لم تكن نظرية ولاية الفقيه سوى حلقة من حلقات متلاحقة في الفكر السياسي الشيعي وطبيعة علاقة الفقيه بالسلطة، ويعتبر الفقيه الشيعي أحمد النراقي (ت.1829م) من أبرز ملامح هذه النظرية، حيث لعب دوراً مهماً في نقل الفكر السياسي الشيعي لمرحلة جديدة من حيث طبيعة علاقة الفقيه بالسلطة، وتطوير نظرية النيابة العامة من «إجازة الملوك» إلى «تصدي الفقهاء» أنفسهم للحكم، متجاوزاً بذلك نظرية «الانتظار»، ليعيد بلورة نظرية النيابة العامة لتتحول من نيابة الفقيه عن الإمام الغائب والتي تحكمها نظرية «الغيبة والانتظار» إلى «ولاية الفقيه المطلقة»، ومن ثم جاء آية الله الخميني لاحقاً، وأخذ تلك الحلقة التي أضافها النراقي للفكر السياسي الشيعي من الحيز النظري إلى التطبيق العملي، محاولاً الوصول بها إلى أعلى درجاتها، وهي ولاية الفقيه المطلقة، ووصول الفقيه إلى أعلى سلم السلطة.
وعلى رغم مما يسوقه المؤيدون لولاية الفقيه المطلقة من أدلة كما يرونها على أصالة نظرية ولاية الفقيه المطلقة، إلا أن هناك العديد ممن هم داخل دائرة الفكر السياسي الشيعي يرون في هذه النظرية مجرد اجتهاد من قبل الخط الأصولي، وتأتي بوصفها نظرية مماثلة لنظريات أخرى في هذا الفكر، ولذلك فإننا سننطلق في هذه الدراسة لاستعراض بعض القراءات المختلفة لعلاقة الفقيه الشيعي بالسلطة السياسية إضافة إلى النظريات الأخرى التي تعالج ذلك.
» نظريات الفكر السياسي الشيعي
يرى معارضو ولاية الفقيه المطلقة أن تعدد آراء الفقهاء حول ماهية الحكومة الإسلامية وتنوع مشاربها يدعو للقول إن أياً من وجهات النظر هذه لا تُعد ضرورة دينية أو مذهبية أو فقهية، ويمكن لأي شخص الاعتقاد بأية نظرية يؤمن بها ويدافع عنها. ولذا يدافع هذا الاتجاه عن «تعدد القراءات الدينية وتنوعها»، وهو ما يرفضه مؤيدو ولاية الفقيه المطلقة، ويعتبرون ذلك مساساً بجوهر الدين، والالتزام بنظرية ولاية الفقيه المطلقة.
ولما كانت مسألة الحكومة الإسلامية نوعاً من «المعرفة الدينية»، كان لزاماً وجود عدد من الأطروحات حول هذه المسألة، فجوهر الدين يأتي في صورة «ظواهر إلهية ثابتة لا تتغيّر»، أما المعرفة الدينية، فإنها تقبل التأويل وتعدد القراءات، نظراً لما لـ»الظاهرة الإنسانية» من أثر على تلك المعرفة، ولذا يرى رافضو ولاية الفقيه المطلقة، باعتبارها جوهر الدين والجابة لغيرها، ضرورة عدم الخلط بين «المعرفة الدينية» و»جوهر الدين»، فالفهم والمعرفة هما نتاج جهود الفقهاء في تحقيق ودراسة وتفسير النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وتعاليم الأئمة في المذهب الشيعي، مستعينين في ذلك بمناهج القواعد والصرف والاستنتاج والفلسفة، وإلمامهم بالنواحي الإنسانية والطبيعة البشرية.
ومن هنا، فإنه يتضح أن تفسير الدين دائماً تواجهه ظروف خاصة تدفع أولئك المجتهدين لطرح فهمهم الخاص للعالم والطبيعة البشرية، وهذا ما يؤدي إلى ما يمكن تسميته بـ “المرونة»، أو ما يطلق عليه نظرية «القبض والبسط»*، والتي أصبحت من النظريات المهمة في إيران، وخاصة عند المستنيرين الدينيين[1].
وانطلاقاً من ذلك، يجد هذا الاتجاه من نظرية ولاية الفقيه نظرية سياسية لم تأتِ بوصفها نتاج علم الفقه، وإنما نظرية قائمة على علم الكلام وتاريخ الإمامة والنبوة. ولما كانت مسألة النبوة والإمامة من المسائل الكلامية، كان لا بد من تناول نظرية ولاية الفقيه -التي هي في الوقت نفسه نظرية سلطة -في إطار علم الكلام[2].
ومن هنا بدأ مفكرو هذا الاتجاه ومستنيروه في طرح نظريات حول شكل وماهية الحكومة الإسلامية، وسنتناول هنا أهم تلك النظريات التي تؤكد السيادة الشعبية والديمقراطية.
» نظريات الحكم البديلة لنظرية ولاية الفقيه المطلقة
أ. السلطة والسيادة الشعبية مع الرقابة المرجعية:
يستعين محسن كديور -أحد أبرز مستنيري هذا الاتجاه -بهذه النظرية التي طرحها آية الله باقر الصدر قبل وفاته قبيل نجاح الثورة الإسلامية في إيران. وجاءت هذه النظرية باكورة للنظريتين السابقتين اللتين طرحهما الصدر، أي «الحكومة المنتخبة على أساس الشورى»، و»الولاية العامة المنصبة للفقهاء»، لينتهي إلى هذه النظرية التي عرفت بنظرية «الجمهورية الإسلامية»، والقائمة من وجهة نظره على عنصرين هامين هما:
1. الحق الإلهي وخلافة الإنسان.
2. الرقابة الدينية [3].
وتقوم أسس نظرية سيادة الشعب مع الرقابة المرجعية على الآتي:
• الله تعالى مصدر لجميع السلطات، والولاية الحق هي التي تأتي من الله عز وجل.
• إدارة المجتمع الإنساني والقيام بأموره شأن من شؤون الخلافة الإلهية التي أوكلت للإنسان، وهي أمانة إلهية كما وصفها القرآن، ويراعى فيها تنفيذ أوامر الله وأحكامه وتطبيق قوانينه.
• الأنبياء عليهم السلام والأئمة المعصومون هم حجج الله على الناس لحفظ الخلافة الإنسانية وهدايتها وضمان عدم انحرافها، وهم المرجع الفكري والتشريعي للمجتمع الإنساني السليم [4].
أما في زمن الغيبة الكبرى، فيرى آية الله باقر الصدر أن مهمة حفظ الخلافة الإلهية الإنسانية تُوكَل إلى المراجع الدينية والفقهاء الذين يتمتعون بنوع من التعيين النوعي، بمعنى أنه تم تحديد الشروط العامة التي يجب أن يتمتع بها هؤلاء الفقهاء من قبل الشارع.
ونظراً لعدم تمتعهم بالعصمة، يعوّض هؤلاء ذلك بالإنصاف والعدل، وبدلاً من «العلم اللدني» الذي يتمتع به المعصومون، يأتي الاجتهاد وسيلة لهؤلاء الفقهاء في ذلك.
والفرق هنا بين الأئمة المعصومين والفقهاء يكمن في أن الأئمة المعصومين هم القادرون على الجمع بين كونهم حججاً وخلفاء، وفي الوقت نفسه يتمتعون بالخلافة والرقابة. أما في زمن الغيبة، فمراجع التقليد هم من يتولون العملية الرقابية، فيما تتبلور الخلافة في الشعب[5].
ويمكن للفقيه كما يرى آية الله باقر الصدر، الجمع بين الأمرين (الرقابة والخلافة) عندما يقع المجتمع تحت سيطرة سلطان جائر -في المفهوم الشيعي-فعندها تُوكل وظيفة الخلافة إلى المرجع الديني، إلى جانب الرقابة والإشراف، حتى تستطيع الأمة تحت لواء هذا المرجع الديني، التخلص من السلطان الجائر. عندها تنتقل الخلافة الإلهية إلى الأمة، ويعود المرجع الديني مرة أخرى إلى وظيفة الرقابة والإشراف.
وينتقل بعد ذلك آية الله محمد باقر الصدر لتأطير هذا النظام الإسلامي وفق نظرية سياسية متكاملة، حيث بدأ بالدستور الذي تعتبر الشريعة الإسلامية مصدره، وعليه يجب أن يأتي الدستور وفق الأسس التالية:
• اعتبار الأحكام الشرعية الثابتة والمتفق عليها من قبل الفقهاء والمتعلقة بالشؤون الاجتماعية جزءاً ثابتاً من الدستور ولا تتغير.
• الأحكام الشرعية التي تحتمل اجتهادات مختلفة، تقع على عاتق السلطة التشريعية مهمة تحديد الموقف الشرعي منها، وتختار الأنسب منها بناء على المصلحة العامة.
• تراعي السلطة التشريعية مبدأ المصلحة العامة في إقرار القوانين والأحكام والمسائل التي لا يكون للشارع حكم فيما هو حرام منها وما هو حلال، بشرط عدم تعارضها مع الدستور[6].
أما الشعب فله دور مهم في نظرية آية الله محمد باقر الصدر -وهو الدور الذي يستعين به هذا الاتجاه في طرح نظريات بديلة لنظرية ولاية الفقيه المطلقة -فبعد أن تتحرر الأمة من حكم السلطان الجائر، تنتقل إليها الخلافة الإلهية القائمة من وجهة نظره على القاعدتين المستنبطتين من القرآن وهما:
• قاعدة الشورى، وتكون في الأمور التي لا نص فيها.
• قاعدة التساوي في الولاية للمؤمنين والمؤمنات، فخلافة الأمة لذاتها تتبلور في تفعيل الشورى ورأي الأغلبية عند اختلاف الآراء وتعددها.
ولتفعيل ذلك الدور تتولى السلطة التشريعية والتنفيذية، تطبيق هاتين القاعدتين في إطار الدستور، وتكون الأمة مسؤولة أمام الله في تطبيق خلافتها عن طريق هاتين السلطتين.
أما فيما يتعلق بآلية تفعيل الخلافة الإلهية للأمة، فإنها تتم من خلال:
1- انتخاب رئيس الدولة بعد تأييد صلاحيته عن طريق المرجع.
2- انتخاب أعضاء البرلمان والذين يناط بهم:
• اختيار الفتوى الأنسب في مواضع تتعدد فيها فتاوى المجتهدين بناء على المصلحة العامة.
• سن القوانين في المواضع التي لا يكون للشارع فيها حكم.
• الإشراف على تطبيق الدستور والقوانين، ومراقبة عمل السلطة التنفيذية[7].
ويأتي على رأس هذا النظام الولي الفقيه بوصفه نائباً عن الإمام، لأنه قبل كل شيء جزء لا يُجتزأ من الأمة الإسلامية، وانطلاقاً من ذلك فهو كبقية الشعب خليفة الله على الأرض. أما من حيث كونه مرجعاً، فإنه يتولى المهام التالية:
• الرئيس الأعلى للحكومة الإسلامية والقائد العام للقوات المسلحة.
• المصادقة على انتخاب رئيس الدولة، وهي تأتي تأكيداً لمراعاة تطبيق الدستور، ويكون رئيس السلطة التنفيذية وكيلاً للمرجع في الحكومة، كما تعطى هذه الوكالة لرئيس السلطة التشريعية.
• تأسيس مجلس أعلى للرقابة.
• تأسيس ديوان المظالم[8].
ولكي يقوم الولي الفقيه، بحسب نظرية الصدر، بتنفيذ واجباته على أكمل وجه، عليه تشكيل مجلس استشاري يضم مائة عضو من العلماء والمفكرين، ولا يقل عدد المجتهدين فيه عن عشرة أعضاء.
وأطلق آية الله الصدر على نظريته هذه اسم «الجمهورية الإسلامية» والتي تتحقق فيها ما يسعى له، وهي «السيادة الشعبية مع الرقابة المرجعية»، فالجمهورية الإسلامية هي حكومة مقيدة بالدستور، وتقوم جميع أركانها ومؤسساتها، إما بنص شرعي، أو باختيار شعبي، أو ممازجة بين الاثنين.
ويرى محسن كديور أن هذه النظرية تتميز في اعتبارها الحقوق السياسية للشعب مستقلة عن ولاية الفقهاء بصورة واضحة ورسمية، حيث يُعد الشعب في هذه النظرية خليفة الله على الأرض، وتعهد له إدارة شؤونه الاجتماعية والسياسية. والمراد من مفهوم الشعب هنا هو الجنس البشري المجرد من اللون والعرق والقومية.
كما تقوم النساء جنباً إلى جنب مع الرجال في الخلافة الإلهية، فالولاية الإيمانية متساوية، ولا فرق بين الجنسين.
أما السلطة القضائية، فتكون في هذه النظرية تحت إشراف وسيطرة المرجعية الصالحة، وهي تتجلى في صورة مؤسسة، وليس شخصاً بعينه، وعلى رأس هذه المؤسسة فقيه جامع للشرائط [9].
كما يلاحظ في هذه النظرية، عدم إضفاء القداسة على الولي الفقيه، وإنما تعتبره فرداً مثل بقية الشعب، وهو ما يتيح مساءلته، بل إقصاءه عن منصبه إذا تطلب الأمر. كما أن المرجعية «مؤسسة رقابية إشرافية، وليست تنفيذية»، ويتولى الشعب هنا مهمة تنفيذ الخلافة الإلهية تحت تلك الرقابة المرجعية.
وتزيد هذه النظرية من هامش فاعلية المجتمع للقيام بدوره في السلطة، ولعل وجود تسعين عضواً يحملون مختلف التخصصات إلى جانب الأعضاء العشرة من المجتهدين في المجلس الاستشاري للولي الفقيه، يؤكد أدوار أطياف الشعب المختلفة في الحياة السياسية.
ب. الحكومة الدينية الديمقراطية
ينادي عدد من مستنيري هذا الاتجاه، وعلى رأسهم عبدالكريم سروش بـ»الحكومة الدينية الديمقراطية» – الحكومة القائمة على الإيمان القلبي من وجهة نظره – في مقابل ما يسمى بـ»الحكومة الفقهية»، حيث يرى سروش أن الحكومة الدينية تحتمل أبعاداً مختلفة، وليست مقتصرة على «الأبعاد الفقهية» وحسب.
كما أنها ليست تلك الحكومة القائمة على «آراء الفقهاء والحوزة الدينية»، بحيث تكون هذه الأخيرة وحدها القادرة على تناول موضوع الحكومة، لأن «مسألة الحكومة الدينية موضوع يتجاوز الجوانب الفقهية، وأن الطريقة الصحيحة لتناولها تأتي من خلال علم الكلام، وكذلك الحال بالنسبة لنظرية ولاية الفقيه، فحتى القائلون بهذه النظرية يعتقدون أن ولاية الفقيه جزء من الإمامة، ولها ما للرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة، وهي خارج دائرة الفقه، ذلك لأن مسألة النبوة والإمامة من المسائل الكلامية، ولا تندرج تحت المسائل الفقهية» [10]، وهو ما يذهب إليه محسن كديور بقوله: «لا يوجد لولاية الفقيه أساس معتبر في الفقه الإسلامي. أسس هذه النظرية فقهاء أجلاء عن طريق قراءتهم الخاصة لبعض المصادر الإسلامية. إن رفض ولاية الفقيه لا يعني الإخلال بالتعاليم والواجبات الإسلامية» [11].
» الفرق بين الحكومة الفقهية والحكومة الدينية عند سروش
يعتمد سروش في تحليله للحكومة الدينية الديمقراطية على أن الدين القويم هو القائم على الإيمان والعمل، ويقول في ذلك: «إن إيمان الشخص رهنٌ بإيمان قلبه. فما أكثر تشابه أعمال المؤمن وغير المؤمن، بمعنى أن عمل الاثنين (المؤمن وغير المؤمن) في ظاهره متشابه، ويكمن الفرق بينهما في أن عمل المؤمن يسبقه الإيمان والاعتقاد، أما غير المؤمن، فتسبق عمله أمور أخرى. وبناء على ذلك يمكن التسليم بأن الإيمان والاعتقاد القلبي يحتل الجانب الأهم والأعظم للتدين. ولذلك، فإن «الحكومة الدينية» تعتمد في الأساس على الإيمان والاعتقاد الديني، ثم على العمل الظاهري للمؤمنين.
وانطلاقاً من ذلك، ونظراً لماهيتها الدينية، تعتمد الحكومة الدينية على إيمان الناس أكثر من اعتمادها على عملهم، ولذا فالإيمان يعتبر منطلق الحكومة الدينية، وليس الفقه، أي أن الحكومة الدينية تختلف عن الحكومة الفقهية».[12]
وعلى الجانب الآخر، يرى سروش أن مؤيدي «الحكومة الفقهية» يجدون فيها حكومة مُكلَّفة بحفظ وتنفيذ الأحكام والفروع الفقهية في المجتمع. ولما أوجد الشرع هذه الأحكام، ينبغي على الناس العمل بها، وعلى الحكومة تنفيذ هذه الأحكام.
وهذا النوع من الحكومة – من وجهة نظره – هو تلك «الحكومة المنبثقة من تكليف المؤمنين، ولا يعني ذلك أنها حق لهم، وهي حكومة على الأجساد، وليست على القلوب. لذا فهذه الحكومة تأتي على خلاف الآية القرآنية (لَآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)*، ولا يمكن فرض الإيمان فرضاً على القلوب.
إن الحكومة الدينية الحق هي التي تراعى فيها حرية الشعب، ومبدأ لا إكراه في الدين، وستكون في هذه الحالة حكومة تحفظ حرية الشعب، وتخلق فضاءً يساعد على اختيار حر ومطلع للدين».[13]
ويكمن جُل الفرق بين «الحكومة الفقهية» و»الحكومة الدينية» عند سروش في أن الحكومة الفقهية حكومة «مكلَّفة» تراقب الشعب، حتى لا تجعل أحداً مقصراً في دينه، ولا يرتكب المحرمات ويجهر بها، سواء من المؤمنين أو غير المؤمنين. وعليه، يكون المجتمع في هذه الحالة مجتمعاً تترأسه مجموعة من الفقهاء يتولون تنفيذ الأحكام الفقهية، مجتمعاً محكوماً بالضوابط الشرعية، ولن تظهر صور المحرمات والنواهي في المجتمع، سواء كان ذلك نابعاً من الاعتقاد والإيمان، أو عن طريق الإكراه.
وتولي الرؤية الفقهية للحكومة الدينية «العمل الظاهري» أهمية أكبر من «ملكات القلب»، وتسعى لفرض الضوابط الشرعية في المجتمع، ومنع المحرمات، وسيكون الفقه بمنزلة نواة الإسلام، وبالتالي سيكون الفقهاء وحدهم من يتولون أمور هذه الحكومة، وتكون حكراً عليهم، وستكون القضايا الملحة مثل العدالة والحرية وحقوق البشر قضايا ثانوية وغير ذات أهمية، وستنحصر مهمة الشعب فقط في المساعدة على تنفيذ الأحكام والشريعة الدينية.
وتعد مفاهيم مثل «العدالة الدينية والحقوق الدينية» في هذا النوع من الحكومة محدودة للغاية، ومقيدة بالأمور الدينية فحسب، وهو ما يؤدي إلى إغفال جوانب أخرى من قبيل حقوق الإنسان غير الدينية، والتي تنطلق من النظرة الإنسانية للمجتمع، وهي من الضروريات المقدسة في أي مجتمع ديمقراطي [14].
أما إذا كان المجتمع قائماً على أساس الإيمان -أي الحكومة الدينية المبنية على الإيمان – فستكون للشعب حرية اختيار العقيدة، ويكون الإيمان في هذا المجتمع أولاً، ثم الأخلاق ثم الأعمال، وسيصبح الرياء والنفاق من الأمور المنافية للدين، حالهما في ذلك حال الخمر والقمار. [15]
ويرى سروش أن عمل هذه الحكومة مغاير لعمل الحكومة الفقهية، حيث تبدأ عملها الديني عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، وبمناجاة القلوب، حتى تصل بعد ذلك إلى الأبدان. «إن جوهر المجتمع الإيماني هو جوهر قائم على الإيمان القلبي، فالحكومة الدينية هي الحكومة التي يتمتع المجتمع فيها بمطلق الحرية الإيمانية العقائدية، وعندها يقوم هذا المجتمع المتدين باختيار حكامه، ويكون له الحق عليهم في أن يهيئوا المجال الإيماني الحر لهذا المجتمع».[16]
ويستشهد سروش هنا بمرتضى مطهري الذي أكد أهمية المنطق والموعظة الحسنة حين قال: «إن الإسلام هو دين الحرية، دين داعٍ للحرية لجميع أفراد المجتمع. إننا نستطيع أن نجبر الناس على قول كذا وعدم قول كذا، لكننا لا نستطيع أن نجبرهم على الإيمان بهذا وعدم الاعتقاد بذلك. إن الإيمان يجب أن يأتي بالدليل والمنطق، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أمر واجب، إلا أنه يجب أن يأتي في صورة إرشاد، وليس إجباراً»[17].
ويتمثل الحل الأمثل لخلق حكومة رشيدة – كما ينادي سروش- في الالتفات والاعتراف بالجانب المستقل لحقوق الشعب غير الدينية أو الواجبات غير الحكومية للشعب، والمقصود بالحقوق غير الدينية هنا هي الحقوق التي يتمتع بها الشعب من منطلق الإنسانية والجانب الإنساني لديه، وليس من منطلق أنه شعب أو مجتمع متدين[18].
أما مفهوم الواجبات غير الحكومية، فهي الواجبات التي يتمتع بها الأفراد كونهم متدينين، وليس بسبب أن الحكومة تفرض عليهم تلك الواجبات، فإذا استند الشعب إلى هذه الحقوق والواجبات، فإنه يستطيع بناء مؤسسة رقابية دون الحاجة لنيل شرعيتها من الحاكم، وهذا ما سيحقق ما يعرف بـ»الرقابة خارج دائرة السلطة». أما إذا تم الاكتفاء بـ «الرقابة الذاتية»، واعتبار أن «العدالة الذاتية» للحاكم رادعة له عن ارتكاب الخطأ، فإن ذلك سيؤدي – من وجهة نظر سروش- إلى انتفاء الحاجة إلى رقابة خارجية، وستكون هذه الرقابة خارج مصاف الحقوق الدينية، وبالتالي لن تتمتع بالشرعية، وهذا ما سيؤثر على العملية الرقابية الصحيحة[19].
» نظرية ولاية الفقيه ودور الشعب في ظل هذه النظرية:
سعى سروش من خلال أطروحته هذه إلى تفعيل دور الشعب والديمقراطية في المجتمع، بعد أن وجد في ولاية الفقيه المطلقة نظرية مقيدة لدور الشعب في السلطة.
ويؤكد مستنيرو هذا الاتجاه، أن وجود مؤسسات ديمقراطية مثل الأحزاب السياسية والتنظيمات السياسية وحرية الصحافة يتعارض مع الحكومة القائمة على نظرية ولاية الفقيه المطلقة، وذلك بسبب أن ولاية الفقيه المطلقة لا تلتفت للمطالب والرغبات الملحة في المجتمع، وأن الولي الفقيه يتمتع بحقوق وصلاحيات غير مدونة أو منصوص عليها في الدستور، ولهذا يطالب هذا الاتجاه بالمبدأ القائل بـ»التوازن بين الحقوق والمسؤوليات»[20].
وفي هذا السياق، تسير نظرية ولاية الفقيه، كما يجدها سروش في اتجاهين، كلاهما ينتقص من حق الشعب وهما:
الأول: تمتع الفقيه بحق السيادة والسلطة لمجرد كونه فقيهاً، دون إعطاء دور الشعب أية أهمية، وتعرف هذه النظرية بنظرية «التنصيب الإلهي»، أي أن الولي الفقيه تم تنصيبه للحكم عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة.
الثاني: أصل التفويض، وليس التنصيب، أي أن للولي الفقيه حق السلطة، ولكن بشرط اختياره من قبل الشعب، ويأتي الاختيار هنا بمعنى أن يقوم الشعب بالكشف عن الفقيه الأجدر لتولي السلطة.
و«يتضح في كلا هذين الأمرين أن شرعية الولي الفقيه لا تأتي من الشعب، فالشعب لم ينصِّب الفقيه، ولم يضع لهذا الفقيه شروطاً ومعايير، بل تم تحديدها مسبقاً. فإما القبول بالولي الفقيه الحائز على الشرائط، وإما تنصيبه لهذه الولاية.
وفي الواقع، يعد اعتبار حقوق ومهام الشعب في مسألة اختيار الحاكم «حقوقاً دينية إلهية» انتقاصاً لحقوق الشعب. لذا فمن الضرورة بمكان، مراعاة الحقوق والواجبات غير الدينية للشعب. إن مبدأ ولاية الفقيه الذي استقى شرعية السلطة من الله لم يبقِ للشعب الكثير في مجال السلطة. إن دور الشعب في الواقع أكثر من كونه مجرد مكتشف لشخص يمتلك هذا الحق الإلهي»[21].
يتضح من ذلك كما يرى «هاشم آقاجري»، ارتباط الولاية السياسية ارتباطاً عميقاً بالشعب في نسيج سياسي واحد. ولكي يؤكد آقاجري أن الولاية السياسية ليست كما يدعيها البعض، ويصفها بأنها ولاية عرفانية، يستدل بامتناع سيدنا علي بن أبي طالب بعد وفاة عثمان بن عفان (رضي الله عنهما) عن قبول الخلافة والولاية، وخطب قائلاً: «والله ما كانت بي في الخلافة رغبة ولا في الولاية عرية ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها».
وفي هذا السياق، يتساءل عبدالله نوري: «إذا كان الولي الفقيه يتم الكشف عنه، وأن إمام الزمان هو من قام بتعيينه، فماذا نفسر ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: «فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ»؟، وماذا نفسر الآيتين الكريمتين ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ و﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[22]
ويذهب آية الله حسين منتظري في كتابه «دراسات في ولاية الفقيه» إلى أن جميع الأدلة الفعلية تشير إلى عدم ثبوت التنصيب العام للفقهاء في مسألة الولاية، وأن أهم الروايات المعتد بها مثل مقبولة ابن حنظلة ومشهورة ابن خديجة، تعترف فقط للفقهاء بالتنصيب في مجال القضاء، ولذا يرى منتظري أن الطريق الوحيد للحكومة الإسلامية في زمن الغيبة هو انتخاب الفقيه العادل من قبل الشعب38. فالحكومة تستمد شرعيتها من الشعب في إطار الشرع، وهي ميثاق بين طرفين: الحاكم والشعب بإشراف الشارع. إن الحكومة الإسلامية عند منتظري هي معاهدة شرعية بين الأمة والحاكم المنتخب، وتندرج تحت الوكالة المعروفة بـ«إقرار الوكالة والسلطة المستقلة للغير وبقبوله»[23].
وحول مكانة ودور الشعب، يقول خاتمي: «اعتقدَ الحكام أنهم يمثلون حالة خاصة، وكأن الله حين ابتدأ الخلق اصطفاهم وخلقهم رؤساء وحكاماً وسلاطين، وأن الناس ملزمون بطاعتهم وتقديم فروض الاحترام. إن هذا اللون من العلاقة لم يكن ليليق بمكانة الإنسان. إن مكانة المسؤولين جميعاً إنما تنبثق من الشعب، فأصوات المواطنين هي التي تمنح الأهمية لمسؤولي الحكومة. إن تلك الأهمية والمكانة التي يتمتع بها المسؤولون مرهونة بإدراك الشخص الذي يحتل موقع المسؤولية أنه موظف يتولى خدمة الناس، وأن ذلك هو مبرر احتلاله لموقعه، وإدراكه أنه مسؤول أمام الله بالدرجة الأولى وأمام الشعب بالدرجة الثانية» [24].
فالديمقراطية الحقيقية من وجهة نظر هذا الاتجاه هي التي يلعب فيها الشعب دور المراقب على النخبة الحاكمة، والقادر على اختيار من يتولى السلطة، ويرى محمد خاتمي أن الحكومة التي لا تأتي أسسها قائمة على رغبة الشعب لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال، فالعالم أجمع على قبول السلطة القائمة على رأي الشعب، والخاضعة لرقابته والملبية لاحتياجاته. إن الفكر الحديث للديمقراطية لا يعني البتة – من وجهة نظر خاتمي – تعارضها مع الإسلام، بل إنها السبيل للخلاص من الحكومات المستبدة[25].
مما تقدم يتضح أن نظرية ولاية الفقيه المطبقة في إيران، ويرتكز عليها التيار الحاكم هناك لا تعدو، من منظور من هم في الفكر السياسي الشيعي ذاته، كونها نظرية منبثقة من اجتهاد وعلم كلام، وبالتالي فمن الممكن نقدها، وتفضيل سواها عليها من نظريات الفكر السياسي الشيعي.
وفي نهاية هذه الدراسة، نترك للقارئ هذا التصريح الذي قاله عبدالله نوري (وزير الداخلية في الدورة الأولى لرئاسة رفسنجاني للسلطة التنفيذية، وكذلك في الدورة الأولى لرئاسة خاتمي للسلطة التنفيذية) ليتمعن فيه حيث قال: «إن الخلافات حول تفسير نظرية ولاية الفقيه كانت من أجل نيل السلطة، ولا شيء غير ذلك».