في السادس من يوليو 2025م، انعقدت قمة مجموعة «بريكس» في البرازيل، تحت شعار «تعزيز التعاون بين دول الجنوب العالمي من أجل حوكمة أكثر شمولًا واستدامة». وكان من المتوقع أن تؤكد القمة على تنامي أهمية المجموعة كمنصة للدول الصاعدة، لكن غياب اثنين من أبرز قادتها؛ الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حوَّل الاهتمام بهدوء من التصريحات الرسمية، إلى تساؤلات أعمق حولَ التوجهات الاستراتيجية والديناميكيات الداخلية للمجموعة.
يُنظَر إلى غياب بوتين غالبًا في ضوء مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، التي تقيد تحركاته على الساحة الدولية. أما قرار الرئيس جين بينغ بعدم الحضور، فكان أقل توقعًا، إذ لم تُصدِر بكين أي توضيحٍ رسمي. وتُشير التكهنات إلى أن هذا القرار رُبما نَجَم عن مزيج من الضغوط الاقتصادية المحلية، وإعادة ضبْط الحسابات الدبلوماسية، ولا يزال القرار مفتوحًا للتأويل.
جاءت هذه القمة في أعقاب التوسع، الذي شهِدَته المجموعة عام 2023م، حين دُعيت ست دول جديدة (السعودية، الإمارات، مصر، إثيوبيا، إيران، وإندونيسيا) للانضمام، أو بدء إجراءات الانضمام. وعلى الرغم من تأكيد معظم هذه الدول مشاركتها رسميًا، لا تزال السعودية تدرس قرار انضمامها من عدمه. وقد أتى هذا التوسع في إطار مساعي المجموعة لتعزيز تمثيل الجنوب العالمي، وبناء نظام عالمي أكثر توازنًا، بيْد أن هذه الخطوة خلقت أيضًا تحديات جديدة؛ فكلما زاد عدد الأعضاء، تعاظمت التباينات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية داخل المجموعة.
وتُعَدُ التوترات بين الهند والصين، وهُما من الأعضاء المؤسسين، مثالًا على ذلك؛ فعلى الرغم من كونهما ركنين أساسيين في «البريكس»، إلا أن الخلافات بينهما لا تزال قائمة؛ من نزاعات حدودية إلى محاولات الهند تقليل اعتمادها على الواردات الصينية. هذا التنافس، وعلى الرغم من احتوائه دبلوماسيًا، يعرقل مساعي التوافق على أجندات مشتركة، أو إصدار مواقف موحدة إزاء القضايا الحساسة.
كما لا تزال المجموعة تترنحُ في تعاطيها مع تبِعات الحرب الروسية على أوكرانيا؛ فعلى الرغم من امتناع معظم أعضاء «البريكس» عن إدانة موسكو صراحةً، فإن هذا الصمت لا يُفهَم بالضرورة على أنه إجماع. فبالنسبة لكثيرين، هو محاولةٌ براغماتية لتحقيق التوازن، إذ يسعون للحفاظ على العلاقات مع روسيا دون التضحية بالعلاقات الاقتصادية مع الغرب. لكن هذا الموقف الوسط قد قوَّض أيضًا قُدرة المجموعة على بلورة مواقف واضحة تجاه الأزمات العالمية، لا سيما حين تتباين رؤى أعضائها تباينًا واضحًا.
وعلى الصعيد الاقتصادي، دعت «بريكس» منذ سنوات إلى إصلاح النظام المالي العالمي، وتقليص الاعتماد على المؤسسات التي تهيمن عليها القُوى الغربية؛ ولهذا الغرض أُنشِئ «بنك التنمية الجديد»، ومع كل هذا لا يزال التنسيق الأوسع في السياسات محدودًا. وفي ظل الضغوط الاقتصادية، لا سيما فرْض الرسوم الجمركية من الاقتصادات الغربية الكُبرى، أطلقت قمة هذا العام انتقادات لاذعة، ووصفت تلك الإجراءات بأنها «غير مسؤولة»، لكن هذه التصريحات لم تُترجَم إلى تحرك منسق، أو بدائل واقعية فعالة.
ومن جانبه، حذَّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريدة نشرها مؤخرًا على حسابه في منصة «إكس»، من أن الدول، التي تزيد تعاونها مع «البريكس» قد تواجه ارتفاعًا بنسبة 10% في الرسوم الجمركية فوق المعدلات الحالية. ومثل هذه التصريحات، تضع دول «البريكس» في موقفٍ حرِج؛ فالصين والهند، على الرغم من انتمائهما إلى المجموعة، قد تسعيان لتجنب استفزاز الولايات المتحدة، نظرًا لتشابك المصالح الاقتصادية معها. وقد تكون الأولوية بالنسبة لهما للتعامل الثنائي البراغماتي، أكثر من المواجهة الجماعية. أما روسيا، فتعاني من قيود تفوق البُعد الدبلوماسي؛ إذ إن الحرب والعقوبات أضعفت اقتصادها وحدَّت من شراكاتها الدولية. وهي لا تزال فاعلةً ضمن «بريكس»، لكنها تبدو أقل قدرة على طرْح مبادرات أو قيادتها.
أما الصين، فإن تبدُّل دورها يبدو أكثر أهمية؛ فبعد أن كانت قوةً دافعة نحو الطموحات الاستراتيجية والمالية للمجموعة، أصبحت اليوم أكثر حذرًا في انفتاحها الخارجي، ناهيك عن أنها تواجه تحديات داخلية، منها أزمة الإسكان، وشيخوخة السُكان، والضغوط الخارجية على قطاع التصنيع، الذي يشكل نحو 27% من الناتج المحلي الإجمالي، ما قد يدفعها لإعادة ترتيب أولوياتها الخارجية. والنتيجة هي ميلٌ إلى الانكفاء، وتراجُعٌ في دورها القيادي داخل المجموعة.
وهذا بدوره يخلق فراغًا لم يُملأ بعد، فحتى الهند، التي يشهد حضورها العالمي صعودًا ملحوظًا، باتت أكثر جرأةً في مواقفها الدولية، لكن توتراتها الاستراتيجية مع الصين تُعيق قدرتها على قيادة «البريكس» بوحدةٍ جامعة. أما البرازيل وجنوب أفريقيا، فتبقيان مشاركتين ملتزمتين، لكنهما تواجهان بدورهما قيودًا داخلية. أما الأعضاء الجُدُد، على الرغم من رمزية انضمامهم، لا يزالون في طور التأقلم مع هيكل المجموعة، ولم يصبحوا بعد فاعلين محوريين.
لا ينبغي النظر إلى غياب الرئيسين الصيني والروسي على أنه مؤشرٌ نهائي على أفول «البريكس»؛ فقد تكون دوافع الغياب مؤقتة أو تكتيكية. ومع ذلك، يسلط هذا الغياب الضوء على القضية الأوسع، ألا وهي أن مجموعة «بريكس» تمُر بمرحلة انتقالية؛ إذ باتت أكبر حجمًا وأكثر حضورًا، لكنها أيضًا أكثر تباينًا من حيث الرؤى الأيديولوجية والاستراتيجية. وفي محصلة القول، نرى أن قدرة «البريكس» على تجاوُز التصريحات الرمزية إلى تعاون فعلي ملموس، ستعتمدُ على مدى نجاحها في إدارة التباينات الداخلية، وتحديد أولوياتها المشتركة. وإن تمكنت من ذلك، فقد تساهم فعلًا في صياغة نظام عالمي أكثر تعددية؛ وإن لم تفعل، قد تبقى هكذا مجرد منتدى للنقاش، لا أكثر.