قمة الناتو.. مستقبل الأمن عبر الأطلسي في ظل التحديات المتصاعدة

https://rasanah-iiis.org/?p=35903

احتفلت قمَّة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخيرة بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الحلف، حيث أشار خلاها أعضاء «الناتو» بأهمِّية الضمّ التاريخي لفنلندا والسويد. وعلى الرغم من وجود بعض التباينات، ركَّزت القمة في جوهرها على مساعدة أوكرانيا، وتعزيز الردع ضدّ روسيا. وكما أكَّدت القمَّة على اتّخاذ موقف موحَّد بالنسبة لدعم أوكرانيا، وتحويل مسؤوليات الأمن الأوروبي للعواصم الأوروبية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الدفاعي مع الحُلفاء في منطقة الإندو-باسيفيك؛ إذ جرى عقْد مبادرات مهمَّة مع الحُلفاء في منطقة الإندو-باسيفيك؛ بهدف بناء قاعدة صناعية دفاعية قوية، بالإضافة إلى تطوير الدفاع السيبراني، والتصدِّي لتضليل المعلومات، والعمل على مشاريع تكنولوجية لردع التحدِّيات داخل المنطقة وخارجها. وأشارت القمَّة إلى المخاوف من توسُّع نفوذ الصين عالميًا، وصمود روسيا في حربها الدائرة مع أوكرانيا. وفي هذا الصدد، يحذِّر أعضاء «الناتو» في أوروبا من تصعيد التوتُّرات مع الصين والولايات المتحدة، متّخِذين العلاقات الاقتصادية مع الصين أولويةً، لكن مع إبقاء روسيا في تهديدٍ رئيسي.

وفي إعلان القمَّة، وضعت الدول الأعضاء في حلف الناتو روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران في خانة التحدِّيات والتهديدات الرئيسية. وكما هو الحال في القِمَم السابقة، سلَّطت القمَّة الضوء أيضًا على سياسات الصين القسرية في منطقة الإندو-باسيفيك، وشراكتها الإستراتيجية مع روسيا. استخدم أعضاء «الناتو» لغةً أقوى من ذي قبل لانتقاد الصين؛ لدورها في مساعدة روسيا في حربها ضدّ أوكرانيا، ووصفوها بأنَّها «عامل تمكين حاسم» في الحرب؛ فقد انتُقِدت الصين على وجه التحديد لدعم موسكو دعمًا لا محدود، من خلال تقديم المساعدة العسكرية لها في الحرب على أوكرانيا. لذا، فإنَّ الردود على إعلان «الناتو» مهمَّة للغاية، فهي تسلِّط الضوء على التوتُّرات المتنامية. وانتقدت بكين حلف الناتو لتضخيمه «التهديد الصيني» وإثارة التوتُّرات، إذ رفَضَ وزير الخارجية الصيني وانغ يي مزاعمَ دعْم بكين لموسكو في الحرب الروسية-الأوكرانية. وأدان المتحدِّث باسم الكرملين دميتري بيسكوف تصرُّفات «الناتو»، ووصفها بأنَّها «تصاُدمية» بحدِّ ذاتها. كما رفضت إيران اتّهامات «الناتو» بتقديم الدعم العسكري لروسيا، وأرجعت الحرب الروسية-الأوكرانية إلى سياسات «الناتو» الاستفزازية بقيادة الولايات المتحدة.

وشهِدَت ميزانيات الدفاع الأوروبية ارتفاعًا كبيرًا من عام 2022م إلى عام 2024م، إذ بلَغَ الإنفاق الدفاعي نسبة 2% من إجمال الناتج المحلِّي، وحقَّق هذا الهدف 23 من أصل 32 عضوًا في «الناتو». ومن الممكن أن يؤدِّي هذا الإنفاق الدفاعي المتزايد بين الحُلفاء الأوروبيين، إلى تعزيز الموقف الدفاعي الجماعي لحلف الناتو. كما تعهَّد زعماء «الناتو» بتزويد أوكرانيا بما لا يقِلّ عن 43 مليار دولار من المساعدات العسكرية، خلال العام المقبل؛ لتعزيز قوَّتها الدفاعية ضدّ روسيا. ويهدُف هذا في المقام الأول إلى تعزيز الردع ضدّ التهديدات المُحتمَلة، وتعزيز دعْم الولايات المتحدة للحلف من كلا الحزبين؛ الجمهوري والديمقراطي.

وأكَّد رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف ورئيسة الوزراء الدنماركية ميتي فريدريكسن، أن نقْل طائرات «F-16» إلى كييف يجري حاليًا، بعد تلقِّي الطيّارين التدريب الوافي، وبعد إجراء مناقشات سياسية. وصرَّحت الحكومتان الهولندية والدنماركية بأنَّ الطائرات المقاتلة من طراز «F-16» في طريقها إلى أوكرانيا، ومن المتوقَّع أن تبدأ رحلاتها هذا الصيف. وفي بيان مشترك، تعهَّد قادة الولايات المتحدة وهولندا والدنمارك بدعم هذه الطائرات وتسليحها، وتقديم المزيد من التدريبات للطيّارين؛ لتعزيز الفاعلية التشغيلية، مع مواصلة تنسيق الجهود لتعزيز دفاعات أوكرانيا. وتقدِّم طائرات «F-16» دعمًا كبيرًا للقُدرات الجوِّية لأوكرانيا، فهي تلبِّي طلبًا، طال أمده، من كييف، ويُحتمَل أن تعزِّز هذه الطائرات عمليات أوكرانيا الدفاعية والهجومية في حربها المستمِرَّة.

كما عكست قمَّة هذا العام المخاوف الرئيسية بشأن الانقسامات داخل حلف الناتو، لا سيّما مع انخراط رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في جهود سلام مستقِلَّة دون إشراك الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك اجتماعه مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. فقد تسبَّبت محاولات أوربان للعمل كوسيط لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي تضمَّنت أيضًا زيارات إلى روسيا والصين، بخلق توتُّرات مع حُلفاء المجر في «الناتو»، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وليتوانيا.

وكما هو الحال في السنوات السابقة، حضَرَ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قمَّة هذا العام. ومن المهم الإشارة إلى أنَّ كييف لم تتلقَّ دعوةً رسمية للانضمام إلى حلف الناتو، إذ لا يُوجَد إجماع بين الحُلفاء حول هذا الأمر. ويعكس النهج الحذِر، الذي يتبنّاه حلف الناتو في التعامل مع عضوية أوكرانيا، المخاوف من إثارة المزيد من الصراعات مع روسيا. وأكَّد «الناتو» من جديد أنَّ مستقبل أوكرانيا يكمُن في الحلف، واستمرار دعْم مسارها نحو التكامل الأوروبي-الأطلسي التام، بما في ذلك حصولها على عضوية حلف الناتو. بناءً على القرارات الصادرة عن قمَّة مدريد لعام 2022م، وقمَّة فيلنيوس لعام 2023م، التزم حُلفاء «الناتو» بدعم تقدُّم أوكرانيا في قابلية التشغيل البيني الكامل مع الحلف، والقيام بالإصلاحات الأمنية الضرورية. وأكَّد قادة «الناتو» أنَّه يمكن توجيه الدعوة لأوكرانيا بالانضمام للحلف، عند استيفائها الشروط، وعند اتفاق الأعضاء. إنَّ عبارة «عند استيفاء الشروط»، تسلِّط الضوء على مشكلةٍ كبيرة؛  فهي غامضة. وقد يؤدِّي هذا إلى تأخيرات، لا سيّما إذا اتّخذت الإدارة الأمريكية القادمة، مثل إدارة ترامب، منهجًا مغايرًا فيما يخُصّ عضوية أوكرانيا في حلف الناتو، وأجرت تحوُّلات في أولويات التحالف الحالية.

ولطالما انتقد ترامب حلف الناتو، وألمح إلى أنَّه قد يرفع الحماية الدفاعية عن أعضائه ممَّن يفشلون في تحقيق أهدافهم في الإنفاق الدفاعي، بل إنَّه حتى اقترح الانسحاب من الحلف. وعلى الرغم من أنَّ الكونجرس الأمريكي قد أقرَّ قوانين لمنع الانسحاب الرئاسي الأُحادي الجانب، إلّا أنَّ ترامب لا يزال بإمكانه تقويض «الناتو» من خلال عرقلة الإجماع، أو حجْب المساعدات أثناء الأزمات؛ ما يهدِّد فعالية الحلف واستجاباته السريعة في أوقات التصعيد. ومع اقتراب الانتخابات الأمريكية، تبقى احتمالية عودة ترامب مصدرَ قلق كبير لأعضاء «الناتو»؛ فقد توقَّع في وقت سابق مستشار الأمن القومي السابق لإدارة ترامب، جون بولتون، انسحابَ أمريكا من الحلف، قائلًا: «في ولاية ترامب الثانية، سننسحب بالتأكيد من الناتو».

وكما سلَّطت قمَّة هذا العام الضوء مجدَّدًا على أهمِّية منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع تعزيز حلف الناتو تعاونه مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا. واتّخذ حلف الناتو في القمَّة تدابير هامَّة، بهدف تعزيز الحوار بين الأقاليم، بما في ذلك مشروع رئيسي يركِّز على الدفاع السيبراني والتكنولوجيا. وهذا يعكس نهجًا إستراتيجيًا نحو تعزيز القُدرات الدفاعية عبر هذه المناطق. كما يهدُف التعاون بين حلف شمال الأطلسي وشركائه في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلى التصدِّي  للتهديدات العالمية الناشئة، لا سيّما من الصين، وتعزيز الأمن الجماعي، وضمان الاستقرار الإستراتيجي، وسط مخاوف من أنَّ خسارة كييف في الحرب ستجعل من الصعب ردْع الصين في الحرب بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.  

وبالنظر إلى المستقبل، يشكِّل تحقيق الإجماع حول القضايا الكُبرى، وضمان استمرارية السياسات والأساليب، أهمِّيةً جوهرية للحفاظ على فعالية التحالف ومصداقيته، حتى مع حدوث تحوُّلات سياسية داخلية في الدول الرئيسية في حلف شمال الأطلسي، مثل الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة. لكن يبقى التنبُّؤ مفتوحًا حول ما إذا كانت رئاسة ترامب الثانية ستؤدِّي حقًّا إلى نهاية «الناتو».

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير