواجهون خطر اعتقال عناصر الاستخبارات الأفغانية التي تنظر إليهم كـ«خونة»، كما يمكن أن يتعرضوا لعنف قاتل من ذراع داعش في أفغانستان، الذي أعلن مرارًا أنه سيقتلهم.
يقول أحد الوجهاء المحليين: «قد نتعرض للاعتقال لمجرد أننا نعرف أحد المقاتلين في سوريا»، ويضيف أن ٨ من رجال قريته قُتلوا في معارك سوريا، لكن جثثهم لم تعُد إلى أفغانستان ولم يُدفَنوا فيها، بل «دُفنوا جميعًا في إيران».
وترى الحكومة الأفغانية وعديد من الخبراء أن إيران تستطيع أن تعيد تنظم هذه القوات لتعزيز نفوذها في أفغانستان، بخاصة أن الولايات المتحدة تنوي سحب قواتها من أفغانستان لإنهاء الحرب مع طالبان. وقد حذّر بيل روجيو، رئيس تحرير مجلة «Long War Journal»، وهو موقع يغطي الحرب الأمريكية على الإرهاب، من استمرار الإرهاب في أفغانستان، قائلًا: «توقعوا أن تعيد إيران تنظيم ميليشياتها في مكانٍ ما داخل أفغانستان، لأنها لن تغُضّ الطرف عن هؤلاء الذين استثمرت فيهم بالمال والوقت والتدريب».
تعاني أفغانستان حاليًّا من الأزمات بسبب تعدُّد المجموعات المسلحة الناشطة فيها والتي تَشَكَّلَ معظمُها على أساس الاختلافات العرقية، وتضم هذه المجموعات ميليشيات تابعة لأمراء الحرب الذين يقفون إلى جانب الحكومة لكنهم غالبًا ما يعارض بعضهم بعضًا، ومن جهة أخرى يسيطر متمردو طالبان على نصف مساحة البلاد، فضلًا عن فرع داعش، العدوّ الذي يُظهِر من نفسه عنادًا حتى تحت القصف العنيف للمقاتلات الأمريكية.
ويقول مايكل كاغلمان، مدير برنامج آسيا في مركز «ويلسون» بواشنطن، إن من المحتمل أن إيران تنوي استغلال أي اضطرابات لحشد «فاطميون» داخل أفغانستان، بحجة أن الشيعة في أفغانستان بحاجة إلى من يدافع عنهم، وإذا توسعت رقعة الاضطرابات في أفغانستان فسيكون للإيرانيين دافع قوي إلى مساعدة القوى الشيعية التي ستواجه تهديدات جدية من طالبان، بخاصة داعش.
يقول مسؤول كبير في وزارة الداخلية الأفغانية إن إيران تساند حاليًّا مقاتلي لواء «فاطميون» الذين يقيمون في كابل، وتدعم طائفة الهزارة في باميان في المنطقة الوسطى للبلاد. وأضاف أن الاستخبارات الأفغانية تَعرَّفَت هُوية مسؤول إيراني رفيع المستوى «يدير أنشطة القوات العائدة من سوريا إلى أفغانستان»، وهو يزودهم بالسلاح والمال، وقد رسم لهم خطة للحشد السريع يجب أن يلتزموها إذا لزم الأمر، ووفقًا لتصريحاته فإن عبد الغني علي بور المعروف بـ«السيف القائد»، وهو أحد أمراء الحرب الذي ينتمي إلى طائفة الهزارة، يساعد إيران في هذا المجال، وقد اعتُقل العام الماضي بسبب تشكيله مجموعة عسكرية غير شرعية، غير أنه أُفرِجَ عنه بعد احتجاجات للهزارة.
قصة الفقر والعنف
يقول رضا قاسمي الباحث في شبكة المحللين الأفغان (مجموعة مستقلة للدراسات مقرها كابل) إن انتماء عديد من الأفغان إلى لواء «فاطميون» كان بسبب اليأس والفقر لا من منطلق الولاء لإيران، و«عديد من هؤلاء لا يرون في أفغانستان مستقبَلًا لهم». عندما وصل مهدي إلى إيران في عام ٢٠١٥ عمِلَ عامِلَ بناء ليدّخر المال من أجل الذهاب إلى أوروبا، وعندما نجح في ذلك كانت الحدود الأوروبية أُغلقت. يقول: «كنتُ مُحبَطًا جدًّا، فقد جئتُ إلى إيران لأذهب إلى أوروبا وأدرس هناك وأتمتع بحياة أفضل، لكني بقيت في إيران لا أملك شيئًا».
اقترح عليه أحد أصدقائه الذهاب إلى سوريا، وإذا ما قاتلوا هناك لصالح إيران فسيحصلون على٩٠٠ دولار شهريًّا، فيما كان دخل مهدي بالكاد يصل إلى ١٥٠ دولارًا شهريًّاا، يقول: «فكرت حول ذلك الاقتراح وطمأنت نفسي، بينما كنت أشعر بغضب شديد، وبعدها قررت الذهاب، فإما أن أعيش كما أريد وإما أن أموت». سُجّلوا وسُلّموا لمقر للتجنيد في طهران، ومن ثم جمّع المسؤولون الرسميون المعلومات الخاصة بالأحوال الشخصية عنه كاسم الأب والأقرباء ومكان الإقامة في هرات: «قالوا لي بما أن من الممكن أن أموت في سوريا فهم يحتاجون إلى كل المعلومات (كي يتمكنوا من إبلاغ عائلتي)»، وفي اليوم التالي أرسلوهم -هو والآخرين الذين جُنّدوا في لواء «فاطميون»- إلى مدينة يزد لتدريبهم عسكريًّا لمدة ٢٧ يومًا تحت إشراف الحرس الثوري، وأدَّت قدرة مهدي المذهلة على إصابة الأهداف إلى تدريبه كقناص، وبعد انتهاء فترة التدريب أُرسِلَ برفقة ١٦٠٠ جندي جديد إلى دمشق.
وليتمكنوا من الحصول على رواتبهم من الحكومة الإيرانية، فتحوا حسابات مصرفية في دمشق، ومن ثم نُقلوا إلى ضريح السيدة زينب للدعاء قبل إرسالهم إلى الجبهة الأمامية، وبعدها نُقلوا إلى حلب بالحافلات، ومنها ودون تأخير إلى الجبهة الأمامية. أصبح مهدي يقاتل جبهة النصرة، فرع القاعدة في سوريا، وعاش أصعب أيام حياته هناك.
لقد أكّد الصراع هناك بوضوح الطابع الدولي للقتال في سوريا؛ جبهة النصرة وميليشيات من سوريا والعراق والشيشان وتركمانستان وأوزبكستان، وجهاديون من دول أخرى، من جهة، وقوات الجيش السوري إلى جانب الجنود الإيرانيين وحزب الله لبنان وشيعة العراق وأفغانستان بمساندة من المقاتلات الروسية من جهة أخرى، جميعهم يتقاتلون للسيطرة على قطعة من الأرض (مدينة خان طومان بالقرب من حلب)، واستمرت المواجهات بين الجانبين عدة أشهر، سقط خلالها مئات القتلى من الجانبين، إذ قُتل في يوم واحد فقط ٨٠ شخصًا من القوى الموالية للأسد، بينهم ١٣ إيرانيًّا وعشرات الأفغان والعراقيين واللبنانيين، ومع نهاية ذلك اليوم تمكنوا من السيطرة على خان طومان.
يقول مهدي إن حجم الدماء التي سالت في تلك المواجهات كان هائلًا، إذ يؤكد أنه أُرسِل ٨٠٠ جنديًّا من «فاطميون» إلى خط الجبهة الأمامي خلال مواجهة واحدة، ولم يعُد منهم إلا ٢٠٠ شخص: «كل صباح كنت أشاهد من سبع إلى ثماني جثث، وفي الأيام الأولى كانت رؤية مثل هذه المشاهد وسماع دوي الانفجارات يخيفانني بشدة، ولا يزال زميلي في تلك المواجهات عبد الله يحلم بكوابيس الموت والجثث المتقطعة». ويقول مهدي إن جنود «فاطميون» كان يُزج بهم كفدائيين إلى الجبهات الأمامية: «شاهدت بعيني الجنود الأفغان الذين تدهسهم الدبابات كما تُدهس النملة تحت الأرجل، وتنتشر جثثهم في كل مكان».
عاد مهدي العام الماضي إلى أفغانستان، لكن حياته لم تتغير كثيرًا، ولا يزال يعاني الفقر، ولا يستطيع أن يحصل على عمل، ويتحدث بمرارة عن عدم إيجاد حل لمشكلاته، ويقول إن عديدًا من جنود فاطميون مكثوا في سوريا ليجدوا عملًا كعمال بناء: «لا أعرف ماذا يخبئ لي المستقبل، قد أصبح لصًّا، أو أعود إلى سوريا».
مع ذلك انخفضت رواتب الميليشيات التي كانت تقاتل تحت القيادة الإيرانية في سوريا، ويؤكد عديد من الخبراء أن إيران لا تملك القوة الاقتصادية السابقة لتعبئة هذه القوات، بسبب العقوبات الأمريكية.
المصدر: «راديو زمانه»