شنت جماعة الحوثي منذ نوفمبر 2023م نحو 70 هجومًا على سُفُن تجارية في البحر الأحمر، أغرقوا خلالها أربع سُفُن، واختطفوا طواقم بعضها واحتجزوا عددًا منها، وقتلوا ما لا يقِل عن سبعة من أفراد الطواقم، وكل ذلك تحت شعار «نُصرة فلسطين». وتكشف هذه الهجمات عن استخدام الحوثيين لأسلحة أكثر تطورًا، وعن تبنيهم موقفًا أكثر عدوانية بالوكالة عن إيران. ظاهريًا، يزعم قائد الحوثيين، عبد الملك الحوثي، أن الهجمات تستهدف السُفُن، التي تنقل بضائع إلى إسرائيل. فعلى سبيل المثال، السفينة «ماجيك سيز | Magic Seas»، التي أُغرِقت مؤخرًا، كانت قد رست في أحد موانئ إسرائيل في ديسمبر 2023م، وكانت سفينة شقيقة لـ «إتيرنيتي سي | Eternity C» قد رست بميناء حيفا في شهر يونيو. وعندما طلبت الشركة المالكة لـ «إتيرنيتي سي» مساعدة بريطانية وأمريكية، جاءها الرد بأنه لا تُوجَد قواتٌ بحرية في المنطقة؛ يبدو أن مركز المعلومات البحرية المشترك بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد تحول إلى مجرد مركز رصْد واستماع.
وفي يوليو، تعرضت سفينتا «ماجيك سيز» و«إتيرنيتي سي» لهجمات على يد الحوثيين، الذين طوقوا السفينتين بزوارق صغيرة مأهولة، واصطدموا بهما بزوارق غير مأهولة محملة بالمتفجرات، بالتزامن مع استخدام قذائف صاروخية وطائرات مسيرة مسلحة. وقد صُور الهجوم بطريقة احترافية باستخدام طائرات «درون» متعددة، وأُرفقت موسيقى دعائية للمقطع المصور، مع رسائل إعلامية تروج فعالية العملية «الناجحة».
وعلى الرغم من أن هذه الهجمات العنيفة قوضت وبشكلٍ كبير حركة الملاحة البحرية، لكن لا تزال حركة الملاحة سارية مع نداءات استغاثة عبر أنظمة التتبع العامة، مثل «الطاقم مسلم بالكامل»، أو«طاقم صيني بالكامل»، أو «لا علاقة لنا بإسرائيل». غير أن الحوثيين، ومنذ مارس الماضي، لم يوفِروا حتى السُفُن الصينية أو الروسية؛ فقد كانت السفينة «إتيرنتي سي» تُبحِر فارغة إلى ميناء جدة السعودي.
تهدُف الهجمات الحوثية، التي كانت كارثية على أطقم السُفُن وحمولاتها، إلى ردْع حركة الملاحة المتجِهة إلى ومن مضيق «باب المندب» الاستراتيجي أو «باب الدموع»، الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي. ومنذ توقيع الهُدنة مع واشنطن في مايو، لم تعُد السُفُن الحربية الأمريكية تشارك في تأمين البحر الأحمر. وحتى بعد الهجمات، لم يتغير الموقف الأمريكي، إذ نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» تصريحًا على لسان المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية بقولها إن تلك الهجمات لم تُغير «التموضع العسكري» الأمريكي، ما دامت الهُدنة سارية. وقد أسهمت الهُدنة إلى حد كبير في الحد من الهجمات الحوثية. إلا أنه ومنذ اندلاع الحرب الإيرانية-الإسرائيلية، التي استمرت 12 يومًا، والغارات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية، يبدو أن عودة الحوثيين إلى استهداف السُفُن تأتي ضمن الحسابات الإيرانية الرامية إلى كسْب أوراق ضغْط ضرورية في خِضَم الحديث المتجدد عن استئناف المفاوضات النووية. ويمكن القول إن مستقبل الملاحة في باب المندب بات مرتبطًا بمآلات هذه المفاوضات؛ أي الانفراجة الدبلوماسية ستُوقِف عمليات الحوثيين، لا سيما أن إيران سترغب بكبح عدوانية الحوثيين لحماية أي اتفاق مُحتمَل، والذي سيكون مرتبطًا مباشرةً ببقاء النظام الإيراني.
بعد تراجُع نفوذ حزب الله اللبناني، أصبح الحوثيون -الذين تلقوا التدريب والإلهام والدعم التسليحي جزئيًا من إيران- الفاعل المسلح غير الحكومي الأشد فتكًا؛ فهم يمتلكون صواريخ باليستية، وطائرات مروحية، وسُفُناً بحرية وطائرات مسيرة غير مأهولة، ُتتيح لهم خوْض حربٍ منسقة عبر جبهات متعددة، مع قدرتهم على النجاة من ضربات أمريكية وبريطانية وإسرائيلية متكررة. ومن المهم الإشارة إلى أن بعض القُوى الدولية تزود جماعة الحوثي بالتكنولوجيا اللازمة وصور فضائية تُعزز من قدراتهم. ويُشار إلى أن الممر البحري، الذي يعبر منه 12% من التجارة العالمية يضيق إلى 29 كيلومترًا في أضيق نقطة له. وكان الحوثيون قد حاولوا عام 2016م استهداف هذا الممر عبر أربع هجمات، استهدفت حركة الملاحة العسكرية والمدنية، لكن البحرية الأمريكية تصدت لهم بفعالية آنذاك. واليوم، يشِن الحوثيون حملة بحرية أكثر شراسة وتنظيمًا.
وفي ظل استشعار المخاطر المتنامية من هذه الهجمات، بدأت كُبرى شركات الشحن العالمية بإعادة توجيه مساراتها عبر الطرف الجنوبي من أفريقيا، مع الإبحار جزئيًا في البحر الأحمر دون مرافقة بحرية تحميهم.
وقبل الحملة الحوثية على الملاحة، كانت 86% من الحاويات وسُفُن نقْل النفط بين آسيا وأوروبا تمُر عبر البحر الأحمر. أما مصر، التي تعتمد على عوائد «قناة السويس» كمصدرٍ رئيسي للدخل، فتسجِل الآن تراجعًا في العائدات يفوق 70%؛ ما اضطر شركات الشحن إلى دفْع تكاليف أعلى للوقود؛ فالمسار البديل يستغرق 14 يومًا إضافيًا، ناهيك عن أن عبور باب المندب يترتب عليه دفْع رسوم تأمين مرتفعة، خاصةً مع ضبابية أزمة التعريفات الجمركية، التي تسببت باضطرابات في التجارة العالمية.
يبدو أن الحوثيين باتوا يركزون أكثر على عمليات القرصنة البحرية، بدلًا من استهداف إسرائيل بصواريخ باليستية؛ نظرًا لانعدام فعالية الأخيرة. ولم تُسفِر محاولات الابتزاز التجاري، التي مارسها الحوثيون، عن أية مكاسب تُذكَر، بل أدت إلى تعرضهم لضربات صاروخية من الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل. أما إلى متى سيواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سياسة التريث، فهذا أمر غير محسوم إلى الآن. وقد بدأت أعمال الحوثيين تُثير ضيق القُوى الكُبرى مثل اليابان والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، التي تمتلك قواعد عسكرية مُستأجَرة في جيبوتي المجاورة. ولم تظهر بعد مؤشرات على نية هذه الدول استخدام سُفُنها الحربية لمرافقة السُفُن التجارية قبالة سواحل شمال اليمن.
وعلى عكس روسيا، تُعَدُ الصين من أبرز القُوى المتضررة من اضطراب التجارة العالمية، وقد تجِد نفسها مضطرة إلى تجاوُز حيادها، والاضطلاع بدورٍ فعال لضمان حرية الملاحة. فاضطرابات سلاسل التوريد تُعَد كابوسًا لا تستطيع بكين ولا بروكسل تحمله. وعلى الرغم من تضامنها -في التصريحات- مع الغزيين، لن تتخلى الصين عن موقفها المحايد تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لكن أعمال القرصنة الحوثية تكشف حدود هذا الموقف الحيادي، وتدفع دول حوض البحر الأحمر والدول التجارية الأخرى للاعتماد على القوة العسكرية الغربية.
وبالفعل، أصبحت أغلب السُفُن وناقلات النفط الأوروبية والشمال أفريقية تتجنب قناة السويس في طريقها إلى جدة والموانئ السعودية الأخرى. وعلى الرغم من أن صبرها بدأ ينفد، لم تغير السعودية موقفها الرافض من خيار المواجهة العسكرية المباشرة مع الحوثيين لإعادة الاستقرار إلى البحر الأحمر. وإذا ما اتضح أن الدبلوماسية ليست سوى واجهة زائفة، فما هي الخيارات العسكرية الممكنة لقلب المعادلة على الحوثيين؟ في رصيد جماعة الحوثي الجغرافيا وتعاطُف القبائل، يشكلان شبكة الأمان الحوثية. أما الضربات الجوية فنتائجها محدودة، وقد بلغت مداها. لذا، فإن المرحلة المقبلة من العمليات العسكرية قد تتطلب الجمع بين الهجمات الجوية والدعم العسكري المباشر للقوات المناوئة للحوثيين على الأرض، وهي خطوة تُدرَس حاليًا في عواصم غربية، وقد تُمثل حلًا فعالًا لتقليص التهديد الحوثي بشكلٍ ملموس.