تُعد الحرب الإسرائيلية على غزة واحدة من أكثر المواجهات دمارًا وتأثيرًا في تاريخ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني المُعاصر، فبعد أكثر من عامين من القتال، خلّفت الحرب عشرات الآلاف من القتلى، وملايين النازحين ودمارًا شبه كامل للبنية التحتية في القطاع. كما عاش سكان غزة ظروفًا إنسانية كارثية تحت القصف والحصار، في حين فشلت محاولات التهدئة مرارًا، بسبب تبادُل الاتهامات بخرق الاتفاقات، وتباين المواقف بشأن الأسرى والحدود والحكم.
وامتدادًا لهذه التوترات الإقليمية التي بلغت لبنان واليمن بحلول منتصف 2025م، وتعزيزًا للحاجة الملحة إلى تسوية شاملة، جاءت قمة شرم الشيخ للسلام، التي عُقدت في 13 أكتوبر 2025م، لتُشكل نقطة تحول نحو إنهاء الحرب؛ حيث أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن «الكابوس الطويل والمؤلم قد انتهى أخيرًا».
تكللت القمة بتحركات دبلوماسية مُكثّفة، أعقبت انهيار وقف إطلاق النار القصير في يناير 2025م. وقد لعبت مصر، بصفتها وسيطًا محوريًا في ملفات غزة، دورًا تنسيقيًا مع الولايات المتحدة، لإعادة إطلاق المفاوضات، في حين ساهمت قطر وتركيا، عبر علاقاتهما بحركة «حماس»، في تسهيل الاتصالات غير المباشرة. وعلى ذلك، جرى التوصل إلى اتفاق في 09 أكتوبر، حين وقّعت إسرائيل و«حماس» المرحلة الأولى من الاتفاق في شرم الشيخ، والذي ينُص على انسحاب القوات الإسرائيلية إلى خطوط مُتفق عليها، وتبادل واسع للأسرى والمحتجزين، وفتح ممرات إنسانية إلى غزة.
وكان انخراط ترامب الشخصي، عبر دبلوماسية التنقل وتصريحات إعلامية بارزة، عاملًا حاسمًا في دفع الاتفاق قُدمًا. في حين وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، القمة بأنها «جهد تاريخي لإغلاق فصل مؤلم وفتح عهدٍ جديدٍ من السلام»، تجسيدًا لطموح القاهرة في تثبيت الاستقرار على حدودها، وتعزيز دورها الدبلوماسي الإقليمي.
وفي إطار المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، أفرجت «حماس» عن 20 من الرهائن الإسرائيليين الأحياء، فين حين بدأت إسرائيل في إطلاق سراح أكثر من 1900 أسير فلسطيني. وفي خطابه، قال ترامب: «بالنسبة لكثير من العائلات في هذه الأرض، مرت سنوات دون أن تعرفوا يومًا واحدًا من السلام الحقيقي». ورغم إشادة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بترامب، واعتباره «أعظم أصدقاء إسرائيل»، إلا أنه تغيب لاحقًا عن القمة، بحجة مناسبة دينية.
وأحدثت مشاهد الإفراج عن الرهائن، التي بُثت على نطاق واسع في المدن الإسرائيلية والفلسطينية ارتياحًا نادرًا، ولكن حذَّر مُحللون من أن هذا الشعور قد يكون مؤقتًا؛ إذ أكدوا أن وقف «إطلاق النار لا يزال هشًا» ويُمثل بداية وليس نهاية.
وقد جمعت القمة، التي عُقدت في منتجع شرم الشيخ، المطل على البحر الأحمر، أكثر من عشرين زعيمًا عالميًا، من بينهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وترأس القمة كل من ترامب والسيسي، بهدف توسيع إطار اتفاق 09 أكتوبر، ليُصبح أساسًا لبنية سلام شاملة. وتمحور النقاش حول «خطة ترامب للسلام في غزة» ذات العشرين بندًا، والتي أعلنها في 29 سبتمبر 2025م، حيث تضمنت الخطة انسحابًا تدريجيًا للقوات الإسرائيلية، ونزع سلاح «حماس» وإقصائها من الحكم، وتشكيل إدارة انتقالية دولية للإشراف على إعادة إعمار غزة، ووضع مسار مشروط نحو تقرير المصير الفلسطيني، بالإضافة إلى نشر قوة دولية مُتعددة الجنسيات، لضمان الاستقرار، وتعهد ترامب بأن يكون الضامن لهذه الخريطة.
من جهتها، تبنت المملكة العربية السعودية موقفًا «متوازنًا وبراغماتيًا»، ساعية إلى حل شامل يُنهي معاناة الفلسطينيين، عبر الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، ضمن مبادرة «سعودية-فرنسية» تهدف إلى دفع الأمم المتحدة نحو تبني حل الدولتين. وخلال مؤتمر صحفي أعقب توقيع الاتفاق، أشاد ترامب بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي مثّله وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، قائلًا: «أشكر ولي العهد السعودي-إنه صديق مُميز-على الجهود العظيمة التي بذلها». ومن جانبه قال المحلل هاني نصيرة، تعليقًا على هذه التطورات: «اتسمت تحركات إسرائيل في المنطقة بالتصعيد والقوة المفرطة، لكن الرياض حافظت على موقف مُتزن وعقلاني، وعملت مع شركاء مثل فرنسا لبناء شبكة أمان إقليمية». أما بالنسبة لترامب، فقد مثلت القمة مُقامرة دبلوماسية وانتصارًا شخصيًا، حتى إن بعض مُنتقديه أقرّوا بأن وقف إطلاق النار هو «صفقته الخاصة». وقال مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جيك سوليفان، في مقابلة مع CNN: «أعطي الفضل للرئيس ترامب… السؤال هو: هل ستصمد هذه الاتفاقية؟».
ورغم نجاح القمة، ما تزال الشكوك قائمة بشأن استدامة الاتفاق على المدى الطويل. فغياب كل من «حماس» ونتنياهو عن القمة، كشف عن محدودية شمولها، ويحذر محللون من أن طبيعة الاتفاق، التي صيغت من جانب الوسطاء لا الأطراف المتحاربة، قد تُكرر إخفاقات سابقة. كما أن قضايا جوهرية لا تزال عالقة، مثل نزع سلاح «حماس»، وجدول انسحاب القوات الإسرائيلية، وآليات انتقال الحكم في غزة. وقد أشارت تقارير مُبكرة إلى مقتل عدد من الفلسطينيين على يد القوات الإسرائيلية، قُرب خط التماس في 14 أكتوبر، ما كشف هشاشة الهُدنة. وفي 19 أكتوبر، أدى انفجار في رفح-أشارت بعض التقارير بأن «حماس» وراءه-إلى مقتل جنديين إسرائيليين، تبعته غارات إسرائيلية، أسفرت عن مقتل 45 فلسطينيًا، وفقًا للدفاع المدني في غزة، لترتفع حصيلة الضحايا والقتلى منذ إعلان وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر إلى 97 قتيلًا.
وتصرُّ «حماس» على أن نزع السلاح يجب أن يأتي بعد (وليس قبل) ضمانات بعدم إعادة الاحتلال الإسرائيلي، وضمان حُرية إعادة الإعمار. في المقابل، تتجنب إسرائيل الالتزام بانسحاب كامل، محتجّةً بالمخاوف الأمنية. وقد أعادت دبلوماسية ترامب النشطة تشكيل المشهد السياسي الداخلي والإقليمي، حيث قوبل في القدس باستقبال حافل وهتافات «شكرًا ترامب!»، في حين واجه نتنياهو صيحات استهجان، ما يعكس تزايد السخط الشعبي تجاه قيادته. وفي هذا السياق علّق المُحلل السعودي سلمان الأنصاري، مُشيرًا إلى أنه على صُناع القرار الأمريكيين أن «يميزوا بين دعم إسرائيل كدولة، وبين الاصطفاف المطلق مع نتنياهو». وأكد الأنصاري، أن ترامب أمام فُرصة تاريخية، «فإذا قاد جهود إنهاء دوامة العنف ودفع نحو حل الدولتين، فقد يستعيد مصداقية أمريكا العالمية، ويحقق ما لم يحققه أي رئيس أمريكي من قبل، وهو السلام الدائم».
كما تحمل قمة شرم الشيخ دلالات عميقة، على مستوى السياسة الخارجية الأمريكية؛ إذ تعزز نهج ترامب القائم على «أمريكا أولًا»، وتضع الولايات المتحدة في موقع الوسيط الرئيس للسلام، مُبرزةً أسلوبه القائم على الصفقات. لكن استدامة السلام ستعتمد على آليات متابعة ملموسة: مراقبة نزع السلاح، وتمويل شفاف لإعادة الإعمار، ومصالحة سياسية فلسطينية شاملة. وبغياب هذه العناصر، قد يتحول الاتفاق إلى مجرد هُدنة أخرى «محكومة بالفشل».
خلاصة القول، تُمثل قمة شرم الشيخ لحظة تفاؤل حذر، أو بالأحرى استراحة ضرورية في حرب مُدمرة لم تُحسم نهايتها بعد. ورغم أن الهُدنة قد أوقفت نزيف الدم، إلا أن طريق السلام مازال محفوفًا بانعدام الثقة، وعدم التوازن والخلافات العميقة حول السيادة. وإذا ما جرى تنفيذ الاتفاقات بصدق، فقد تفتح القمة عهدًا جديدًا من الدبلوماسية الإقليمية، تضطلع فيه الدول العربية بدعم من الوساطة الأمريكية، بمسؤولية جماعية لبناء السلام. لكن إذا تعثّر التنفيذ أو استمرت المظالم الجوهرية، فقد تكون «نهاية الحرب» التي أُعلنت في شرم الشيخ، مجرد محطة مؤقتة في مأساة لم تُكتب نهايتها بعد.