قراءة في تصريحات قاسميان المسيئة ضد المملكة

https://rasanah-iiis.org/?p=37701

  تعرَّضت مسيرة العلاقات السعودية-الإيرانية التي يحرص طرفاها على تطويرها منذ عودة العلاقات الدبلوماسية في عام 2023م، لاختبارٍ جديد على خلفية التصريحات المسيئة المثيرة للجدل لرجل الدين المقرب من المرشد غلام رضا قاسميان بحق المدينتين المقدستين: مكة المكرمة والمدينة المنورة، بانتقاده المزيَّف والمغاير للواقع- حسب الإيرانيين ذاتهم- للمدينتين، على نحوٍ كاد أن يعكِّر صفو العلاقة بين الدولتين ووضعها في حرجٍ شديد لولا سرعة تسوية المشكلة. فالسعودية تريد للحج أن يكون موسمًا لتهيئة الناس للعبادة وأداء المناسك بعيدًا عن التوظيف السياسي لعبادةٍ جليلة تُخرجها عن مقصدها السامي، أو تكون سببًا لإثارة الخلاف بين المسلمين وتشاحنهم، فيما تريد إيران توطيد علاقتها مع المملكة، سيما في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها. 

 تطرح سرعة تسوية الطرفين للمشكلة وإفراج المملكة عن قاسميان رغم حقها القانوني في المُضي في اعتقاله لمخالفته القوانين السعودية، عددًا من التساؤلات أبرزها: ما المفسِّر وراء تصريحات قاسميان المسيئة في ظل المرحلة الراهنة؟ وما الأسباب وراء سيل الانتقادات الإيرانية الجارفة على مختلف المستويات لقاسميان التي وصلت إلى حد المطالبة بمحاكمته مقابل الثناء الكبير على دور المملكة في تنظيم موسم الحج والحفاظ على أمن الحجيج، إلى حد اعتبار الانتقادات من قِبل بعض الأصوات الإيرانية الراديكالية مبالغٌ فيها؟، وما أبرز الرسائل التي أراد الطرفان بثها للداخل والخارج من سرعة تسوية المشكلة؟ وما أهم النتائج والدروس المستفادة من إدارة الجارتين للمشكلة؟

أولًا: تصريحات قاسميان.. البيئة والوزن «الحوزوي»

اعتقلت السلطات السعودية في السادس والعشرين من مايو 2025م، رجل الدين الإيراني غلام رضا قاسميان في المدينة المنورة بعد نشره فيديو تحريضي ضد بلاد الحرمين، مليءٌ بالأكاذيب والإدعاءات والافتراءات غير الواقعية. وحاول أن يربط أكاذيبه بالتاريخ، فاستحضر الخلاف السياسي في عهد الدولة الأموية، وزعم أنَّ مكة والمدينة باتت مدنًا للفحشاء والمنكر، فقال نصًا في المقطع المصور الذي نشره: «سيتمكن الناس الآن من الذهاب إلى مكة والمدينة المنورة للكازينوهات وبيوت الدعارة والحفلات الموسيقية المُبتذلة بدلًا من الذهاب إلى أنطاليا».

1. وزن قاسميان لدى النظام الإيراني

 ينبغي أن نستحضر وزن قاسميان «الحوزوي»، سيما وهو رجل دين مُعمم، يلقب بـ«حجة الإسلام»، وقد تردَّد أنَّه مقربٌ من المرشد الإيراني، وله دورٌ بارزٌ في الهجوم على سفارتي بريطانيا والسعودية عامي 2011 و 2016م. ويُعدُّ قاسميان من الجناح الإيراني «المتشدد» ذو الفكر الراديكالي، فقد دعا من قبل إلى «تدمير إسرائيل» و «فتح مكة».  وشغل قاسميان في السابق مناصب مثل رئاسة مكتبة ومركز وثائق البرلمان الإيراني، ونائب مدير الحوزة العلمية بطهران، كما شارك في العديد من برامج مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية

يُضاف لما تقدم أنَّه مقرَّبٌ جدًا من رئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف، ومن ثم يمكن فهم عقلية قاسميان الضيقة والمتطرفة والمُؤدلجة، والتي لا ترى الحاضر إلَّا بعين الطائفية، ولا تفهم العلاقات الدولية إلَّا من خلال استحضار الخلاف التاريخي العَقدي والمذهبي بين طوائف المسلمين. فهو بذلك لا يُرضي التوتر المذهبي عند جماهيره فقط، ولا يسعى إلى تعزيز حواضنه المذهبية من «المتشددين» فحسب، بل يعبِّر عن ميوله الحقيقية، تلك الميول التي تُلخص لنا أزمة إيران المعاصرة، أزمة الشيخوخة الفكرية والعمرية، وأزمة العقليات الدينية المُتحجرة.

2. قاسميان ومجتمع رجال الدين

 عادةً ما يفكر رجال الدين بالمنطق العقدي دون النظر في المآلات والمقاصد والبراغماتية، وذلك بسبب التكوين الديني والعقدي الذي غالبًا ما يتعاطى مع الظنيات السياسية على أنَّها قطعيات دينية وعقدية. وبالتالي نفهم تصريحات قاسميان وأمثاله من رجال الدين ضد السعودية، ولكي يمكن للحوزة الدينية ومجتمع رجال الدين التقليديين تجاوز النظرة السلبية للسعودية وللآخر المذهبي والمخالف العقدي عمومًا فإنها تحتاج إلي تغييراتٍ جوهرية تمسُّ بنيتها العلمية والأخلاقية والاجتماعية، وهو المحك الحقيقي الذي يمكن الحكم به على النخبة الحاكمة. هل تسعى حقيقةً إلى نشر لغة التسامح والحوار وقبول الآخر، ومن ثم تعديل النظرة لأهل السنة وللمملكة داخل الحوزة، أم سيبقى الحوار سياسيًا دون إجراءاتٍ وتغييراتٍ واقعية في قلب الحوزة تعدِّل المناهج وتضبط السلوك للجماعة الدينية وهو ما سوف -إذا لم يحدث- يُبقي أصواتًا تخرج كل حين لتعرقل الجهود السياسية الحثيثة للتقارب والحوار. هذا إذا افترضنا أن تلك الأصوات خرجت بمحض اجتهادٍ شخصي دون تنسيقٍ عالٍ، ونية من قِبل النخبة الحاكمة نفسها لجسِّ نبض العلاقات أو للضغط على السعودية، واختبار قدرتها على الصبر بعد التطبيع السعودي- الإيراني، أو لتوصيل رسائل لجماعة رجال الدين المحليين داخل السلطة والحوزة أو كل ذلك!.

ثانيًا: مظاهر وأبعاد ردة الفعل الإيرانية

تشير القراءة المتأنية لردة الفعل الإيرانية في أغلب المستويات الرسمية والنخبوية والشعبية على تصريحات قاسميان إلى نتيجة مفادها: تحولٌ إيجابي في الموقف الإيراني (نهجٌ جديد) في إدارة الخلافات مع المملكة، مقارنةً بالمرحلة السابقة على توقيع الاتفاق السعودي-الإيراني، حيث قوبلت تصريحاته بسيلٍ من الانتقادات الإيرانية الحادة بدأت بتكذيب روايته ثم التشكيك في نواياه. ووصلت إلى حد المطالبه بمحاكمته خوفًا من تأثيرها على مسار الرياض- طهران في بناء الثقة لتجاوز خلافات الماضي، والانتقال إلى مرحلةٍ جديدة تسود فيها المنافع المتبادلة. وفيما يلي أبرز الملاحظات على ردة الفعل الإيرانية:

1. تكذيب تصريحات قاسميان

 أول ملاحظة تتمثل في سرعة تكذيب شخصيات إيرانية لرواية قاسميان، وهي ملاحظة غاية في الأهمية، لكون تلك الشخصيات مُقرَّبة من المرشد علي خامنئي، ما يؤكد بُطلان رواية قاسميان من الأساس، حيث انتقد رئيس الإدارة العقائدية- السياسية بمكتب المرشد علي سعيدي، قاسميان موضحًا أنَّه أدلى بتصريحات تتعارض مع الحقائق، كذلك طالب حجة الإسلام علي سرلك، المقرب من سعيد جليلي بضرورة اعتقال قاسميان ومحاكمته لزيف روايته.

لكن السؤال: لماذا تعمَّد قاسميان الكذب في ظل إدراكه لقيمة وقدسية المدينتين عند المسلمين عامة وعند السعودية خاصة، التي توفر كل سبل الراحة للحجيج بشهادات العالم أجمع؟ الإجابة هي أن قاسميان محسوبٌ على جزء من «المتشددين» غير الراغبين في عودة العلاقات بين البلدين بالأساس، وربما حاول بث رسائل للداخل الإيراني تهدف إلى تشويه صورة المملكة وسط جمهور إيراني واسع بات منجذبًا ومعجبًا بالنموذج السعودي، الأمر الذي يسبب حرجًا بالغًا لـ«المتشددين»، لأنه يجعلهم في موضع مقارنة مع السعوديين، ويؤدى إلى فقدانهم السيطرة على الجماهير من فئتي الشباب والنساء وأجيال ما بعد الثورة.

وربما أراد قاسميان-أيضًا- أن يقول لجمهور المتدينين وحواضن التقليد أن إيران هي المركز «أم القرى» وهي قائدة العالم الإسلامي، ونحو ذلك من أدبيات متوهّمة في عقل بعض «المتشددين». ثم أراد أن يستحضر الخلاف التاريخي السني- الشيعي، فاتجه نحو تشبيه السعودية بالدولة الأموية وكأنه يختلق مشكلةً طائفية ويهيّج الذاكرة الشيعية ضد المشروع السعودي، ذلك المشروع الذي لم يستطع قاسميان ورفاقه أن يجاروه فكريًا وعلميًا، فراحوا يحصنِّون وضعهم الداخلي بالطائفية والتأجيج وافتراء الأكاذيب!.

2. التشكيك في دوافع قاسميان

 لقد شكك العديد من الايرانيين في دوافع قاسميان، حيث وصفه المتحدث باسم «جبهة الإصلاحات» جواد إمام بالشخص المثير للجدل، متسائلًا: «هل لدى الأجهزة الأمنية الإيرانية التي تتعامل بحساسية مع كل ناشط، هذه الحساسية والاهتمام بمثل هذه الشخصيات المريبة؟ كذلك ربط علي سعيدي رئيس الإدارة العقائدية- السياسية بمكتب المرشد دوافعه بالأبعاد السياسية أوالشخصية. واعتبرها النائب السابق في البرلمان جلال رشيدي كوجي تصريحات مغرضة تتسبب عمدًا في تحميل البلاد كُلفة سياسية. وأوضح الباحث الوثائقي والمؤرخ مجيد تفرشي بأنها غير مسؤولة، وتعد أمرًا مشبوهًا وخطيرًا، وتخدم مصالح مروجي الكراهية لإيران، و«المتشددين» الغربيين، و«الكيان الإسرائيلي»، ولها نتائج سلبية على مكانة إيران، وتضر بالمفاوضات. وكتب الناشط السياسي والإعلامي روح الله جمعئي أنها تصريحاتٌ مشبوهة ومحرضة ومتعمدة تهدف إلى تقويض العلاقات بين البلدين.

3. مخالفة روايته للتوجهات الإيرانية نحو المملكة

التأكيد الإيراني على مخالفة قاسميان ليس فقط لقوانين وقواعد المملكة، بل لتوجهات إيران الرسمية، ولذلك سارع بعض المسؤولين إلى التبرؤ منه رغم قربه للمرشد، واعتبار تصريحاته فردية تعبِّر عن شخصه، ولا تعبِّر عن الموقف الرسمي تجاه المملكة، حيث أوضح نائب الرئيس محمد رضا عارف أن تعزيز العلاقات مع دول الجوار تشكل قاعدةً راسخةً ضمن قواعد السياسة الخارجية للدولة، وأن تصريحات قاسميان تضر بالعلاقات المتنامية مع دول الجوار. كذلك انتقدها وزير الخارجية عباس عراقجي معلنًا حرص وتمسك بلاده بتطوير العلاقات مع المملكة ذات المكانة المميزة في سياسة الجوار الإيرانية، ولذلك أكد أنَّ بلاده لن تسمح بحدوث خلل بهذه العلاقات. كما اعتبرها المتحدث باسم السلطة القضائية أصغر جهانغير أنها تخرج على الخط الدبلوماسي الذي تنتهجه البلاد بتوجيهات من المرشد.

4. محاكمة قاسميان ضرورة ومصلحة إيرانية

لم يقف الأمر عند حد تكذيب تصريحات قاسميان والتشكيك في نواياه، بل وصل الأمر إلى حد المطالبة بمحاكمته في إيران لعاملين إضافيين للعوامل السابقة: الأول، مخالفته للقواعد والأعراف السعودية، حيث أشار المدرس في مؤسسة المهدوية إحسان عبادي إلى مخالفة قاسميان لقواعد وقوانين المملكة وعدم اهتدائه بخاطرة الخميني التي أكد خلالها على عدم ذبحه الأضحية في منزله، لأن ذبح الأضاحي كان ممنوعًا حسب قوانين باريس. وكذلك تساءلت مقالة في موقع «عصر إيران»: «لو جاء أحد إلى إيران وسجل فيديو أمام مرقد الإمام الرضا وأساء لحكام إيران مثلما أساء قاسمي لحكام المملكة، ثم نشر هذا الفيديو على الانترنت، فهل سيبتسم مسؤولو الأمن في بلدنا أم سيفعلون الشيء نفسه الذي فعله مسؤولو الأمن السعوديون؟ ولذلك كان واجبًا على الضيف أن يحترم قواعد المضيف».

يتمثل العامل الثاني في إضراره بالمصلحة الإيرانية، حيث يدرك صناع القرار أنَّ من مصلحة بلادهم الحفاظ على العلاقات مع المملكة لما تكبدته بلادهم من تكلفة كبيرة خلال مرحلة القطيعة، ولذلك صرَّح عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني محمد مهدي شهرياري بأنَّ تصريحات قاسميان لا تخدم المصالح الوطنية والأمن القومي للبلاد، لكونها تفرض تكاليف باهظة على البلاد والعباد، ولذلك ينبغي محاكمته. ورأت مقالة في موقع «عصر» ضرورة محاكة قاسميان في إيران بعد الافراج عنه في السعودية ليدرك أنَّ إلحاق الضرر بمصالح الشعب والدولة له ثمن.

5. انسجام الموقف الشعبي مع الرسمي

امتد الرفض الإيراني لتصريحات قاسميان المثيرة للجدل ليشمل الجانب غير الرسمي، حيث لاقت تصريحاته موجة من الانتقادات والتغريدات الشعبية على مواقع التواصل الاجتماعي، من أبرزها على سبيل المثال لا الحصر: «بالله عليكم لا تصنعوا بطلًا من شخص يتسبب في تحميل إيران والنظام ثمنًا باهظًا»، «هل نقبل نحن أنفسنا بأن يأتي أجنبي إلى بلادنا ويسجل مقطع فيديو مسيئ لنا؟»، «لم يذبح الخميني خروفًا في باريس أبدًا، لأن هذا كان ممنوعًا حسب قوانين ذلك البلد»، «ينبغي تسليمه لإيران على الفور، وأن تتم محاكمته بتهمة محاولة الإخلال بالأمن القومي». كذلك رفض الناشط السياسي الأصولي عباس سليمي أن يكون اعتقاله بالمملكة قبل الافراج عنه يشكل معاداة للشيعة موضحًا أنَّه حتى لو أنَّ شخصًا من أهل السنة من تركيا أو من أيّ دولةٍ أخرى قد أدلى بتصريحاتٍ مماثلة لتم اعتقاله، حيث تتبع المملكة سياسة صارمة للغاية لضبط سلوك الحجيج وضمان أمن الحج.

6. التأكيد على الإدارة السعودية الناجحة للحج

أما سادس الملاحظات، فتتمثل في التأكيد على الإدارة السعودية الناجحة للحج، حيث كتب وزير الخارجية الإيراني عباس  عراقجي على منصة «X» يقول إنَّ بلاده تقدِّر الإدارة السعودية الكفؤة والفعالة لحج 2025م، وكشف سفير إيران لدى المملكة علي رضا عنايتي أنَّ المملكة تسخِّر كل جهودها لخدمة الحجيج عامة والإيرانيين خاصة، مطالبًا الحجاج الإيرانيين باحترام القوانين السعودية. ونشر وزير الخارجية الأسبق علي أكبر صالحي على «X» تغريدة: «إخواتنا في الدين في السعودية الذين يتولون مهمة خدمة الحرمين الشريفين المهمة يستحقون التقدير والثناء من وجهة نظر الإيرانيين». وأوضح رئيس هيئة الحج والزيارة علي رضا بيات أنَّ أكثر من 68 ألف حاج دخلوا الأراضي المقدسة بشكلٍ سلس للغاية وِفق الجدول الزمني، ولابد من الإشادة بحسن ضيافة المملكة وتعاونها.

يأتي ذلك بينما يرى الفريق «المتشدد» في تصريحات قاسميان أمرًا طبيعيًا وحقًا شخصيًا، وهو ذات الفريق «المتشدد» الذي يدعو إلى حرية التعبير «ولو بنشر الأكاذيب»، وهو نفسه الفريق الذي يُحكم السيطرة على حرية الرأي في إيران ويمنع أي انتقادٍ للسلطة، بل ويعتقل مفكرين لمجرد إبداء رأيهم في مسائل علمية وتاريخية لا علاقة لها بالسلطة الراهنة، مثل اعتقال السيد علي أصغر غروي من قبل لمجرد كتابته مقالًا بعنوان: «الإمام زعيم سياسي أم قدوة إيمانية؟»، أكد فيه أنَّ الحكومة السياسية في عهد علي بن أبي طالب كانت تُناط عن طريق البيعة والرأي وليس بالتنصيب أو «ولاية الفقيه»، وعشرات آخرين من المفكرين.

ثالثًا: دلالات الموقفين الإيراني والسعودي

تكشف ردة الفعل الإيرانية، وسرعة تسوية الجانبين للمشكلة لعدم تفاقمها وتدحرجها إلى مستويات أكبر، جملة من الدلالات على النحو التالي:

1. حرص المملكة على تطوير العلاقات

يبدو أن المملكة وإيران حريصتين على استمرارية  العلاقات، وأن استمرارية السلام المربح أصبح خيارًا مفضلًا لتحقيق المصالح وتعظيم المكاسب وإنهاء حالات الابتزاز السياسي الإقليمي والدولي للدولتين والمساهمة في تحقيق الاستقرار الإقليمي بدلًا من استمرارية الصراع المكلف، وذلك لسببين:

الأول: يتمثل في حجم الخسائر الضخمة التي تكبدتها الدولتان من مرحلة القطيعة وخصوصًا إيران  نتيجة لقدرة المملكة على الحشد والتعبئة الدولية الهائلة للدول الفاعلة في المحيط الدولي ضد إيران، ومشروعاتها التوسعية الضارة بالأمن العربي والخليجي، وتعرض إيران لثلاثية العزلة والحصار والعقوبات المؤلمة على نحو أدى إلى تصدُّع الجبهة الداخلية وإنهاك الدولة الإيرانية.

الثاني: يتمثل في حجم المكاسب من عودة العلاقات، حيث فتح اتفاق عودة العلاقات بين البلدين، الباب واسعًا لإيران لإنهاء حالة العزلة الإقليمية، وأنهى الحشد الإقليمي والدولي للمملكة ضدها لتعديل سلوك نظامها، كما أسقط الرهان الإسرائيلي على دور المملكة كرأس حربة في مواجهة إيران ونفوذها الإقليمي. وفي المقابل خرجت المملكة من دائرة الصراعات المنهكة، وتقليص حجم التكلفة وتخفيف العبء لا سيما التهديدات الأمنية القادمة من ساحات النفوذ الإيرانية.

2. قدرة الجارتين على تسوية المشكلات الناشئة

منذ توقيع الاتفاق السعودي- الإيراني، تعرضت العلاقات لبعض المشكلات بداية من مشكلة صورة قاسم سليماني في غرفة الاجتماعات مع وزير الخارجية السعودي بإيران، ثم مشكلة مُجسَّم قاسم سليماني كذلك في أحد ملاعب كرة القدم بمدينة أصفهان الإيرانية، واعتقال أحد المراسلين الإعلاميين في المدينة المنورة في حج العام الماضي لمحاولته بث تسجيلاتٍ مخالفة. والاختبار الأبرز على الإطلاق الذي يعكس حرص الجانبين على العلاقات ومضيهما في بناء معامل الثقة بشكل مستمر يتمثل في عدم تأثر العلاقات بانفجار الصراعات الإقليمية، حيث التزمت كافة الأطراف ببنود الاتفاق، ولم تستهدف الميليشيات مصالح المملكة.

4. إيران وتنامي وزن المملكة إقليميًا ودوليًا

تتابع إيران عن كثبٍ تنامي وزن المملكة على المستويين الإقليمي والدولي، حيث باتت المملكة محط أنظار الأقطاب الدولية الكبرى المتصارعة على القيادة الدولية لكونها أصبحت أشبه برمانة ميزان في النظامين الإقليمي والدولي، بحكم مقدراتها الهائلة وأوراق ضغطها الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية المؤثرة، وتوجهاتها المتوازنة، ومضيها في نهج صناعة السلام بشكلٍ سلمي إلى أن تحولت المملكة إلى دولة محورية في تحقيق التوازنات الدولية، وصاحبة دورٍ رئيسي في ترتيبات الأمن الإقليمي وتسوية الصراعات الإقليمية والدولية. ولذلك تُحظى بثقلٍ لدى صناع القرار في إيران ما يفسر حرص طهران على علاقاتها مع الرياض، وزيارات مسؤوليها المتعددة لها، وآخرها زيارة عراقجي للرياض ضمن جولةٍ خليجية زار خلالها الإمارات وقطر وسلطنة عمان قبل أيام من زيارة الرئيس الأمريكي للخليج، وأكد عراقجي خلال زيارتة للمملكة في مايو 2025م: أن «للسعودية دورٌ هام في استدامة أي اتفاقٍ محتمل (يقصد مع الغرب بشأن الملف النووي)، وأن التنسيق مع الرياض أولوية لدى بلاده».

تدرك إيران جيدًا فرص المملكة المتنامية عالميًا في التأثير على الشؤون الإقليمية والدولية، ولذلك لا تريد خلق أي نوعٍ من التوترات مع المملكة من شأنها التأثير على سير المفاوضات النووية الجارية مع الغرب الأوروبي والأمريكي أو التماهي مع المواقف الدافعة نحو تحشيد القوى الدولية لتقديم ضربةٍ لإيران بعد تقليم أظافرها وتقطيع أذرعها الإقليمية، لا سيما في ظل حاجة إيران الملحة لإنجاز الاتفاق لرفع العقوبات كأنجع طريق لمعالجة الأزمات الداخلية المعقدة نتيجة الحصار والعزلة والعقوبات، بينما تشهد إيران خسائر تاريخية في الشرق الأوسط في مرحلةٍ مفصلية تحتاج فيها إيران إلى المملكة العربية السعودية وإلى جيرانها خوفًا من ضربةٍ عسكرية محتملة ضد مواقعها الاستراتيجية.

رابعًا: الخاتمة والنتائج ومستقبل العلاقة السعودية-الإيرانية

تشير الجهود السريعة من الجانبين لتسوية المشكلة في طورها الأول وعدم تحولها  إلى مستوياتٍ خلافية تحدث توترًا في العلاقات، إلى عدة نتائج غاية في الأهمية تتمثل في:

  1. حرص الجارتين على  تطوير العلاقات وإنجاح الاتفاق السعودي الإيراني في المرحلة الراهنة، ما لم تحدث تطورات وتحولات من شأنها اتخاذ الطرفين أو أحدهما قرارًا بالتحول الاستراتيجي السلبي في العلاقة لا سيما في ضوء ثوابت النظام الإيراني ومبادئه وتوجهاته الخارجية، إذا ما سمحت االظروف الإقليمية للعودة الإيرانية من جديد.
  2. تكشف المعطيات أن ظاهرة إيرانية تتشكل على مختلف المستويات الرسمية والشعبية والنخبوية رافضةً الأصوات والأفكار الراديكالية التي تسببت في مرحلة القطيعة مع المملكة، والتي تكبَّدت خلالها إيران تكلفةً صعبة نتيجة وقوفها وراء سياسات الحصار والعزلة والعقوبات، وربما يكون ذلك انحناءة لما تمر به إيران من مرحلة خسائر جيوسياسية في الشرق الأوسط.
  3. حزم السعودية وصرامتها باعتقال قاسميان يؤكد أنه لا معنى لتطبيع العلاقات دون احترام أمن المملكة وقوانينها وهويتها، وأنّض التطبيع لا يعني غضَّ الطرف عن أي تطبيقٍ للقانون بحزمٍ ضد أي مخالفة، مع إصرارٍ سعودي تام على إبقاء الحج للعبادة فقط دون أي رسائل سياسية أو طائفية.
  4. إدراك وتقدير سعودي للاستثمار في مبدأ «صناعة السلام الإقليمي والدولي»، و«السلام المربح»، والخروج من دائرة «الصراعات المنهكة»، ولذلك لا يمكن للمملكة التي أصبحت قِبلة لتسوية الصراعات الدولية وليست الإقليمية فقط، أن تقف عند مشكلة مماثلة لمشكلة قاسميان، لكون الاستثمار في السلام مربحٌ للدول بكل المقاييس.
  5. تجاوز الجانين للاختبارات بشكل متكرر عند كل مشكلة، يُكسب العلاقة قدرةً وقوةً على المضي نحو تطويرها إلى مستويات أعمق، حال استمرت إيران في تغيير نهجها تجاه القضايا الإقليمية بعيدًا عن الأفكار الأيديولوجية الضيقة.
  6. اختيار شخصية إيرانية مرموقة (مثيرة للجدل) مثل قاسميان لإطلاق تصريحاتٍ مسيئةٍ خلال موسم الحج، ربما يشير إلى رغبة «المتشددين» في إبقاء موسم الحج موسمًا للمماحكات وعدم التسليم بالقيادة السعودية الدينية لشعيرة تُعتبر أحد أركان الاسلام، ما يقلِّل من أهمية المرجعية الشيعية أمام حواضنها. 

 الردود الإيرانية تفيد بأنَّ السلطات الإيرانية ستكون حازمةً ضد تجاوز الخطوط الحمراء السعودية، ربما مرحليًا وبمرونة وبراغماتية خلال المرحلة الراهنة التي تمرُّ فيها إيران بحالة ضعفٍ جيوسياسي، مع ضغوطٍ إسرائيلية لتوجيه ضرباتٍ للمواقع الاستراتيجية الإيرانية، مع تنامي ثِقل ومكانة المملكة في الاستراتيجية الأمريكية، كشف عنها زيارة ومضمون حديث الرئيس ترامب أثناء زيارته للمملكة، خلال المرحلة الراهنة. وأنَّه بخلاف مرحلة القطيعة وما قبلها، كان النظام الإيراني ذاته يستثمر في تلك التصريحات لكن في المرحلة الراهنة يبدو أنَّ النظام الإيراني أدرك الدرس لما تكبده من خسائر هائلة من معاداته للمملكة ذات المكانة المتنامية إقليميًا وعالميًا. 

  لكن في ضوء ثوابت النظام الأيديولوجية واستحضار سجله التاريخي والطويل حول سلوكه المُتبع تجاه القضايا الإقليمية العالقة مع الدول العربية والخليجية بشكلٍ عام، وتجاه قضية الحج بشكلٍ خاص التي تواردت كثيرًا في خطابات خامنئي ذاته، يمكن القول إنَّ النظام الإيراني عادةً ما يتبنى نهجًا براغماتيًا مرنًا عند مروره بمرحلة ضعفٍ كما يحدث خلال المرحلة الراهنة. وسرعان ما يعود إلى مشروعه وأفكاره الأيديولوجية ومواقفه تجاه كافة القضايا عند إتاحة الفرصة له للعودة من جديد، وهذه هي الإشكالية الكبرى في القضية الإيرانية.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير