لقد أخذ الغرب على عاتقه الدفاع عن نظام دولي قائم على بعض الثوابت والقوانين، وضمن هذا دافع عن مبادئ واضحة لضمان حقوق الشعوب والأمم، وشارك في وضع قواعد لتنظيم العلاقات والصراعات وحقوق الإنسان خلالها، واعتبر ذلك من أسس هذا النظام وقواعده الراسخة، والواقع، لا قضية على الساحة الدولية يمكن أن يتجلَّى فيها هذا النظام وتلك المبادئ والقواعد كالقضية الفلسطينية، غير أن الغرب نفسه هو من تنكَّر لأبسط حقوق الشعب الفلسطيني، التي أقرَّها المجتمع الدولي، بل أظهرت حكوماته الدعم المطلق لإسرائيل وتغاضت عن تجاوزات جيشه التي باتت توصف في الأوساط الغربية نفسها بأنها الأسوأ في التاريخ، نظرًا لبشاعتها ومخالفتها كل القواعد والقوانين والأعراف والقيم، وقد يثير هذا التنكُّر والتناقض والازدواجية التساؤلات! فهل تقف خلف هذا الموقف عُقدة ذنب تاريخية بحق اليهود بعدما تعرضوا على يد الأوروبيين في مراحل تاريخية مختلفة للاضطهاد والظلم؟! أم هو صراع حضاري تُسخِّر فيها الحكومات الغربية قوتها لخدمة أطماعها وطموحاتها؟! أم إن الأمر واقعيةٌ تفرض وجود إسرائيل وضمان تفوقها لحماية النفوذ وضمان تدفق المصالح؟!
قد تُقدِّم عقدة الذنب تفسيرًا لمواقف بعض الحكومات الغربية المتحيزة لإسرائيل، وهو تفسير يستند إلى السياق التاريخي الذي فرض وجودها على أرض فلسطين، وإلى دور الحكومات الغربية في هذا الوجود، بعد تاريخ طويل من الاضطهاد الممنهج في عديد من الدول الأوروبية، وهو أمر قد توضحه مواقف بعض الدول التي كان لها نصيب كبير في هذا الاضطهاد، فقد كانت تمنح هذا الكيان حتى وقت قريب تعويضاتٍ عمَّا حدث لليهود خلال الحكم النازي.
لكن حصريًّا، لا تُقدِّم عُقدة الذَّنب تفسيرًا كافيًا لهذا الموقف الغربي المتحيز، فخَطَآن لا يصنعان صوابًا، إذ كيف يمكن التخلُّص من ذنب تاريخي بخَلق ذنب تاريخي أكبر بحق شعب فلسطين، صاحب الأرض، بأكمله، بحق أطفاله ونسائه وأرضه وشجره ومضره، ولماذا تقف حكومات أخرى، ليست لها سابقة تاريخية في اضطهاد اليهود، في تبنِّي رواية إسرائيل، وتصطف إلى جانبها مانحةً إيَّاها حقًّا مطلقًا في ممارسة الظلم والعدوان! وأي عُقدة ذنْب تلك التي تدفع الغرب وحكوماته المتعاقبة إلى تعطيل قواعد القانون الدولي، وعكس مبادئها وتدمير منجزات الإنسانية في مضمار حماية الحقوق والدفاع عنها، وذلك من خلال منح إسرائيل حقًّا مطلقًا في فعل ما تفعل، على الرغم من أنه ليس بحق دفاعًا عن النفس بالمفهوم العام، بوصف إسرائيل قوة احتلال.
في الواقع، لا يمكن إنكار نجاح إسرائيل في فرض نفسها على أجندة الحكومات الغربية، وفي إستراتيجياتها تجاه المنطقة، بوصفها تُقدِّم مصلحة حيوية لا جدال بشأنها، كما أنها، وإنْ أصبحت تخسر تدريجيًّا تعاطف الرأي العام في الغرب وخشية كثيرين من وصفهم بمعاداة السامية وما يتبع ذلك من إجراءات قانونية، نجحت في كسب الحكومات واستمالة بعض قادة الفكر والنُّخب، وتقديم نفسها باعتبارها دولة متقدمة ديمقراطية مفيدة للغرب في قلب العالم العربي، ناهيك بترويج مظلومية جذبت لها التأييد، وفي الوقت نفسه كان إعلامنا غير قادر على مجاراة الرواية الإسرائيلية ودحْضها، والوصول إلى الرأي العام العالمي وإقناعه بعدالة القضية الفلسطينية، لهذا لم تكترث الحكومات الغربية بهذه القضية، ويبدو أن هذا الواقع لن يتغير وسيستمر الغرب في دعم إسرائيل ويقدِّم لها الحماية رغم سلوكها العدواني.
وعلى الرغم من أن الحديث عن الشرعية الدولية وعدالة القضية الفلسطينية في هذا الإطار أمرٌ مهم وضروري، لكن النظام الدولي يسير وَفق توازن القوة ويخدم مصالح الأقوياء قبل كل شيء، حتى الديمقراطية بكل ما تحمله من قيم وقواعد، لا يمكن إنكارها، لن تكون فاعلة في تغيير مواقف الحكومات والزعماء التي تعطي بقاءها في السلطة وتدفُّق المصالح التي تضمن لها هذا البقاء الأولوية المطلقة.. فما دامت الحكومات في مأمن من تحمُّل تبعات مواقفها، فلن يتغيَّر الواقع، وربما هذا ما فطنت إليه إسرائيل مبكرًا، فأسست في عواصم الغرب اللوبيات، وأنشأت جماعات الضَّغط، وسيطرت على عديد من منابر الإعلام، وكسبت ولاء النُّخب، وباتت قضية ضمن قضايا الانتخابات في عديد من العواصم العالمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، حتى بات رؤساؤها يتسابقون لتقديم الولاء لإسرائيل، ويقدمون لها التأييد بلا حساب، ويدافعون عن سياساتها بغض النظر عن تجاوزاتها بحق الفلسطينيين.
قد يكون في نهاية النفق بصيص أمل، إذ لا يزال شعب صامد يدافع عن وجوده وبقائه على أرضه، وعن حقوقه المشروعة المعترَف بها دوليًّا، وزخْم عالمي داعم لحقوق هذا الشعب تزامنًا مع الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، فبجانب الاحتجاجات والمظاهرات الحاشدة في العواصم العالمية، تحرَّك المحتجون أيضًا في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية إلى المواني لوقف شحنات أسلحة كانت في طريقها إلى إسرائيل رفضًا لعدوانها، والأهم من ذلك باتت للرواية الإسرائيلية رواية بديلة على الساحة العالمية، وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي وتفاعل المؤثرين في الفضاء الافتراضي في تقديم وجهة النظر البديلة للرواية الإسرائيلية.
كما تُوجَّه انتقادات واسعة للرؤساء والحكومات الغربية على مواقفهم، وباتوا بالفعل يشعرون بأن هذه المواقف قد تهدِّد مستقبلهم السياسي ومستقبل أحزابهم في السُّلطة، كما أظهرت استطلاعات الرأي الأمريكية بشأن شعبية المرشحين، بما في ذلك الرئيس بايدن، فضلًا عن وجود خلافات داخل مؤسسات صُنع القرار، كما ظهر من رسائل الدبلوماسيين الأمريكيين واعتراضهم على الموقف الأمريكي من الحرب على غزة، كذلك ارتفع صوتٌ لموقف إقليمي وعربي وإسلامي غير راضٍ عن مواقف الحكومات الغربية، وتحرّكت دول بالفعل وعلَّقت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وأخرى ذهبت إلى رفع قضايا ضد قياداتها أمام المحكمة الجنائية الدولية.
هكذا يمكن القول إن تيار الإنسانية نجح في إدراج قضية فلسطين على أجندة الحكومات وجعلها جزءًا من مصلحتها، وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح، وبالفعل باتت لدينا تغييرات في المواقف، ولعل هذا الحراك، إذا استمر، يكون بمثابة قوة ضغط مؤثرة وخطوة باتجاه إعادة بناء الصورة العالمية تجاه القضية الفلسطينية، وفرصة لتغيير الواقع الذي نجحت إسرائيل في فرضه على مدار خمسة وسبعين عامًا، وبداية نحو تشكيل وجهة نظر عالمية وسياسية جديدة تجاه أنسب قضية يُمكن أن تُظهر فيها الحكومات الغربية أنه لا يزال نظامٌ دوليٌّ قائمًا بالفعل على قواعد وأسس قانونية.
المصدر: Arab News
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد