فوجئ المواطن العراقيّ والوسط السياسي يوم الثلاثاء 12 يونيو، بإعلان الزعيم الشيعي مقتدى الصدر تحالُفًا بين كتلة سائرون بزعامته، وكتلة الفتح بزعامة هادي العامري.
يُمكن القول إنّ هذا التحالف ليس تحالفًا استراتيجيًّا، بمعنى أنّه لم يتأسس على توافق آيديولوجي أو على توافق في برامج العمل السياسي، بل تأسس على مصالح سياسية وإملاءات ربما من فاعلين آخرين، فالتيَّار الصدري يُريد إنهاء مرحلة حكم حزب الدعوة، وعدوّه اللدود نوري المالكي، وتحميله مسؤولية الأوضاع المتردية التي وصل إليها العراق. وتيَّار الفتح بزعامة العامريّ هو اللاعب الإيراني الجديد في العراق، وتُدرك إيران أنّ إبعاد التيَّار الصدري وكتلته من الحكم نهائيًّا يُشكّل خطورة على العملية السياسية، ويُدرك الصدر في نفس الوقت أنّ العراق لا يزال بعيدًا كل البعد عن الخروج التامّ من تحت الوصاية الإيرانية، إذ لا تزال إيران تتحكم في مفاصل اللعبة السياسية في العراق، وتملك من أوراق الضغط وتخليق بدائل سياسية ما لم يوجد عند دولة أخرى إقليمية أو غير إقليمية، والتيَّار الصدري يأمل أن يكون إبعاد حزب الدعوة ونور المالكي خطوة أو بداية على طريق استقلال المشروع الوطني، فكان لا بد من التعامل بواقعية مع المشهد السياسي المعقد، الذي ازداد تعقيدًا بعد إحراق مخازن صناديق الاقتراع، والقابل للتطور نحو الأسوأ، ممَّا يُهدد مصالح جميع الأطراف، ويُدخِل العراق في مسار دمويّ، ومن ثمّ كانت فلسفة الصدر التعامل بواقعية وجدِّية مع الرسائل والتهديدات المبطنة التي وصلت إليه بإحراق الأخضر واليابس إذا جرى تجاوز التكتلات الموالية لإيران.
إيران وتخليق البيئة المواتية
فور الإعلان عن نتائج الانتخابات سارعت إيران إلى التدخل والتوسط بين حلفائها من التيَّارات والأحزاب، وأرسلت رسائل مبطنة عبر مبعوثيها، آخرها وجود قاسم سليماني ومجتبى خامنئي في العراق لمدة أيام قبيل إعلان التحالف بين سائرون والفتح، إذ دعا السفير الإيراني في العراق إيرج مسجدي عددًا من قادة العمل السياسي والميليشياتي إلى مأدبة إفطار، وكان بين الحضور مجتبى خامنئي، وقائد فيلق القدس قاسم سليماني، ونوري المالكي، وهادي العامري.
لهذا الاجتماع دلالاته التي لا يُمكن تجاوزها، أهمّها ظهور ابن خامنئي في صدارة المشهد السياسي العام، خصوصًا المشهد العراقي، لأول مرَّة، ممَّا يعني أنّ النظام الإيرانيّ يرمي بثقله لإحداث حلحلة في الأزمة بين الفرقاء الشيعية المتناحرين، وممَّا يعني كذلك أهمية الملف العراقي لدى صانع السياسة الإيرانية وتخوُّفه من خروج رجاله من إدارة الدولة.
والسؤال هنا: هل استطاعت إيران احتواء التيَّار الصدري وتدجينه، أمْ إنّ واقع المشهد السياسيّ وتعقيداته وتداخل خريطة الصراع هي التي فرضت هذا التحالف على الجميع؟ أمّا احتواء إيران للتيَّار الصدري ولاءً وتدجينًا فهذا من المستحيلات السياسية، بسبب التمايز الآيديولوجي كما سيأتي لاحقًا، فلم يبق إلّا الرضوخ لواقع المشهد السياسي الذي لا يحتمل تجاهل كتلة الصدر ولا كتلة العامري ممثلةً لإيران وضامنة لمصالحها في العراق. يعضِّد هذه القراءة تلك الخلافات الواسعة بين التيَّار الصدري وتيَّار العامري، فقبل التحالف بأيام قليلة كان خطاب التيَّار الصدري يستعمل سرديات من قبيل “الميليشيات الوقحة” و”ذيول إيران” و”إيران برة برة”، وكان الخطاب الميليشياتي يستعمل عبارات قاسية أيضًا ضدّ التيَّار الصدري، أي إن الحرب الإعلامية كانت مشتعلة بين إعلام وأتباع التيَّارين، ثم بعد التحالف وُصف العامري من الصدر بالأخ الشقيق، بل ولُمّح إلى كفاءته في إدارة الدولة! إذًا نحن هنا أمام تَحوُّل واضح ومفاجئ! ولا تفسير لهذا التحول الواسع سوى تلك الرسائل التي وصلت إلى الصدر قُبَيل التحالف، مثل إحراق مخازن صناديق الاقتراع، والتلميح إلى الدخول في حرب دموية تأكل الأخضر واليابس، والزج بقاسم سليماني للوساطة بين الخصوم، وهو قائد عسكري لا سياسيّ، وليس محايدًا أيضًا، لأنه الراعي الرسمي لميليشيات العامري والخزعلي وغيرهما، مِمَّا يحمل دلالات واسعة تَلقَّفَها الصدر، وقد ألمح الصدر في عدد من التغريدات إلى هذه التهديدات مثل: “خذوا السلطة وخلوا لنا الوطن”، و”ما أنا وما قدري وما خطري كي يدفع العراقيون ضريبتي؟”، و”فإذا كان انتصار آل الصدر بداية الانتقام من العراق والعراقيين فلن أسمح بذلك، فما خُلقنا نحن آل الصدر إلا قرابين للشعوب المقهورة”.
من ثمّ فإنّ الصدر بفلسفته ورؤيته للدولة وتاريخ عائلته لا يريد الدخول في هذا النفق المظلم، لأسباب كثيرة، أهمها أنّه لا يُريد توجيه سلاحه إلى الداخل العراقيّ إذ سيفقد شعبيته ومصداقيته والدعم المشروط من الحوزة، وسيبدو كمن يُحارب من أجل السلطة، في حين أن الأطراف الموالية لإيران لا ترى نفس رؤية الصدر، فبمقدورها واستطاعتها توجيه السلاح إلى الداخل العراقي، بل والشيعي، بل هي متمرِّسة على ذلك، لأنها تخضع للولي الفقيه في إيران مباشرة، وهو لا يُمانع في إحراق الأخضر واليابس للتفرد بالسلطة، أي إن الوازع الأخلاقي الذي يحكم الصدر وعائلته وتاريخهم ليس موجودًا عند الغير. كذلك فإنّ الصدر كان في لحظة من اللحظات صاحب الميليشيات الوحيدة القوية الفاعلة على الأرض، أما اليوم فعلى الأرض عدد كبير من الميليشيات القوية التي تدين لإيران بالولاء، مِمَّا يعني أنّ قرار المواجهة لن يكون سهلًا، بل قد يؤدِّي ليس فقط إلى خسارة الصدر معركته وحواضنه الشعبية، بل إلى أكثر من ذلك، كتهديد بنية النسيج المجتمعي الشيعي في الجنوب والوسط، فالصدر يعي جيدا أنه أمام دولة لا أمام خصوم سياسيين، تلك الدولة لا تُبالي بداهة بأيّ محدِّدات أخلاقية في حروبها وكبح خصومها.
تَحالُف لا بد منه
على الرغم من التمايز والانفصال الآيديولوجي والسياسي بين كتلتي سائرون والفتح، فإن هذا التحالف كان هو الأقرب للتحقق بناء على تعقيدات الساحة العراقية ومصالح اللاعبين الإقليميين والدوليين فيها، فيُمكن القول إنّ هذا التحالف هو الأكثر مقبولية للدول الإقليمية والدولية الفاعلة في العراق، بخاصة أمريكا وإيران، وقد أعلن ذلك صراحة القيادي في ميليشيا منظمة بدر كريم النوري بقوله: “هناك تناغم أمريكي إيراني بشأن تحالف العامري مع الصدر، والتحالف سيكسب رضا السيستاني أيضًا”.
فالإيرانيون يجيدون اللعب في المساحات المتاحة لهم في العراق منذ الغزو الأمريكي حتى اليوم، واستطاعوا تخليق كيانات تدين لهم بالولاء وتقفز على الدولة العراقية في أحايين كثيرة، وفي نفس الوقت فإنّ الأمريكان وحلفاءهم يملكون أيضًا أدوات على الأرض وأوراق ضغط ربما لا تقلّ عمَّا تملكه إيران، من ثمّ فإنّ هذا التحالف هو الأقرب لمصالح الطرفين، بالإضافة إلى أنه لا يُمكن أن تتجاوز سائرون كتلة الفتح، لأنّ الفتح تملك حضورًا على الأرض، ليس جماهيريًّا فقط، بل ومسلَّحًا كبيرًا يُمكّنها من إحداث توتر عراقي-عراقي، وهو ما لم تُرِده الأطراف الإقليمية، على الأقلّ في هذه المرحلة، إلا أنّ هذا السيناريو يبقى ورقة ضغط إيرانية كبيرة لا يُمكن القفز عليها.
في هذا السياق لا يُمكن تجاهل زيارة الصدر للكويت، ولقاءه عددًا من سفراء دول المنطقة، وأنه ربما تَوصَّل الصدر -أو وصلت رسائل دبلوماسية- بعد تلك المداولات إلى القناعة بأنه لا يُمكن له تجاوز الفتح ومصالح إيران، وفي نفس يوم إعلان التحالف كان قاسم سليماني موجودًا في العراق، مِمَّا يعني أنّ نفس الرسالة وصلت إلى كتلة الفتح بأنه لا يُمكن تجاوز سائرون في هذه المرحلة، وهذا يُذكّرنا بما قاله الفيلسوف الشيعي اللبناني هاني فحص عن محورية إيران في القرار الشيعي، وأنّه لا يُمكن لأي كتلة سياسية أو دينية أن تخالف إيران على طول الخطّ خوفًا من فقدان الشرعية الشيعية!
كذلك لدى صانعي السياسة الأمريكية رغبة في احتواء الميليشيات -المختلفة في برامجها ومرجعياتها- داخل حدود الدولة العراقية، وتراهن وجهة النظر تلك على استحالة إدماج الميليشيات في الدولة العراقية واحتوائها دون تفاهمات مع زعمائها واحتوائهم داخل العملية السياسية.
استراتيجيَّة الدول الخليجية
ليس الأمر كما يبدو للوهلة الأولى، أنّ الدول الخليجية خسرت في معركتها السياسية بالعراق، فالمكسب والخسارة في العملية السياسية، لا سيما إذا كانت معقدة ومتشابكة، لا يكون بالضربة القاضية، وليس معنى أنّ الصدر اقترب من العامري تخلِّيه عن طروحاته المعتدلة، كما لا يعني اقتراب العامري من الصدر تخليه عن خضوعه لطهران، لكنه فنّ الممكن بناءً على المعطيات على الأرض.
سوف تستفيد دول الخليج إبعاد نوري المالكي وحزب الدعوة من سدة الحكم في حال ديمومة تحالف الصدر العامري، وكذلك وصول كتلة كبيرة “التيَّار الصدري” معتدلة إلى حد كبير إذا ما قورنت بغيرها من الكتل الدينية والسياسية، إلى سدة الحكم.
أيضًا تُدرك الدول الخليجية تعقيدات الساحة العراقية وقوة الأوراق والأدوات الإيرانية هناك منذ سقوط صدام، ومن ثمّ فإنّ أيّ حديث عن تقليم أظافر طهران في العراق في انتخابات واحدة أو في سنة واحدة لا يخلو من مجرَّد أمنيات لا يُعوَّل عليه في الواقع السياسيّ شديد التعقيد، من ثمّ فإنّ تعامل الدول الخليجية مع الوضع القائم واستثمارها في تقوية التيَّارات المعتدلة شيعيًّا وسُنِّيًّا، وكذلك ضخّها استثمارات قوية في البنية التحتية العراقية، واجتذابها مؤسسات المجتمع المدني، والجماعات الحقوقية، والتيَّارات السياسية الشابَّة، وتواصلها مع المرجعية الدينية النجفية، كلّ ذلك يكفل لها وجودًا قويًّا وراسخًا في المشهد العراقي على المديين المتوسط والبعيد، وهو بالفعل ما نجحت فيه القوى الخليجية الفترة الماضية إذ صَفَّرَت المشكلات مع الشعب العراقي فوجدنا تَكَوُّن وتَشَكُّل حواضن شعبية للدول الخليجية والسعودية خصوصًا بين قطاع كبير من الجمهور الشيعي، الذي هتف ضدّ إيران، مِمَّا أقلق صانع القرار الإيراني بقوة، ومن ثم فإن الاستمرار في هذا الخطّ “الاستثمار في الجانب السياسي + الاستثمار في المجتمع المدني” هو الضامن الوحيد لإحداث توازن، على الأقل في المسألة العراقية، وستبدو إيران كراعية فقط للميليشيات والإرهاب، في حين أنّ السعودية ودول الخليج راعية لإعادة الإعمار وتمتين البنية التحتية، وتدعيم حركة التنمية في قرى ومدن العراق.
جدير بالذكر هنا أنّ إيران فاعل رئيسي في العراق منذ سقوط نظام صدام حسين، ولن تقبل بسهولة ابتعاد العراق عنها، ومن ثمّ فطبيعي أن تكون عدة فواعل ووحدات إقليمية ودولية حاضرة في المشهد العراقي وليست وحدة واحدة، ومشاريع هذه الوحدات غالبًا ما تتناقض وتصل ربما إلى الصراع، الناعم أو الخشن، إذًا فهي معركة طويلة الأجل تحتاج إلى نفَس طويل وبدائل استراتيجيَّة طويلة المدى.
أيضًا في هذا الصدد يُمكن أن تعدّ الدولُ الخليجية هذه الانتخابات النواة الأولى لدولة مدنية وديمقراطية عبر إفساح الطريق أمام الميليشيات للحكم والإدارة، تمامًا كما حدث مع نوري المالكي.
فلا يمكن نزع الحواضن الشعبية عن تلك الميليشيات إلا بممارستها السلطة وفشلها في إدارة الدولة، ومن ثمّ تضعف الجماهيرية وتُنزع الحواضن الشعبية، مع تركيز إعلامي وتعبوي على الفشل، وهذا سيناريو محتمَل، لا سيما وأنّ الميليشيات تفتقر إلى الحوكمة والإدارة، والخبرة اللازمة لعمل مؤسسات الدولة، ومن ثمّ فقد يُعتبر هذا التحالف خطوة نحو إنهاء حقبة الميليشيات ورجال الدين المدعومين من إيران وغيرهم، وبداية حقبة مدنية علمانية جديدة بعد فشل كل المشاريع الطائفية، ولكن يبقى هذا السيناريو معتمدًا على مدى قدرة وجدية الفاعلين الإقليميين في رعايته وإنفاذه.
التمايز الآيديولوجي
لا يُمكن اعتبار تحالف الصدر-العامري تحالفًا استراتيجيًّا بقدر ما هو تحالف مصلحيّ وحتميّ في نفس الوقت نتيجة الظرف الراهن الذي تمرّ به الدولة العراقية، فبين كتلتي سائرون والفتح انفصال واضح وتمايز آيديولوجي تام، فالزعيم الشيعي مقتدى الصدر عنده هواجس من السياسة الإيرانية ومن الأُسس التي ترتكز عليها، وهي ولاية الفقيه. ففي حين تعتبر كل الأدوات الإيرانية في العراق أنّ المرشد الإيرانيّ هو مرشدها، وولّيها وفقيهها -وَفْقًا لفلسفة أستاذية العالم وقيادة الفقيه الواحد للشيعة في كل العالم- يؤمن مقتدى الصدر بالدولة المدنية، ولا يؤمن بولاية الفقيه المطلقة بقراءتها الخمينية.
هذا الخلاف بين التيَّار الصدري وإيران ليس جديدًا، بل يمتدّ إلى زمن آية الله محمد الصدر والد مقتدى، الذي خالف الخمينيّ في نظرية ولاية الفقيه، وكانت بينه وبين النظام الإيرانيّ خلافات دينية وسياسية أدّت في نهاية الأمر إلى وقوف إيران ضدّه في المرجعية وتأليب المراجع ضدّه، ومنعه في فترة من الفترات من افتتاح مكتب له في إيران، ثمّ تمّت تصفيته بطريقة غامضة، أدّت إلى ذهاب بعض الباحثين إلى وقوف المخابرات الإيرانية خلف مقتله.
وبعد سقوط نظام صدام حسين تعاملت إيران مع التيَّار الصدري بمسارين متوازين: الأول احتواء التيَّار، وذلك لتَفرُّده بالساحة السياسية والقتالية -الشيعية- وقتئذٍ، فلم تكُن إيران تملك بعد أدوات مؤثرة لها في العراق، مِمَّا أعوزها إلى التيَّار الصدري للضغط على الأمريكان في ذلك الوقت، وهذه الاستراتيجيَّة ظلّت قائمة حتى أوجدت إيران البدائل الموالية لها تمامًا، على غرار نموذج حزب الله في لبنان، أي الخضوع التام للولي الفقيه في طهران. المسار الثاني هو العمل على تفخيخ التيَّار الصدري من الداخل، فحاولت إيران استقطاب مجموعات داخلية، واستغلال الخلاف الداخلي بين أبناء التيَّار، فخرج تيَّار الفضلاء بزعامة اليعقوبي، وتيَّار آية الله الناصري، وتيَّار آية الله الطائي، إلا أنّ التيَّار الصدري الرئيسي ظل متماسكًا إلى حدّ كبير سياسيًّا وعسكريًّا، بل وظلّ قادرًا على إيجاد حواضن جماهيرية، متمتعًا ببراغماتية سياسية حمته في فترات كثيرة من الملاحقة والاستئصال.
الخلاصة أنّ التيَّار الصدري يتمايز آيديولوجيًّا عن الميليشيات المدعومة إيرانيًّا التي تدين بالولاء التامّ للمرشد الإيراني، وإذا كانت كتلة سائرون تضمّ في مكوناتها أحزابًا متباينة سياسيًّا وآيديولوجيًّا فإنّ نقاطًا مهمة تجمعها كالمطالبة بالدولة المدنية والعدالة الاجتماعية والعدالة الناجزة ونحو ذلك، بيد أنّ المساحات المشتركة بين سائرون والصدر، والفتح والعامري، قليلة جدًّا، وليست سياسية ولا آيديولوجية بقدر ما هي شخصية، كما تقدم.
هل يدوم التحالف بين سائرون والفتح؟
هذا هو السؤال المهم، هل سينجح ويستمر التحالف بين سائرون والفتح؟ وتبدو الإجابة معقدة نوعًا، إذ تعتمد على مدى قناعة كلا التيَّارين بحتمية هذا التحالف، وبمدى المصالح المشتركة بينهما، كذلك تعتمد على مدى ديمومة توافق الفاعلين الآخرين “إيران-أمريكا” من حماية العراق من الدخول في سيناريو دموي بين القوى السياسي المسلحة هناك، وهذا يتطلب قدرة على حفظ مصالح متناقضة بين أطراف متناقضي الأهداف.
وهنا وجهتا نظر: الأولى استمرار وديمومة هذا التحالف، لأنه يحظى بمقبولية الفاعلين الأساسيين في العراق “إيران-أمريكا” إذ تؤمن الأطراف الفاعلة باستحالة تجاوز الطرف الآخر ومصالحه، على الأقلّ في ظلّ نتائج الانتخابات التي لم تحسم فوز كتلة معينة بأريحية برلمانية، وفي ظلّ الوضع الطائفي والسياسي والعسكري المعقد الذي تمر به الدولة العراقية، وكذلك في ظلّ فلسفة الصدر وتفضيله عدم المواجهة المباشرة مع إيران وأدواتها.
والثانية أنّه تحالف هشّ، وغير قابل للديمومة والاستمرار، بسبب التباين السياسي بين الكتلتين، والتمايز الآيديولوجي واختلاف برامج عمل الكتلتين وداعميهم الإقليميين، وكذلك تستبعد وجهة النظر تلك استسلام حزب الدعوة ونوري المالكي المتمرس في السلطة والعارف بمكامن ومواطن قوة وضعف العراق، وهو وإن لم تكُن له ميليشيا مسلحة، فتوجد جماعات مسلحة مقربة منه، ولا تزال له جماهيرية في بعض الأماكن، وعلاقات قوية بالدولة العميقة.
وتعتمد وجهة النظر تلك أيضًا على حتمية تصادم الكتلتين في المسائل الحساسة المختلف عليها إقليميًّا، كوضع الميليشيات القانوني في الدولة العراقية، وموقف الدولة العراقية من توازنات إقليمية كالأوضاع في سوريا، والخلاف الإيراني-الخليجي، والوجود التركي في العراق، والعلاقات مع إيران والسعودية، وأزمة المياه العراقية، وهكذا، إذ تبدو هذه المسائل محلّ خلاف شديد بين القوى السياسية والإقليمية، فمن المتوقَّع بناءً على وجهة النظر تلك تَشَظِّي هذا التحالف بناء على الاختلاف في التعامل مع تلك الملفات الشائكة. لكن وجهة النظر الأولى ترى أنّ التحالف في الأصل لم يُبن على توافق آيديولوجي أو سياسي، بل على المصالح السياسية البحتة، وتوافق فاعلين إقليميين ودوليين على عدم تجاوز مصالح الطرف الآخر، من ثمّ سيبدو العراق حتى في هذه الحالة مُتجَاذَبًا بين الفواعل السياسية الداخلية والفاعلين الإقليميين والدوليين.
ويبدو أنّ وجهة النظر القائلة بأنّ التحالف سوف يستمر بين الطرفين هي الأرجح بناء على الواقع السياسي على الأرض، ووَفْقًا لمصالح الأطراف الداخلية “الصدر-العامري” وتمتعهم بالبراغماتية والمرونة السياسية اللازمة، وكذلك وَفْقًا لمصالح الفاعلين من الخارج، فإنّ أيّ تصادم بين القوى المسلحة بالسلاح الثقيل وذات الحواضن الشيعية المؤدلجة سيحوِّل العراق فورًا إلى حرب دموية، لا يُمكن وقفها بسهولة، وقد تمتد إلى خارج العراق، وهو ما لا تتحمله المنطقة اليوم، وهو ما سيؤثر على مصالح قوى إقليمية ودولية تأثيرًا مباشرًا، من ثمّ أرادت تلك القوى عدمَ التصادم، والخروجَ بأقلِّ الخسائر والحفاظ على قطعيات مصالحها في العراق.
تبدو أيضًا احتمالات أخرى ضعيفة، كانضمام المالكي إلى تحالف الصدر-العامري، ثم يليه العبادي، لا سيما مع بعض التسريبات التي تشير إلى محاولات قاسم سليماني الصلح والتقريب بين الصدر والمالكي، لكن مثل هذا التحالف الواسع مستبعد لتاريخ المالكي في الحكم وضعف شعبيته، واشتهار مدة حكمه بالفساد والهزيمة أمام تنظيم الدولة، علاوة على أن هذا السيناريو لو حدث فسيبدو للمواطن العراقي أنّه لا جديد، علاوة على أن تحالفًا كهذا سيصبغه بالطائفية والمحاصصة مجددًا، ويُدخله في صدامات علنية ومشكلات مع قوى مجاورة وإقليمية كدول الخليج وتركيا -التي لا تحبذ المالكي- وغيرها. من ثمّ يدرك الإيرانيون ذلك جيدًان والراجح أنّهم سيدفعون بقوة لإنجاح تحالف الصدر-العامري، إلا إذا ظهرت مفاجآت جديدة تبعثر الأوراق من جديد وتعيد خريطة التحالفات، وهو أمر مستبعد بناء على المعطيات والواقع على الأرض.