ليس من المبالغة إذا قلنا إنّ الواقع السياسي الذي تعيشه إيران اليوم يشبه إلى حدٍّ كبير الظروف التي عاشها الاتحاد السوفييتي السابق في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وليس من المبالغة أيضًا إذا ما قارنّا بين الضغوط التي عاشها الرئيس ميخائيل غورباتشوف، والظروف التي يعيشها الرئيس روحاني اليوم، بل الأكثر من ذلك أننا لا نجد اختلافًا بين حالة التمزق التي كان يعيشها حلف وارسو، وتلك التي يعيشها تحالف «الممانعة والمقاومة» اليوم. وبالمجمل نستطيع أن نقول: «نحن أمام تاريخ يعيد نفسه».
عند الحديث عن برنامج إعادة الهيكلة الذي طرحه الرئيس غورباتشوف والمعروف تاريخيًّا بـ«البيروسترويكا والجلاسنوست»، الذي يعني إعادة بناء الاقتصاد، واعتماد الشفافية مع الشعب، من أجل أن يكون الشعب الروسي والرأي العام العالمي في مواجهة الحقائق التي يعيشها الاتحاد السوفييتي، والتي لعبت دورًا كبيرًا في ما بعد بتعجيل تفككه وانهياره، ففي الجانب الآخر يبدو أن الفشل المبكر للاتفاق النووي الذي طالما دافع عنه الرئيس روحاني، ودعوته المتكررة بضرورة تخلي إيران عن فكرة «الاقتصاد المقاوم» المسخر للجهد الحربي الخارجي، مع تأكيده بضرورة انفتاحه على العالم الخارجي، الذي يقتضي بالمقابل كفّ يد الحرس الثوري عن كل المؤسسات الاقتصادية الإيرانية، فإن ذلك ربما سيعجل بإنتاج سيناريو غورباتشوفيّ جديد في إيران.
وعند الحديث أيضًا عن نماذج التحول الآيديولوجي-الحداثي، الذي تبنّته بعض الدول لتجاوز أزمة التفكك والانهيار، تبرز لنا قضيتان واقعيتان في عالمنا المعاصر، تلخصان مفهوم النجاح والفشل، هما «الصين وروسيا»، إذ عمدت الصين ومن خلال قراءتها الدقيقة للتغيرات العالمية إلى أن المشكلة العالمية الرئيسية تتلخص في الثروة أولًا ثم السلطة، ولهذا فهي ذهبت باتجاه المحافظة على النظام السياسي مقابل فتح نظامها الاقتصادي أمام العالم، والتحول نحو رأسمالية صينية متوحشة غزت الولايات المتحدة الأمريكية والعالم. أما روسيا فقد قاد إصرارها على التمسك بنظامها الاقتصادي الجامد، الذي استند إلى الشيوعية العلمية «الماركسية»، بمقابل اعتماد سياسة الشفافية في هيكلها الإداري، وإجراء بعض التغيرات الهيكلية على نظامها السياسي، وهو ما عجل بانهيارها، وبالتالي يمكن القول إنّ قصة نجاح أو فشل إيران في التعاطي مع العقوبات الأمريكية الراهنة والمستقبلية تتوقف على أي الخيارين ستعتمده إيران مستقبلًا، مع التأكيد هنا على خصوصية الحالة الإيرانية. إذ يدرك الرئيس روحاني أن التغيير مطلوب، وأنه لا بد من أن يكون هناك جلاسنوست إيراني يصارح به الشعب الإيراني وبالأسباب الرئيسية التي أدت إلى الأوضاع التي تعيشها إيران اليوم، فالتحديات الاقتصادية التي تمرّ بها إيران تنبع أسبابها الرئيسية من الخارج: “دور إيران السلبي، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتوظيف عناصر وأدوات عدم الاستقرار في الدول الأخرى… إلخ”، مع إعطاء هامش للفساد وسوء إدارة الموارد، واستغلال السلطة من قِبل الولي الفقيه وأركان الدولة العميقة، فمكاشفة الشعب الإيراني بالحقائق المالية والاقتصادية تعني أن المشكلة الرئيسية التي تعيشها إيران هي “أسطورة الدور التاريخي للحرس الثوري”، وهي الأسطورة التي جعلت منه أكبر قوة اقتصادية في إيران، إذ يتمتع الجنرالات والضباط وغيرهم من أفراد الحرس الثوري بميزات مالية ضخمة، في الوقت الذي تعاني فيه طبقات أخرى من الشعب الإيراني، بمن فيهم ضباط الجيش والشرطة، من ضائقة معيشية صعبة، فبمجرد نزول المسافر في «مطار الإمام الخميني الدولي» في طهران، فإن أول تومان سينفقه في المطار سيدخل في خزينة الحرس الثوري، بحكم سيطرته على قطاع النقل والمواصلات في المطار.
إن التحديات الحقيقية التي تعيشها إيران اليوم، وتحديدًا بعد مرور فترة وجيزة على فرض العقوبات الأمريكية عليها، جعلت مسألة مستقبل نظامها السياسي يخضع لكثير من التوقعات والاستفسارات، فهناك مظاهرات احتجاجية ما زالت نشطة في كل أنحاء البلاد، فضلًا عن الانخفاض التاريخي للعملة الإيرانية أمام الدولار، والصراع السياسي المحموم داخل مجلس الشورى الإيراني بين التيارين المحافظ والإصلاحي، هذا كله إلى جانب «الالتزام الإرغامي» لأغلب دول العالم بنظام العقوبات الأمريكية بما فيها العراق، فضلًا عن بروز محددات جديدة كـ”الوضع الجديد في اليمن، وحالة عدم الاستقرار السياسي في العراق، والاحتواء في سوريا، والتطورات الجديدة في طاجيكستان وأفغانستان”، كلها جعلت صانع القرار السياسي في إيران، وعلى رأسهم الرئيس روحاني، أمام حالة سياسية معقدة، حالة ينبغي أن يقيم فيها صانع القرار حسابات النفقة والمنفعة، والتي إذا ما كان غير موفق في إدارته لهذه الحالة فإننا في القريب العاجل سنكون أمام إيران جديدة على أغلب الأحوال.
فبعد دعوة الرئيس روحاني لاستجوابه من قِبل مجلس الشورى الإيراني، على إثر فشله في إدارة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، إلى جانب زيادة معدلات البطالة وتسرّب رؤوس الأموال والشركات الأجنبية من إيران بعد دخول العقوبات الأمريكية حيز التنفيذ، وهو ما يضع الاقتصاد الإيراني أمام تحدي الانهيار الحقيقي خلال الفترة القادمة، خصوصًا أننا مقبلون على الحزمة الثانية من العقوبات في نوفمبر المقبل.. فإننا نجد أن الرئيس السابق أحمدي نجاد هو الآخر يكرر دعوته للرئيس روحاني والإخوة لاريجاني بتقديم استقالاتهم للأسباب ذاتها، وهي الدعوات نفسها التي خرجت من أبرز المراجع المحسوبين على النظام في إيران، وهما حسين نوري همداني وناصر مكارم شيرازي، بل إنه إذا ما وجد المرشد الإيراني ومعه قادة الحرس الثوري الإيراني بأن الأمور أصبحت خارج السيطرة فإن المستقبل السياسي للرئيس روحاني نفسه سيكون أمام تحديات حقيقية، قد تطيح به من فوق رأس الهرم التنفيذي للدولة، مع إقرارنا هنا بأن الأمور قد لاتصل إلى هذا الحد، لما عودتنا عليه البراغماتية الإيرانية من التعامل بمصلحة كبيرة مع القوى الكبرى في مفاوضات اللحظة الأخيرة.
وما يزيد من سخونة المشهد الإيراني اليوم حدثان هامّان، قد يلخصان الحالة السياسية الإيرانية اليوم، الحدث الأول هو التعبير الذي استخدمه مرشد الثورة علي خامنئي عندما قال: «لا حرب ولا مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية»، مما يعطي إشارة واضحة إلى أن إيران اليوم ذاهبة باتجاه حرب استنزاف جديدة مع الولايات المتحدة، تستند إلى لعبة صفرية مفادها الانهيار أو الانتصار، هذا بالإضافة إلى تأكيده أن وكلاء إيران في المنطقة سيقومون بالمهام الموكلة إليهم، فالحشد الشعبي في العراق أجرى تغيرات كبيرة على مستوى عمليات الانتشار والسيطرة والتمركز، وتحديدًا على طول الخط الرابط بين طهران وسوريا، كما أن التصريحات التي صدرت عن زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله يوم 14 أغسطس 2018 جاءت متناغمة إلى حدٍّ كبير مع خطاب المرشد الإيراني، كما أن النظام السوري والميليشيات المتحالفة معه بدأت تعدّ العدة للهجوم على إدلب، في توجُّه -على ما يبدو- لإرباك الأوضاع في المنطقة وصرف الأنظار عن العقوبات الأمريكية. أما الحوثيون فقد صعّدوا في الآونة الأخيرة عملياتهم العسكرية في مضيق باب المندب، في توجُّه إيراني -على ما يبدو- لفتح جبهات جديدة، من أجل نشر حالة الفوضى في كل ساحات الشرق الأوسط.
أما الحدث الآخر فيتجسد في تقديم الرئيس روحاني تنازلات تاريخية عندما وقّع على اتفاقية «التنظيم القانوني لبحر قزوين» في يوم 12 أغسطس 2018، وذلك عندما تنازل عن نسبة كبيرة من الحقوق السيادية الإيرانية لصالح روسيا، في توجُّه -على ما يبدو- لشراء الموقف الروسي لا أكثر. فهذه الاتفاقية مثّلت حالة مربكة في التاريخ السياسي الإيراني، بل يمكن القول إن المرة الأولى التي وقعّت فيها إيران مثل هذا الاتفاق في عام 1841 من قِبل الملا عباس إيرواني، الذي كان وزيرًا في الحكم القاجاري، لعبت دورًا كبيرًا في ما بعدُ بإنهاء الحكم القاجاري في إيران، نتيجة لاعتبارها حالة من الإذلال الوطني، وهو ما شهدته صيحات عديد من النواب في مجلس الشورى الإيراني، الذين عبروا عن سخطهم من حركة روحاني الأخيرة.
فإيران على ما يبدو بدأت تتجه إلى المناورة السياسية في إطار الدوائر الضيقة، بل ولنقُل المغلقة، مع التلويح بالعصا الخشنة في بعض الأحيان. ومن ذلك ما أشار إليه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ردًّا على العقوبات الأمريكية الأخيرة، عندما قال: «إنّ إيران لن تغير سياساتها في الشرق الأوسط»، وفي ما يبدو أنه استمرار للعقلية الفوضوية في الشرق الأوسط، إذ لم تستطع إيران حتى اليوم التفريق بين «عقلية الثورة» و«عقلية الدولة» عند تعاملها مع دول المنطقة، وهو ما يجعل تصدّعها العظيم يفرض نفسه على سيناريوهات المستقبل.
تدرك إيران جيدًا أنها مقبلة على واقع صعب جدًّا بعد 6 أغسطس 2018، فالنظام السياسي في إيران يعرف جيدًا أنه المستهدف الرئيسي من نظام العقوبات الأمريكي، حتى وإن كان الهدف المعلن لهذه العقوبات هو معالجة الدور الإقليمي الإيراني في الشرق الأوسط، ففي النهاية النظام الإيراني هو المخطط لهذا الدور، فما الفائدة من معالجته؟ في حين تستمر نفس العقلية السياسية بحكم إيران. واليوم هناك كثير من التحديات الداخلية والإقليمية والدولية المتعلقة بإيران بدأت تتغير، في حين لا يزال النظام الإيراني يكابر ويقلل من حجم هذه التحديات، التي إذا أصبحت أمرًا واقعيًّا فإننا لن نكون أمام إيران جديدة فحسب، وإنما أمام شرق أوسط جديد بتفاعلاته وعلاقاته، بل قد نكون أمام نظام دولي جديد يشبه إلى حد كبيرٍ النظامَ الذي انبثق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد