تشهد الساحة العراقية فصلًا جديدًا من الانقسام بين أقرب الجماعات الشيعية المسلَّحة، التي تدين بالولاء لمرجعية قُم، على خلفية التعاطي مع تطوُّرات الساحة الإقليمية، منذ انفجار الصراع في الشرق الأوسط بفعل الحرب الإسرائيلية المشتعلة في قطاع غزة، وانخراط الجماعات المسلَّحة على خط الصراع. ويأتي ذلك بشنِّ تلك الجماعات هجمات ضدّ الأهداف الأمريكية، بذريعة الضغط على واشنطن وتل أبيب لوقف الحرب في غزة، وسط صراعات مستمِرَّة يشهدها البيت الشيعي العراقي، باستمرارية الصراع من دون حل بين أكبر تحالفين سياسيين شيعيين؛ الإطار التنسيقي والتيّار الصدري، تختفي من الساحة وتعود، حسب التطوّرات الداخلية والخارجية وتداعياتها على مواقف التحالفين تجاه القضايا الخلافية.
بالنظر إلى مركزية الجماعات المسلَّحة في الإستراتيجية التوسُّعية لإيران، باعتبارها العمود الفقري في تنفيذ المخطَّطات الجيوسياسية في ساحات التمدُّد والتوسُّع، لا سيّما في الساحة العراقية، وأداةً بارزة بيدِ إيران للحفاظ على مكتسباتها وتمرير بقية مخطَّطاتها التوسعية، فإنَّ وقوع توتُّرات، أمرٌ يقلق إيران من أن يتحوَّل تدريجيًا إلى اشتباكات تحِدُّ من فاعليتها كورقة ضغْط حاسـمة بيدها، وتزيد من تعقيد معضلاتها في العراق، ما يُثير التساؤلات حول طبيعة الانقسام بين الجماعات: هامشي أم مركزي؟ ومستوى حدَّته؟ والدور الإيراني للحدِّ منه، ومستقبل الصراع بين الجماعات المسلَّحة والقوّات الأمريكية بالساحة العراقية؛ التهدئة أم التصعيد المتقطِّع بدون تجاوُز قواعد الاشتباك التقليدية، أم التصعيد المتّصِل مع تجاوُز قواعد الاشتباك التقليدية؟
أولًا: قضايا الانشقاق والتوتُّر بين الميليشيات الموالية لإيران في العراق
لا يُعَدُّ الانقسام أو التوتُّر الراهن بين الجماعات المسلَّحة، التي تُدين بالولاء لمرجعية قُم، في الساحة العراقية، الأول من نوعه، حيث يعود تاريخ بداية الانقسامات والتوتُّرات بين الميليشيات في العراق إلى تاريخ مقتل قائد «فيلق القدس» بالحرس الثوري اللواء قاسم سليماني ورجل الحرس الثوري الأول في العراق أبو مهدي المهندس -اللذان لقيا حتفهما في غارةٍ جوِّية أمريكية قُرب مطار بغداد الدولي مطلع يناير 2020م- وكانت الانشقاقات بين الجماعات المسلَّحة مركزيةً يصعُب تقديم التنازلات فيها؛ لكونها دارت حول الصراع على المراكز والمواقع القيادية في «الحشد الشعبي»، بعد رحيل المهندس، والصراع على الموارد وحصْد الغنائم، والصراع حول تسمية رؤساء الحكومات العراقية، والصراع على استهداف القوّات الأجنبية في الساحة العراقية. وفيما يلي أبرز القضايا التـي يدور حولها الانقسام الجديد بين الميليشيات في العراق:
1. حجم الانخراط العسكري ضدّ الأهداف الأمريكية ضمن الحرب الدائرة في غزة
يتمحور الصراع الجديد الدائر بين الميليشيات حول «مستوى حجم الانخراط العسكري ضدّ الأهداف الأمريكية في الساحة العراقية»، بذريعة الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل؛ لوقف الحرب المشتعلة في غزة، وإن كانت المعطيات تُشير إلى أنَّ الأهداف الحقيقية لضرب الأهداف الأمريكية تتمحور حول إخراج القوّات الأمريكية من العراق. وقد أحدثت هذه القضية انقسامًا حادًّا بين الميليشيات؛ بسبب أنَّ حكومة محمد شيّاع السوداني، والرافضة بدورها لاستهداف القوّات الأمريكية، حكومة مشكَّلة من قِبَل الإطار التنسيقي، الذي يضُمّ بين مكوِّناته تحالفات سياسية ذات أذرُع مسلَّحة موالية لإيران. وبينها تلك التي تستهدف الأهداف الأمريكية؛ ما يشكِّل إحراجًا وضغطًا كبيرًا للحكومة العراقية مع الجانب الأمريكي، بما يعزِّز من أزماتها وتحدِّياتها؛ وقد انقسمت الميليشيات إلى مجموعتين:
الأولى: مؤيِّدة للانخراط العسكري ضدّ الأهداف الأمريكية بشكل كبير ضمن الحرب في غزة، من خلال استمرارية قصْف الأهداف الأمريكية، ويمثِّلها الأمين العام لكتائب حزب الله العراقي أبو حسين الحميداوي، وزعيم حركة النجباء أكرم الكعبي.
الثانية: معارضة للانخراط العسكري وحجمه، ويمثِّلها زعيم «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي، وزعيم «منظَّمة بدر» هادي العامري، ويرفضون التصعيد ضدّ الأهداف الأمريكية، ليس تأييدًا للحضور العسكري الأمريكي في العراق، وإنَّما لاعتبارات تتعلَّق بانضمام تحالفاتهم السياسية ضمن الإطار التنسيقي المشكِّل للحكومة العراقية الراهنة، وتداعيات ذلك على مستقبلها.
تنظُر الكتائب لتنامي نفوذ العصائب، منذ تشكيل حكومة السوداني، بقلقٍ كبير على مواقع سيطرتها ومستقبلها ضمن الذراع الإيراني المسلَّح في العراق، وفي المعادلة العراقية، حيث تُفيد الأوساط الإعلامية إلى تصرُّف الخزعلي بنوعٍ من الوصاية على الحكومة، لدرجة توصيفه من قِبَل رفاقه من بقية قادة الميليشيات ومن الشركاء السياسيين في الإطار التنسيقي، على أنَّه تحوَّل إلى «قطار يمكنه دهْس أيّ شخص يعترض طريقه»، وهو ما يُثير انتقادات الكتائب وامتعاضها، بنظرتها لذاتها على أنَّها من أكبر الميليشيات المؤثِّرة في تأثير المشروع الإيراني بالعراق وببقية ساحات التمدُّد والتوسُّع.
كذلك بعض قيادات الإطار التنسيقي، مثل نوري المالكي وزعيم «تيّار الحكمة» عمّار الحكيم ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وبعض قيادات الميليشيات أيضًا مثل الخزعلي، سعوا خلال المرحلة السابقة إلى إعادة تسويق الصورة الإيجابية لتحالفاتهم على الصعيد الخارجي، حيث التقى المالكي والحكيم والعبادي، السفيرة الأمريكية في العراق ألينا رومانوفسكي، كما التقى الخزعلي السفيرة الأسترالية في العراق باولا غانلي، ومن ثمَّ يرفضون تجاوُز قواعد الاشتباك والانخراط الواسع في الهجمات ضدّ الأهداف الأمريكية، ويرون أنَّ تجاوُز قواعد الاشتباك واستمرارية ضرْب الأهداف الأمريكية، من شأنه إنهاء مساعي تحسين الصورة خارجيًا، ويسهِّل لواشنطن حشْد الإجماع الدولي ضدّ تلك التحالفات بل والحكومة العراقية المحسوبة عليها؛ وبالتالي إمكانية فرْض العقوبات على الحكومة مستقبلًا.
2. الخلافات حول استمرارية/توقُّف العمليات العسكرية ضدّ الأهداف الأمريكية
لم يتوقَّف الخلاف بين المجموعتين السابقتين، وإنَّما امتَدَّ إلى داخل المجموعة الأولى المؤيِّدة للانخراط العسكري ضدّ الأهداف الأمريكية، حيث أعلنت كتائب حزب الله العراقي يوم 1 فبراير 2024م، تعليق هجماتها ضدّ الأهداف الأمريكية، ليس لتحوُّلٍ في المواقف الإستراتيجية، وإنَّما كمناورة تكتيكية لتخفيف حدَّة شكل ومستوى الرد الانتقامي العسكري الأمريكي، على خلفية اتّهام الإدارة الأمريكية لإيران وميليشياتها في العراق بالتورُّط في الهجمات العسكرية ضدّ القوات الأمريكية في قاعدة البرج شمال شرق الأردن بالقُرب من الحدود السورية في 28 يناير 2024م، والضغوط الإيرانية على الميليشيات لالتزامها بقواعد الاشتباك التقليدية وعدم التورُّط في قتل قوّات أمريكية؛ وذلك تجنُّبًا لردِّ فعلٍ أمريكي عنيف يرتِّب تداعيات خطيرة على مستقبل الميليشيات انتقامًا لمقتل ثلاثة جنود أمريكيين في قاعدة البرج.
في المقابل، وعلى ما يبدو، لم تلتزم حركة النجباء بموقف الكتائب في التوقُّف عن ضرْب الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، فقد سبق أن أعلن الأمين العام لميليشيا النجباء أكرم الكعبي، أنَّ «المقاومة الإسلامية العراقية قرَّرت تحرير العراق عسكريًا وحسْم الأمر. والقادم أعظم.. لا توقُّف، لا مهادنة، لا تراجُع». وفي السياق ذاته، شنَّت ما تُسمَّى بـ«المقاومة الإسلامية في العراق»، والتي تشتمل على جماعات مسلَّحة موالية لإيران في العراق، يوم 3 مارس 2024م، هجمات ضدّ مطار كريات شمونا في إسرائيل؛ الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة، بالطيران المُسيَّر.
يعود الخلاف بين الميليشيات، خصوصًا بين كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، إلى 26 نوفمبر 2023م، عندما نشر أبو حسين الحميداوي في بيانٍ له، أسماء الجماعات التي قصفت القواعد الأمريكية في العراق، دون ذكر اسم العصائب، حيث ذكر البيان اسم حركة النجباء وكتائب سيِّد الشهداء وأنصار الله الأوفياء، والأهمّ، حسب رأي العصائب، أنَّه دعا بقية الفصائل للالتحاق بصفوف الكتائب لإنهاء الوجود الأمريكي في العراق، دون ذكر العصائب؛ ما أدَّى إلى امتعاضها وانتقادها لموقف الكتائب، وإبداء مخاوفها الأمنية على مستقبل الميليشيات.
وارتباطًا بما سبق، صرَّح الناطق باسم «عصائب أهل الحق» جواد الطليباوي، أنَّ بيان كتائب حزب الله لم يُراعِ ثوابت المقاومة، ويعرِّضها للخطر والانكشاف أمام الخصم، ولم يُراعِ الظروف الأمنية. وقد اعتبر العديد من المراقبين بيان الكتائب لرُبَّما يهدُف إلى النيل من دور العصائب في مواجهة القوّات الأمريكية، بإحراجها أمام الرأي العام العراقي؛ للتأثير لرُبَّما على شعبيتها وحظوظ جناحها السياسي في أية استحقاقات انتخابية في المستقبل، للحدِّ من تمدُّدها في المعادلة العراقية.
ثانيًا: تأثير التحوُّل في سياسة الردع الأمريكي في التوتُّر بين الميليشيات المسلَّحة
تشهد سياسة الردع الأمريكي لوقف الهجمات المليشياوية ضدّ الأهداف الأمريكية في العراق وسوريا تحوُّلًا في مضمونها وأدواتها وقوَّتها ونتائجها، على خلفية تجاوُز الميليشيات لقواعد الاشتباك التقليدي المعمول بها منذ انفجار الصراع في الساحة الفلسطينية، على نحوٍ أدَّى إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكييين بقاعدة البرج، حيث توسَّعت الهجمات الأمريكية من مجرَّد قصْف أهداف عسكرية تابعة للميليشيات، إلى استهداف مواقع ورموز القيادة والسيطرة للتأثير عل هيكل القيادة، ومنصَّات إطلاق الصواريخ، ومقرَّات أجهزة الاستخبارات ومخازن الأسلحة والذخيرة، والطائرات بدون طيَّار، بما يحِدُّ من شنِّ هجمات ضدّ الأهداف الأمريكية. ولذلك، بلغ عدد الأهداف التي طالها القصف الأمريكي، نحو 85 هدفًا في 7 مواقع تتبع الحرس الثوري والميليشيات المسلَّحة بالعراق وسوريا، فيما استخدمت القوّات الأمريكية قاذفات «بي-1» بعيدة المدى، وأطلقت أكثر من 125 قذيفة دقيقة التوجيه. كما أنَّ حجم الخسائر في التمركُزات والأرواح في صفوف قادة ومقاتلي الميليشيات واسعة، حيث أكد مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن، مقتل 23 مقاتلًا في الضربات الأمريكية بسوريا ينتمون للميليشيات. وأفاد المتحدِّث باسم الحكومة العراقية باسم العوادي، بأنَّ الضربات في العراق أسفرت عن مقتل 16 شخصًا وإصابة 36 آخرين، فضلًا عن عدد من المفقودين، كما تمَّ استهداف مقرَّات أمنية لـ«الحشد الشعبي».
أمّا المرحلة السابقة، فقد اقتصر خلالها الردّ الأمريكي على ضربات جوِّية محدودة، ضدّ مخازن أسلحة وذخيرة تابعة للميليشيات، وفي أضيق الحدود استهداف مقاتلين، إلى جانب فرْض العقوبات على بعض الميليشيات وقادتها، مع ترْك مساحة أكبر للخيار الدبلوماسي لوقف الهجمات ضدّ الأهداف الأمريكية. وكان التركيز بشكل أكبر على الساحة السورية، وبشكل أقلّ على الساحة العراقية، وذلك في ظل الاتفاق الإستراتيجي بين واشنطن وبغداد.
تهدُف إدارة الرئيس بايدن من وراء التحوُّل في التصعيد العسكري تجاه الميليشيات المسلَّحة في العراق وسوريا، إلى توجيه ضربة انتقامية دقيقة، وليست ضربةً تحذيرية كما في المرات السابقة، تحمل رسائل ردْع قوية لإيران وميليشياتها المسلَّحة؛ لإضعاف الميليشيات وردعها عن التفكير باستهداف الأهداف الأمريكية من جديد، مع تجنُّب الصراع بشكل مباشر مع إيران، في توقيتٍ تدفع فيه التطوّرات الإقليمية على ضوء انفجار الصراع في غزة نحو حربٍ واسعة النطاق تعمل واشنطن على تجنُّب حدوثها، لِما لها من تداعيات كارثية على كافَّة أطرافها.
ثالثًا: الموقف الإيراني من الانقسام الميليشياوي تجاه الأهداف الأمريكية
بعد التحوُّل في سياسة الردع الأمريكي ضدّ الميليشيات وقادتها في العراق وسوريا، تغيَّر الموقف الإيراني تجاه حجم ومستوى الانخراط الميليشياوي العسكري ضدّ الأهداف الأمريكية، حيث بدت إيران أكثر تأييدًا للمجموعة الرافضة لتجاوُز قواعد الاشتباك التقليدية ولتوسيع الانخراط العسكري ضدّ الأهداف الأمريكية، لرُبَّما تحسُّبًا لحربٍ مفتوحة تتورَّط فيها إيران مع الولايات المتحدة، تكون لها تداعيات على إيران ومستقبل مشروعها الإقليمي. ولذلك، كشفت الأوساط الإعلامية عن زيارة أجراها قائد «فيلق القدس» الإيراني إسماعيل قآاني للعراق في 29 يناير 2024م، والتقى خلالها بمطار بغداد الدولي بقادة بعض الجماعات المسلَّحة، بعد يومٍ واحد من إلقاء واشنطن اللوم على إيران وميليشياتها وتحميلها مسؤولية مقتل الجنود الأمريكيين في قاعدة البرج؛ وذلك بهدف الضغط على قادة الميليشيات للحدِّ من الهجمات أو تخفيفها ضدّ الأهداف الأمريكية، لا سيّما مع تنامي التهديد والوعيد الأمريكي ضدّ إيران والميليشيات.
لرُبَّما أدرك صُنّاع القرار في إيران أنَّ مساحة التحرُّك الممنوحة للميليشيات ضدّ الأهداف الأمريكية، بدأت تجلب نتائج عكسية، تدفع نحو اتّساع نطاق حرب إقليمية كُبرى تخشاها إيران؛ ولذلك تعكس زيارة قآاني لبغداد عدم رغبة إيرانية في نشوب صراعٍ أوسعَ نطاقًا في الشرق الأوسط، تكون له تداعيات على النظام الإيراني ومشروعه الإقليمي، كما يعكس تراجُع الضربات الميليشياوية ضدّ الأهداف الأمريكية بالعراق بعد التحوُّل في الهجمات الأمريكية، امتلاك إيران مفتاح التصعيد والتهدئة في الساحة العراقية، بل وتحديد مسارات حجم الانخراط في الصراع، ويسلِّط الضوء أيضًا على حجم النفوذ، الذي تتمتَّع به طهران على ميليشياتها في العراق، وما سرعة استجابة الكتائب لمطلب إيران بسرعةِ إعلانها تعليق الهجمات ضدّ الأهداف الأمريكية، إلّا دليلٌ على ذلك.
تُدرك إيران أنَّ أيّة انقسامات بين ميليشياتها في العراق تشكِّل خطرًا كبيرًا على مستقبل مشروعها الجيوسياسي في الشرق الأوسط، لجهتين، الأولى: أنَّ هذا الانقسام يقع بين أبرز وأكبر الميليشيات الموالية لمرجعية قُم، التي تحمل لواء المشروع التوسُّعي الإيراني في الساحة العراقية، والثانية: أنَّه يدور في أهمِّ وأبرز ساحات التمدُّد الإيراني، ألا وهي الساحة العراقية؛ المركزية في الإستراتيجية الإيرانية لاعتبارات التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد، ضمن إستراتيجية إيرانية لمدِّ نطاق التمدُّد بكافَّة أشكاله وأدواته إلى بقية ساحات المشروع التوسُّعي، وتنفيذ الممرّ الإيراني الرابط بين طهران والبحر المتوسِّط.
ترى إيران أنَّ استمرارية الانقسام بين ميليشياتها، سيفقدها أهمّ ورقة ضغْط في العراق، كما سيفقدها الذراع التنفيذي الأقوى للتحكُّم في المشهد العراقي وإبقائه ضمن دائرة المشروع التوسعي الإيراني، كما سيؤثِّر سلبًا على تمرير المخطَّطات التوسُّعية في المنطقة العربية، خاصَّةً أنَّ غالبية هذه الميليشيات، تُدين بالولاء لمرجعية قُم، وترتبط مباشرةً بـ«فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، وتأتمر بأمره، وتنتشر في المناطق الإستراتيجية مثل المناطق النفطية، والطُرُق الرئيسية الدولية والمعابر الحدودية، التي تربط العراق بدول الجوار الإيراني، وفي المناطق الجنوبية ذات الظهير الشيعي.
رابعًا: مستقبل التوتُّر بين الميليشيات والقوّات الأمريكية في الساحة العراقية
يرتبط مصير حالة الانقسام بين الجماعات المسلَّحة العراقية، بعدد من السيناريوهات المستقبلية، التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بانخفاض أو تفاقُم التصعيد المتبادل بين هذه الجماعات والولايات المتحدة في الساحة العراقية، وهذه السيناريوهات المُحتمَلة هي:
1. السيناريو الأول هو الهدوء: هنالك ثلاثة مؤشِّرات تدعم هذا السيناريو، الأول هو: الخشية التي أبدتها إيران من تمادي الميليشيات والاستمرار في مهاجمة الاهداف الأمريكية وتوريطها في حرب مفتوحة مع الولايات المتحدة، ويبدو أنَّ الزيارة التي قام بها قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني إلى العراق ولقاءه بمسؤولي عدد من الفصائل المسلَّحة بمطار بغداد، كانت في هذا الصدد. وكشفت بعض المصادر أنَّه من دون تدخُّل قاآني المباشر، كان من المستحيل إقناع كتائب حزب الله العراقية بوقف عملياتها العسكرية ضدّ الأمريكيين لتهدئة التوتُّر. أمّا الثاني هو: رفْض الحكومة العراقية استهداف القوّات الأمريكية وقوّات التحالف الدولي، وقالت إنَّهم موجودون بدعوة رسمية من الحكومة، وتوعَّدت بملاحقة المتورِّطين، كما استنكرت التصعيد المستمِرّ، خصوصًا الهجوم الذي وقع على الحدود السوریة-الأردنية وراح ضحيته عدد من الجنود الأمريكيين. وبالتالي، فإنَّ تمسُّك الحكومة بموقفها الرافض استهدافَ الوجود الأمريكي في العراق والمنطقة، قد يشكِّل أحد أهمّ العوامل لاستمرار الهدوء. المؤشِّر الثالث هو: الخلاف بين الميليشيات حول استمرارية التصعيد من عدمه؛ ما قد يقود الى وقْف التصعيد ضدّ الأهداف الأمريكية ولو مؤقَّتًا.
ومن شأن سيناريو استمرار الهدوء أن يؤدِّي إلى توقُّف الانقسام بين الميليشيات العراقية، والتوصُّل إلى تفاهمات فيما بينها حول ضرورة تجنُّب كلّ ما من شأنه إضعافها، كما أنَّ إيران التي تحرص على استمرارية الأدوار، التي تضطلع بها هذه الميليشيات لخدمة أهداف مشروعها في العراق، ستكون أكثر حرصًا على عدم نشوب خلافات بينها.
2. السيناريو الثاني هو عودة الضربات الموسَّعة مع تجاوُز قواعد الاشتباك التقليدي، خاصَّةً في حال استمرار الحرب في قطاع غزة وتضييق الخناق على حركة حماس، التي تُعَدُّ أحد أهمّ مكوِّنات محور المقاومة، أو إذا قرَّرت إدارة بايدن شنّ هجمات موسَّعة ضدّ هذه الميليشيات، في محاولة لتوظيفها في الداخل الأمريكي قبيل الانتخابات الرئاسية المقرَّرة في نوفمبر المقبل، تحت ذريعة الرد على هذه الميليشيات لموقفها الداعم لحركة حماس في حربها ضدّ إسرائيل. حينها، ستجِد الميليشيات الرافضة للهدوء مسوِّغًا قويًا لاستئناف الضربات ضدّ الأهداف الأمريكية.
الرد الأمريكي في هذا السيناريو سيكون قويًا، خاصَّةً إذا تمَّ توجيه ضربات مميتة للقوّات الأمريكية، على غرار حادثة الأردن، التي راح ضحيتها 3 جنود أمريكيين، نهاية شهر يناير الماضي. ولوجود خلافات عميقة بين الميليشيات العراقية حول التصعيد ضدّ الأهداف الأمريكية من عدمه، سيؤدِي تجاوُز بعض هذه الميليشيات لقواعد الاشتباك التقليدية، إلى تفاقُم الانقسامات بينها.
3.السيناريو الثالث، والمرجَّح، هو الضربات المتقطِّعة وغير المتواصلة: يدعم هذا السناريو، وجود بعض الميليشيات الرافضة لعودة الهدوء، وفي الوقت ذاته استوعبت الدرس منذ الردّ الأمريكي الرادع انتقامًا لمقتل جنود أمريكيين في قاعدة البرج. ومن الممكن أن تُدير هذه الميليشيات ضربات متقطِّعة، وتشِنّ هجمات في فترات متباعدة ضدّ الأهداف الأمريكية، سواءً داخل العراق أو خارجه. ولكون هذه الهجمات متقطِّعة، قد تجِد الولايات المتحدة نفسها مضطرةً للالتزام بقواعد الاشتباك التقليدية، والرد بشكل محدود دون التصعيد.
قد لا يؤدِّي هذا السيناريو إلى تزايُد حالة الانقسام، لكنَّه سيؤدِّي إلى تراجُع حدَّته؛ لكون الهجمات ستكون محدودةً، والرد الأمريكي سيكون محدودًا كذلك.