في خضم الفوضى ونُذر الحرب.. السعودية تقود تحالفًا عالميًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية

https://rasanah-iiis.org/?p=36505

بينما لا يعلو صوت فوق صوت الصواريخ والمدافع في الشرق الأوسط، ويكاد يختفي عن المشهد أيّ طرْح عقلاني أو مبادرات حقيقية من أجل وقف حالة «الجنون» الراهن، كما يصفها رئيس السُلطة الفلسطينية محمود عباس، نجحت السعودية إلى جانب أطراف أوروبية في تمرير مبادرة من أجل خلْق نقطة توازن في الصراع الدامي الذي يعصف بالأمن والاستقرار في الشرق الأوسط. إذ أعلن وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في 26 سبتمبر 2024م، على هامش اجتماعات الجمعية العامَّة للأُمم المتحدة عن تشكيل تحالُفٍ عالمي؛ للدفع نحو حل الدولتين كإطار لتسوية الصراع في فلسطين المحتلَّة. وقد وجدت هذه الدعوة زخمًا واستجابةً واسعة، حيث انضمَّت للتحالف حتى الآن 90 دولة، من الدول العربية والإسلامية والشُركاء الأوروبيين. ومن المتوقَّع أن تشهد الرياض وأوسلو خلال الفترة المقبلة، الاجتماعات الأولى لهذا التحالف، والذي يُعَدُّ بمثابة جهد معاكس لديناميات الصراع ومساراته الراهنة في الشرق الأوسط.

أولًا: تحالُفٌ مهم في سياق إقليمي ودولي مضطرب

يكتسب هذا التحالف أهمِّيته، بالنظر إلى حالة الجمود الراهن وفشل كافَّة المبادرات الدبلوماسية من أجل وقْف الحرب، بل مع توقُّع تمدُّد الصراع ودخوله مراحل أكثر خطورةً قد تعصف بالأمن والاستقرار الإقليمي بل والعالمي، لا سيّما أنّ إسرائيل تنظر إلى هذه المعركة على أنَّها مصيرية وصفرية، وأنَّها يجب أن تضع حدًّا لكافَّة التهديدات التي تحيط بها. كما أنَّ إسرائيل التي يهيمن عليها اليمين المتطرِّف، تجِد في الصراع فُرصةً من أجل تنفيذ مشروعات توراتية مُتخيَّلة لا تقفُ حدودها على فلسطين المحتلَّة والمقدَّسات الإسلامية، بل إنَّ قيادتها في غطرسةٍ متناهية، تحاول أن تفرض من خلال هذا الصراع واقعًا جديدًا على الشرق الأوسط ككُلّ. هذه التصوُّرات لا مجال فيها لأيّ حقوق للفلسطينيين، في محاولة لاستغلال الواقع الراهن والمكاسب العسكرية على الأرض؛ من أجل تجاوُز الحقوق التاريخية والدولية المُعترَف بها للفلسطينيين.

كما أنَّ التحالف يُعَدُّ محاولةً لخلق توازُن جديد، في مواجهة انحياز الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل في هذا الصراع، والتي قد تكاد تكون قد تخلَّت عن التزاماتها التاريخية تجاهَ الفلسطينيين، ولا تبدو قادرةً على لعِب أيّ دورٍ وسيط يقود إلى التهدئة وخفْض التصعيد، بل إنَّها توفِّر لإسرائيل الدعم العسكري والمادِّي، جنبًا إلى جنب الغطاء الدبلوماسي، الذي يحولُ دونَ الضغط على إسرائيل أو إدانتها. إذ يمنح هذا الدور إسرائيل حرِّيةً كبيرة في الحركة، ولا يفرض على سلوكها أيّ قيود، مستفيدةً من الحماية الأمريكية، التي تؤمِّنُ لها الإفلات من العقاب. ورُبَّما تجِد الولايات المتحدة في هذا الصراع فُرصةً مواتية لتنفيذ أجندتها في الشرق الأوسط، وتسخير الفوضى الإقليمية؛ من أجل خلْق بنية أمنية إقليمية جديدة تحِدّ من نفوذ الصين وروسيا، وتخدم مصالحها على المدى الطويل.

من جهة أخرى، فإنَّ التحالف يأتي في وقتٍ يبدو أنَّ النظام الدولي القائم على القواعد لم يعُد فاعِلًا؛ فثلاثة قرارات أُممية من أجل وضْع حدٍّ للصراع اصطدمت بـ «الفيتو الأمريكي»، وهو ما يُشير إلى جمود المؤسَّسات الدولية عن النهوض بمهامها في حفظ الأمن والاستقرار الدولي، في حين أنَّ الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي بصورة رُبَّما لم يشهدها النظام الدولي منذ تدشينه وازدواجية المعايير في التعاطي مع الصراع في الشرق الأوسط، تُشير إلى أنَّه من الصعوبة التعويل على المجتمع الدولي في لعِب أيّ دورٍ بارز في الأزمة الراهنة. وهذا ما دعا وزير الخارجية السعودي إلى التساؤل عن مصداقية النظام الدولي، قائلًا: «يجب أن نسأل أنفسنا: ما الذي تبقَّى من مصداقية وشرعية النظام العالمي، عندما نقف عاجزين عن وقْف آلة الحرب، بينما يُصِرُّ البعض على تطبيق القانون الدولي بشكلٍ انتقائي، في انتهاكٍ صارخ لأبسط معايير المساواة والحرِّية وحقوق الإنسان».

ثانيًا: دورٌ سعودي في إعادة ضبْط بوصلة الصراع

يكشف التحالف عن رؤية واضحة لدى صانع القرار السعودي، وقراءة واعية للتطوُّرات المحيطة بالأزمة، وإدراك للتحدِّيات والفُرَص الكامنة في الصراع الراهن، وجهد متجدِّد للتعاطي مع القضية المستعصية على التسوية، مع الأخذ بالاعتبار المتغيِّرات الراهنة المحيطة بالصراع. فبينما هناك محاولة لفرض أمرٍ واقع على المملكة تحديدًا، بشأن الصراع الراهن والقضية الفلسطينية، فإنَّ المملكة من خلال هذه المبادرة تؤكِّد على موقفٍ راسخٍ غير قابلٍ للمساومة والضغط، ويعكس التزامَ المملكة بقضايا الأُمَّة العربية والإسلامية، وفي مقدِّمتها القضية الفلسطينية.

كما يُشير تدشين التحالف إلى محورية دور المملكة دوليًا، ودورها في التأثير على مسار الصراع، وإمكانياتها الدبلوماسية في استعادة التوازن بشأن القضية. وحيث أنَّ إسرائيل والولايات المتحدة ترغبان في تجاوُز الاستحقاق التاريخي للفلسطينيين وحقِّهم في قيام دولتهم المستقِلَّة، بل والضغط على الدول العربية، بما في ذلك المملكة، لأجل قبول هذا الواقع والتراجع عن التزاماتهم تجاهَ الفلسطينيين، فإنَّ المملكة ومن خلال إقرار هذه المبادرة تُعيد ضبْط البوصلة، والتأكيد على المرجعيات الرئيسية المتعلِّقة بالقضية، والموقف الراسخ بشأن التمسُّك بالمبادرة العربية كإطارٍ للتسوية. وهذا ما أكَّد عليه سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قبيل الإعلان عن التحالف في 25 سبتمبر 2024م، بقوله: «إنَّ المملكة لن تتوقَّف عن عملها الدؤوب لإقامة الدولة الفلسطينية المستقِلَّة وعاصمتها القُدس الشرقية»، وأكَّد على أنَّ المملكة لن تُقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك.

يكشفُ التحالف كذلك عن فاعلية الدور السعودي إقليميًا وعالميًا، إذ تجِد المبادرة تجاوبًا دوليًا. وتمتلك السعودية الإمكانيات من أجل منْح المبادرة الزخمَ اللازم، حيث تحتلُّ المملكة مكانةً خاصَّة على الصعيدين العربي والإسلامي، كما أنَّها تمتلك مكانةً خاصَّة على الصعيد الدولي. وهذا سر نجاح المبادرة، التي تجاوبت معها 90 دولة، ويتوقَّع أن يزيد هذا العدد مع بداية اجتماعات التحالف، ورُبَّما يقود ذلك إلى تحالُفٍ مهمٍ ومؤثِّر على مسار الصراع الراهن، وعلى مستقبل التسوية السياسية.

تعكس المبادرة في جانبٍ منها، تنسيقَ المملكة رفيعَ المستوى مع الجانب الأوروبي، الذي يبدو أنَّ لديه موقفًا عقلانيًا ومساحةً يلتقي فيها مع الموقف السعودي المتوازِن من الأزمة. ومن المعروف أنَّ الاتحاد الأوروبي أحد أطراف الرباعية التي كانت على صِلة وثيقة بالقضية الفلسطينية، وكان لديه تحفُّظٌ كبير على نهْج إسرائيل المراوِغ فيما يتعلَّق بالاستيطان، والتراجع من الالتزامات، وكذلك العدوان على الفلسطينيين قبل الحرب الأخيرة وبعدها، وهو أمرٌ قد يخلقُ جبهةً مهمَّةً ومؤثِّرة على مسار الصراع.

ثالثًا: نتائجٌ وتأثيراتٌ متوقَّعة

تُعَدُّ المبادرة السعودية بمثابة طريق ومسار بديل عن محاولة إسرائيل فرْض أمر واقع ومسار جديد، بشأن القضية الفلسطينية، وما هو مُتوافَقٌ عليه دوليًا وعربيًا بشأن حل الدولتين، وحقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقِلَّة وعاصمتها القدس الشرقية. كما أنَّ التحالف يقدِّم مسارًا بديلًا عن مسار السلام التقليدي، الذي كانت تقودُه الولايات المتحدة، والذي ثبُت أنَّه ليس فاعِلًا وغير مناسب، في ظل التطوُّرات الراهنة للصراع، ومواقف الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا يتناسب كذلك مع التغيُّرات في البيئة الإقليمية وتوازُنات القُوى العالمية. وهذا ما أكَّد عليه وزير الخارجية السعودي، بقوله: «تنفيذ حل الدولتين، هو الحل الأمثل لكسر دائرة الصراع والمعاناة، وفرْض واقعٍ جديد تتمتَّع فيه المنطقة بأكملها، بما في ذلك إسرائيل، بالأمن والتعايُش».

كما تشكِّل المبادرة ورقةَ ضغْطٍ مهمَّة على إسرائيل، التي ترغب في التنصُّل من الالتزامات تجاهَ إقامة الدولة الفلسطينية، وتُصِرُّ على حرب الإبادة التي تقوم بها بحقِّ الشعب الفلسطيني، لا سيّما أنَّ هناك تجاوُبًا دوليًا كبيرًا مع المبادرة. ومن المُتوقَّع أن يشهد التحالف حضورًا دوليًا قويًا من كافَّة دول العالم، وقد يسهم ذلك في خلْق رأي عام عالمي ضاغِط على الولايات المتحدة وإسرائيل، ويكشف في الوقت نفسه عجْزَ النظام الدولي وعجْزَ مؤسَّساته.

ولا شكَّ أنَّ التحالف قد يسهم في تشكيل رأي عام عالمي داعِم لحقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما سيكون بمثابة ورقة ضغْط كبيرة على إسرائيل في ظل تدهور سمعتها العالمية، وتآكل سرديتها حول المظلومية التاريخية.كما أنَّ صيغة هذا التحالف، رُبَّما تقطع الطريق على جعْل حقِّ الفلسطينيين في الدولة مجرَّد وعْد مؤجَّل، بل التأكيد على أنَّ إقامة الدولة الفلسطينية المستقِلَّة هو حقٌّ أساسي وأساسُ السلام، وليس مجَّرد نتيجة نهائية يتِم التفاوض عليها في عملية سياسية بعيدة المدى، بحسب ما أكَّد وزير الخارجية السعودي.

كذلك، فإنَّ الجهود السعودية قد تجِد صداها في خلْق إجماعٍ عالمي بشأن القضية الفلسطينية، ودفْع مزيد من الدول للقيام بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ويؤكِّد ذلك ما أعلنه وزير الخارجية النرويجي إسبن بارث إيدي، ردًّا على المبادرة السعودية في 28 سبتمبر 2024م، بأنَّ «هناك إجماعًا متزايدًا في المجتمع الدولي من الدول الغربية، ومن الدول العربية، ومن الجنوب العالمي، على أنَّنا بحاجة إلى إنشاء سُلطة فلسطينية، وحكومة فلسطينية، ودولة فلسطينية، ويجبُ الاعتراف بالدولة الفلسطينية». ومن المعلوم بأنَّ هناك 149 دولةً من أصل 193 دولةً عضوًا في الأُمم المتحدة، تعترفُ بالدولة الفلسطينية.

خلاصة

في الأخير، يمكن القول إنَّ التحالف لا يزال أمام اختبار مهم، لا سيّما أنَّه يواجه تحدِّيات رئيسية، خصوصًا أنَّه يمثِّل جهدًا معاكسًا لمسار التصعيد الراهن. وهو محاولة لإعادة الاعتبار للتسوية السياسية المبنية على قرارات الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي، وهو الإطار الذي ترغب إسرائيل في تجاوزه، وخلْق واقع جديد لا مجال فيه لفكرة الدولة الفلسطينية وذلك استنادًا إلى تفوُّقها العسكري، وبعض نجاحاتها العسكرية. فضلًا عن أنَّه يأتي في سياق دولي مضطرِب، تفتقر فيه المؤسَّسات الدولية إلى الفاعلية، وخلل كبير في ميزان القوَّة العالمي تستغِلّه إسرائيل؛ من أجل المُضي قُدُمًا في تنفيذ أجندتها، دون الالتفات إلى أيّ مبادرات دولية لا تخدم أهدافها وتطلُّعات حكومتها المتطرِّفة.

 لكن مع ذلك، يمكن القول إنَّ هذا التحالف جهدٌ مهم لا يترك الساحةَ أمامَ وجهة نظرٍ واحدة. ومن المتوقَّع أن يكون المسار الأكثر مصداقية، لا سيّما أنَّ التحالف يُعَدُّ بمثابة بديل أكثر عقلانيةً وواقعية تقودُه المملكة، وهو تحالُفٌ يستمِدّ حُجَّته من حقيقة مفادها استحالة الخروج من دائرة الصراع الراهن دون تسوية عادلة على أساس حل الدولتين، بما يضمن الأمن والاستقرار على المدى الطويل في الأراضي المحتلَّة، وفي الشرق الأوسط. كما أنَّه مشروعٌ يعكس قراءةً واعية للتاريخ، بأنَّ الانتصارات العسكرية والإقصاء والتهميش لن تكون حاسمةً لتحقيق الأمن المُستدام والتنمية، والشاهد على ذلك أنَّ مقاومة الاحتلال ما إن تخفُت حتى تعود أقوى ممّا كانت عليه. لهذا؛ يبدو التحالف، الذي تلعب فيه السعودية دورًا بارزًا ورائدًا، فُرصةً من أجل تجاوُز حالة الاستعصاء التي تحيطُ بالصراع في الشرق الأوسط، وفُرصةً من أجل دفْع المنطقة بعيدًا عن حالة الاحتراب، التي لا يمكن معرفة مدى اتّساع نطاقها. والأهم من ذلك، أنَّ هذا التحالف يعزِّز مصالح المملكة وخياراتها، ويحدِّد خطّها الأحمر فيما يتعلَّق بتقدير توجُّهاتها نحو إسرائيل والقضية الفلسطينية، بعيدًا عن ضغوط الساسةِ الأمريكيين وحساباتهم الانتخابية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير