قمَّة الخليج-الآسيان-الصين.. نموذجٌ جديد للشراكات والحفاظ على التوازنات الدولية

https://rasanah-iiis.org/?p=37678

في ظل لحظةٍ تاريخيةٍ فارِقة، تقاطعت فيها التحوُّلات الجيوسياسية، وتبدَّلت خلالها التحالفات والشراكات الاستراتيجية، واهتزَّت أمامها التوازنات العالمية، على خلفية تفجُّر الصراعات الإقليمية، واحتدام الصراعات الدولية، وصعود سياسات «الاستقطاب الحاد» للقُوى الإقليمية المؤثِّرة في مجريات الشؤون الدولية للفوز بمعركة الصراع على القيادة الدولية، اتّجهت الأنظار نحو العاصمة الماليزية كوالالمبور يوم 27 مايو 2025م، لمتابعة مُخرَجات القمَّة الثلاثية التاريخية الأولى من نوعها، التي جمعت ثلاثة أطراف وازنة في الهيكل الاقتصادي والسياسي الدولي: دول مجلس التعاون الخليجي، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان)(*)، والصين. وانعقدت هذه القمَّة، بعد قمَّتين هامّتين؛ إحداهما القمَّة الـ46 لدول الآسيان في 26 مايو 2025م، والأخرى القمَّة الثانية من نوعها بين دول الخليج والآسيان، في خطوة رُبَّما تُضيف زخمًا للجهود الدولية الساعية نحوَ صياغة نظام دولي متوازن.

الأصداء الدولية الواسعة، التي لاقتها القمَّة قبل وأثناء وبعد انعقادها، تـفرض مجموعةً من التساؤلات، سنُجيب عليها في هذا التقرير. والأسئلة هي: لماذا تشكِّل القمَّة في تقديرات الكثير من المراقبين بداية مرحلة جديدة في مستوى تأثير ما يُسمَّى بـ «الجنوب العالمي» في الشؤون الدولية؟ وما تداعياتها على أدوار القُوى الآسيوية الصاعدة في مسيرة إرساء نظام دولي متعدِّد الأقطاب للحد من سياسات الأُحادية القُطبية؟ ولماذا لجأت القُوى الآسيوية المؤثِّرة إلى صياغة ذلك النوع من التعاون الجديد في العلاقات الدولية؟ وما ثِقَل وأهمِّية الأطراف الثلاثة في الاستراتيجيات الدولية؟ وما حجم المكاسب التي توفِّرها مُخرَجات القمَّة للأطراف الثلاثة، ومقارنتها بحجم التحدِّيات التي تُعيق تنفيذ قراراتها، للتنبُّؤ بمستقبل واتّجاهات ذلك النوع من الصِيَغ التعاونية الجديدة؟

أولًا: سياقات ودوافع انعقاد القمَّة الثلاثية

بدايةً، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ القمَّة الثلاثية ليست امتدادًا لنموذج القمَّة الثنائية، التي جمعت دول الخليج والآسيان في الرياض أكتوبر 2024م، وإنَّما نموذج جديد يُسطَّر في «بناء الشراكات المتعدِّدة الأطراف» في العلاقات الدولية المعاصرة يُحسَب للأطراف الثلاثة: دول الخليج والآسيان والصين، وهناك عدد من الدوافع، التي يقِف وراء انعقادها، كالتالي:

1. حالة الاستقطاب الدولي الحاد: يمُرّ النظام الدولي بمرحلة خطيرة من عُمره، تُسمَّى بمرحلة «الاستقطاب الدولي الحاد»، يسعى فيها كلُ قُطب دولي إلى استخدام أدوات القوَّة المادِّية وغير المادِّية -باستثناء الحرب كوسيلة أخيرة مُكلِفة- في سبيل قلْب أو الحفاظ على النظام الدولي، وقد تصِل في بعض الأحيان إلى التلويح بسياسة العصا، أو غض الطرف عن السياسات المناوئة، أو التماهي مع الخصوم في القضايا الشائكة.. إلخ. وهو ما نراه اليوم في عالمنا بين واشنطن الراغبة في عودة العصر الذهبي بموجب حزمة من الإجراءات الاقتصادية طالت الحُلفاء والخصوم، وأثارت موجة فوضى دولية عارمة، وبكين الساعية لإرساء نظام دولي متعدِّد الأقطاب؛ ما من شأنه أن يعزِّز لدى الروابط الإقليمية -مثل الخليج والآسيان- نزعة عدم الثقة في «سياسة المحاور»، مقابل المُضي نحو خلْق البدائل والدبلوماسية والشراكات متعدِّدة الأطراف للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية. لذلك، تجِد من أبرز قضايا جدول أعمال القمَّة، الرسوم الجمركية الأمريكية أُحادية الجانب، حيث أعرب زُعماء دول الآسيان، التي تعتمد على التصدير، أثناء القمَّة عن «قلقهم العميق» بشأن الرسوم الأمريكية المرتفعة، والتي تتراوح ما بين بين 32% إلى 49%.

2. ضبابية المشهدين الإقليمي والدولي: يطغى على المشهدين الإقليمي والدولي حالة من الضبابية، على خلفية اضطراب النظامين الإقليمي الدولي، وعجْز منظَّماتهما عن حسْم الصراعات الدولية المتفجِّرة، سواءً في الشرق الأوسط أو في الشرق الأوروبي، بشكلٍ أضرَّ بسلاسل الإمداد العالمية، وحركة الملاحة والتجارة الدولية، وتنفيذ الممرّات اللوجستية والتجارية العالمية؛ ما يدفع الدول الفاعلة للبحث عن صِيَغ تعاونية جديدة تعزِّز من مساحة تحرُّكها. لذلك، يُعَدُّ هذا التوقيت سانحًا للاصطافات بين التجمُّعات، مثل الخليج والآسيان، كتجمُّعاتٍ صاعدة ضمن «الجنوب العالمي»؛ للحفاظ على المصالح، وتعزيز أوراق الضغط، والحد من تداعيات المشهد الضبابي. لهذا، يرى رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، أنَّ دول «الجنوب العالمي» بحاجة إلى صِيَغ تعاونية جديدة تناسب التحدِّيات الإقليمية والعالمية الضخمة بشكلٍ مستقِلّ، بعيدًا عن توجُّهات القُوى الدولية، وإيمانًا بمفهوم المستقبل المشترك لدول الجنوب العالمي.

3. تعزيز الحضور الدولي المشترك: تسود رغبة مُلِحَّة مُتبادَلة لدى قادة الرابطتين والصين، بأن الحضور المشترك على الساحة الدولية وتسريع الجهود الرامية إلى تنويع شبكة العلاقات التجارية البينية، يضمن تحقيق أهداف السياسة الخارجية بكفاءة وبفاعلية، ويحِدّ من تداعيات السياسات التجارية للأُحادية القُطبية، التي نسفت قواعد التجارة العالمية. لذلك، كشَفَ الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم محمد البديوي عن تنامي العلاقات التجارية بين الرابطتين، حيث بلَغَ حجم التبادل التجاري البيني في السِلَع فقط نحو 122 مليار دولار خلال 2023 (76 مليار دولار صادرات خليجية لـ«الآسيان» مقابل 46 مليار صادرات من الآسيان لدول الخليج)، كذلك تعزَّزت العلاقات التجارية بين الصين والآسيان، التي لطالما ابتعدت عن قضية الاختيار بين واشنطن وبكين، وباتت الصين رابع أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة لـ«الآسيان» بعد الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي. لهذا السبب، تشكِّل القمَّة خطوةً متقدِّمة لتعزيز الحضور الدولي المشترك لخلق توازُن دولي، حيث أوضح رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ، أنَّ القمَّة خطوة رائدة في التعاون الاقتصادي الإقليمي.

ولا يمكن تجاهُل أنَّ الصين لعِبَت دورًا بارزًا بالتنسيق مع ماليزيا المستضيفة للقمَّة في تنظيمها والدعوة إليها، باعتبارها فُرصةً مهمَّةً لبكين للتقرُّب من دول تقِف على خط المنتصف بين الولايات المتحدة والصين، حيث انعقدت القمَّة بعد جولة أجراها الرئيس الصيني شي جين بينغ في أبريل 2025، لبعض دول الآسيان الحليفة للولايات المتحدة، دعا خلالها إلى ضرورة لم شمْل «العائلة الآسيوية» وتعزيز صوتها عالميًا؛ وذلك ضمن مساعٍ صينية لمواجهة محاولات واشنطن عزلها وحصارها.

ثانيًا: أهمِّية وثِقَل الأطراف المشاركة في القمَّة

حظِيَت القمَّة باهتمام عالمي واسع؛ لكونها جمعت بين ثلاثة تكتُّلات دولية مؤثِّرة في هيكل النظام السياسي والاقتصادي الإقليمي والدولي، وجميعها تكتُّلات آسيوية أَحيت في أذهان صُنّاع القرار في الغرب مقولة كبار المنظِّرين منذ سنوات، بأنَّ «القرن الواحد والعشرين قرنٌ آسيوي بامتياز»، لا سيّما مع بروز آسيا كقوَّة اقتصادية يُتوقَّع أن تساهم بأكثر من نصف الناتج المحلِّي الإجمالي العالمي بحلول عام 2040.

يُعَدُّ التكتُّلان: الخليج والآسيان مع الصين ضمن التكتُّلات الاقتصادية الآسيوية القوية، ومؤشِّراتها الاقتصادية واعدة، واستطاعت أن ترسم لنفسها مسارها الخاص السِلْمي والمزدهر والصاعد عالميًا، وأثبتت أنَّها تكتُّلات لدول حيوية ومستقِرَّة، وأنَّها من الأسواق الصاعدة والأسرع نموًا في العالم.

كلمة ولي العهد الكويتي الشيخ صباح خالد الحمد الصباح في الجلسة الافتتاحية، جاء فيها أنَّ الرابطتين «تتمتَّع كلٌ منها بمقوِّمات جغرافية وبشرية واستراتيجية هائلة؛ ما يؤهِّلهما بأن يقوما بدورٍ مهم، في ظل ما يشهده العالم من تحدِّيات أمنية متشابكة تفرض أنماطًا جديدة من التعاون والشراكة»، موضِّحًا أنَّ إجمالي الناتج المحلِّي لدول الخليج ورابطة الآسيان البالغ عددها 16 دولة بلغ قرابة 6 تريليونات دولار، في حين يبلغ عدد شعوب هذه الدول قرابة 740 مليون نسمة. وفي حال أضفنا الناتج المحلِّي الإجمالي للصين وعدد سُكّانها لاقتصاد التكتُّلين، نكون أمام قوَّة اقتصادية آسيوية جبّارة يمكنها أن تفرض تأثيرها وسيطرتها على الشؤون الدولية، وتُثير مخاوف القُوى المُسيطِرة على القيادة الدولية، حيث يتجاوز تعداد سُكّان دول الخليج والآسيان والصين مجتمعين أكثر من 2.14 مليار نسمة (نحو 27% من سُكّان العالم)، ويبلغ الناتج المحلِّي الإجمالي للأطراف الثلاثة مجتمعة أكثر من 24 تريليون دولار؛ ما يعادل أكثر من 22% من الناتج العالمي. وفيما يلي وزن كل تكتُّل على حِدة إضافةً للصين:

  1. ثِقَل ومكانة دول الخليج: تحوَّلت دول الخليج إلى محط أنظار القُوى العالمية كرُمّانة ميزان في تحديد مستقبل النظام الدولي، وكذلك للاعب محوري في تحقيق التوازنات الإقليمية والدولية، وتلعب دورًا رئيسيًا في ترتيبات الأمن الإقليمي بل والعالمي، وإعادة الإعمار والاستثمار في السلام، وخلْق توازنات تجعل منها قوَّةً مهمَّة لا يمكن تجاهلها في معركة القيادة الدولية. كما تحظى دول الخليج بمكانة خاصَّة في النظام الاقتصادي العالمي، بامتلاكها أُصولًا سيادية تبلغ قيمتها 4.9 تريليون دولار «Global SWF» (37% من إجمالي الأصول السيادية)؛ ما يجعلها من أهمّ القُوى الاستثمارية في العالم، وتمتلك 30% من احتياطي النفط العالمي، و20% من احتياطي الغاز الطبيعي العالمي (وكالة الطاقة الدولية)، كما يشكِّل الناتج المحلِّي الإجمالي لدول الخليج 2.2 تريليون دولار (صندوق النقد الدولي). وتحظى دول الخليج باستثمارات قوية في قطاعات حيوية في الغرب، وباتت منطقةً محورية في سلامة وتنفيذ المحاور اللوجستية العالمية بحُكم موقعها الاستراتيجي، وبنيتها التحتية القوية والمتطوِّرة، ومساعيها لتنويع مصادر الدخول غير النفطية.
  • ثِقَل رابطة الآسيان: يعود إلى موقعها في منطقة جنوب شرق آسيا، التي تأتي ضمن المركز الجغرافي الأوسع للصراع الأمريكي-الصيني على القوَّة والنفوذ في الإندوباسفيك، وتُصنَّفبعض دولها، مثل إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، على أنَّها مراكز اقصادية متطوِّرة، ويقع إجمالي الناتج المحلِّي الإجمالي لدول الآسيان ضمن الاقتصادات الأكبر في العالم (نحو 4 تريليون دولار لعام 2024م). وتُعَدُّ الرابطة من كبار المساهمين في النمو الاقتصادي العالمي، بعد الولايات المتحدة والصين وألمانيا واليابان والهند والمملكة المتحدة، وتحظى بإنتاج ضخم للمواد الخام، وكشريك تجاري رئيسي لكبار الاقتصادات الدولية، ومركز استقطاب لاستثمارات إقليمية ودولية مهمَّة، ورسَّخت ماليزيا وتايلاند مكانتهما كمركزين عالميين للصناعة التحويلية، وباتتا تُصنَّفان ضمن كبار منتجي الأجهزة الإلكترونية المتطوِّرة والسيارات وشرائح الكمبيوتر. أمّا لاوس وكمبوديا وماينمار وفيتنام المصنَّفة على أنَّها اقتصادات واعدة، فقد صاغت استراتيجيات للخروج من سياسة التخطيط المركزي، وبعد انضمامها لـ«الآسيان» انخرطت بالفعل ضمن سلاسل الإمداد الإقليمية.

جدول رقم (1): مؤشِّرات مختارة للمقارنة بين مجلس التعاون الخليجي والآسيان

المصدر: معهد «رصانة»، بالاعتماد على بيانات صندوق النقد الدولي

  • وزن الصين: حسب تقديرات كبار المنظِّرين، تمتلك الصين مقدّرات القُوى العالمية، وتُعَدُّ دولةً محورية في المسرح الدولي والمشهد العالمي، بحُكم قوَّتها الشاملة، وتعتبرها الولايات المتحدة المهدِّد والمنافس الأول لها على القيادة الدولية، كما يراها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنَّها تمتلك بالفعل أدوات المنافسة والقُدرة على تغيير النظام الدولي، حيث تُعَدُّ الصين الاقتصاد الثاني في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي -هناك معايير غربية تصنِّفها على أنَّها الاقتصاد الأول- وعضو دائم بمجلس الأمن الدولي، وتقع ضمن أوائل اقتصادات مجموعة دول الـ 20، وأثبتت أنَّها بديل وقُطب دولي يمكن التعويل عليه، بعد اختبار قوته وأدوات تأثيره في الشؤون الدولية، بل وقُدرته على الصمود والتأثير وسط تصاعُد حالة عدم اليقين العالمي، لا سيّما بعدما أشهرت أوراق الضغط المضادَّة للرسوم الأمريكية المرتفعة على صادراتها، على نحوٍ دفَعَ الطرفان للجلوس على مائدة التفاوض في نهاية المطاف. كذلك تحظى الصين بعلاقات قوية مع الرابطتين: الخليج والآسيان؛ لكونها تُعلي من مفهوم الشراكة، وتسعى لإرساء نظام دولي متعدِّد الاقطاب، وتُعطي للرابطتين أهمِّيةً خاصَّة في علاقاتها التجارية الدولية. وبالتالي، فمشاركتها في القمَّة زادَ من أصدائها العالمية، وأضفى المزيد من الزخم على توجُّهات الرابطتين في ضرورة الحفاظ على التوازنات الدولية.

ثالثًا: مكاسب الأطراف المشاركة في القمَّة

يتمثَّل أكبر مكسب للأطراف المشاركة بالقمَّة، في صياغة نموذج جديد للتعاون والشراكات متعدِّد الأطراف، يمكنه أن يحافظ على التوازنات الإقليمية والدولية الراهنة، ويضمن تحقيق المصالح الآسيوية، والتأثير في مجريات الشؤون الدولية، في ظل المساعي الدولية الحادة لاحتكار الهيمنة على القرار الدولي. لكن هناك حزمة من المكاسب الإضافية، وهي:

1. مضامين مُخرَجات القمَّة: حمَلَ البيان الختامي حزمةً من النتائج، التي تُشير إلى التزام جماعي بدفع مسارات التعاون إلى نطاق أرحب يتناسب والمكانة المتنامية للرابطتين والصين في الاقتصاد العالمي، كما حدَّد البيان آلية وقواعد للتعاون تقوم على الالتزام المشترك ببناء مستقبل سِلْمي ومُستدام، والتكافؤ بين الأطراف الثلاثة. وشدَّد القادة على ضرورة تكثيف الجهود الجماعية تجاه: دعْم منظَّمة التجارة العالمية، وتسريع إقرار النسخة الثالثة من منطقة التجارة الحُرَّة بين الصين وآسيان، والمُضي في مفاوضات اتفاقية التجارة الحُرَّة بين دول الخليج والصين، وتعزيز سلاسل الإمداد المشتركة، وإنشاء مجلس أعمال إقليمي، ودعْم مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، وتطوير الممرّات اللوجستية العالمية المشتركة، والتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي والبنية الرقمية والمُدُن الذكية والأغذية الحلال، وكذلك ضرورة التعاون لحماية الأمن البحري.

عكَسَ البيان تطابُق وجهات نظر الأطراف الثلاثة تجاه القضية الفلسطينية؛ ما يعزِّز من الضغوط العربية والخليجية والدولية على إسرائيل لوقف الحرب، حيث شدَّد البيان على ضرورة وقْف إطلاق النار في غزة، وإدانة الهجمات ضدّ المدنيين الفلسطينيين، ودعا إلى سرعة إدخال المساعدات الإنسانية، واحترام اتفاقيات جنيف وقواعد القانون الدولي الإنساني، كما لفَتَ البيان إلى الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية يوليو 2024م، والذي طالب بإنهاء الوجود غير القانوني للاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وأشار إلى القرار المتعلِّق بعضوية فلسطين في الأُمم المتحدة، وتبنِّى حل الدولتين على أساس حدود يونيو 1967م، وإلى المبادرة السعودية-النرويجية-الأوروبية لدعم الدولة الفلسطينية. وانتهت بنود البيان بالتأكيد على اتفاق المشاركين على تنفيذ البيان المشترك عبر آليات التعاون الثلاثية، وتحويله إلى نتائج ملموسة، والترحيب بعقد القمَّة المقبلة لحوار التعاون الآسيوي في الدوحة.

2. الاستثمار في المشتركات: تجمع بين رابطتي الخليج والآسيان روابط تاريخية، حيث يجمع الإسلام بينهما، كما أنَّ الصين بها عدد كبير من المسلمين الإيغور يُقدَّر بالملايين، كما ساهمت الاكتشافات النفطية في الخليج العربي في القرن العشرين في تعزيز الهجرة بين دول الخليج والآسيان. لذلك، يعيش العديد من مواطني دول الآسيان في الخليج العربي، ومن ثمَّ تُفسِح القمَّة المجال واسعًا أمام الاقتصادات الصاعدة والواعدة والناشئة في آسيا لتعزيز العلاقات البينية، خصوصًا أنَّ الاستثمار في الصناعات النفطية الخليجية أصبح هدفًا استراتيجيًا في آسيا لتأمين الإمدادت النفطية وتعزيز قطاعات جديدة للاستثمار. في المقابل، تنظر دول الخليج لتلك الصيغة التعاونية على أنَّها جزء من سياسات التنوع الاقتصادي المنشود، حيث تطمح دول الخليج في إضافة أشكال جديدة للتعاون مع الآسيان والصين، مثل قطاعات الطاقة المتجدِّدة.

كذلك تمكَّنت الرابطتان المهمّتان، اللتان بلغ معدل تجارتهما المُتبادَلة نحو 137 مليار دولار في 2022م، من تشبيك العلاقة أكثر مع الصين، التي تُعَدُّ الشريك التجاري الأول لدول الخليج في العديد من القطاعات الحيوية، مثل قطاعات الطاقة والتكنولوجيا والبنية التحتية، بحجم تبادل تجاري في قطاع السِلَع تجاوز 298 مليار دولار 2023م. كما تمكَّنت الصين، التي بلغ معدل تجارتها مع دول الآسيان نحو 234 مليار دولار خلال الربع الأول من عام 2025م، من أن تلعب دورًا رئيسيًا في المزيد من تعزيز العلاقات بين الرابطتين، عبر ممرّ «الحزام والطريق»، الذي يمُرّ عبر العديد من دولهما.

بموجب تأكيد البيان أيضًا على التعاون في مجال الأغذية الحلال، يمكن تعزيز العلاقات بين الأطراف الثلاثة في المجال السياحي والثقافي، وخصوصًا في ظل تبنِّيها سياسة تنويع مصادر الدخول، والتي من بينها توفير بيئات ووجهات سياحية جاذبة؛ وبالتالي يمكن تعزيز القطاع السياحي البيني مع تزايُد الطلب على الخدمات السياحية الحلال، ويُعَدُّ ذلك القطاع جسرًا للتواصل بين الثقافات والشعوب.

3. تعزيز الأمن البحري: تعزِّز الصيغة الجديدة الترتيبات الأمنية بين الأطراف الثلاثة، في مواجهة تحدِّيات الأمن البحري عند الممرّات الاستراتيجية مثل مضيق ملقا وهرمز، والأهمّ عند مضيق باب المندب في البحر الأحمر لمرور السِلَع الاستراتيجية (النفط والغاز) للدول المصنِّعة، مثل دول الآسيان والصين، التي تمتلك حضورًا بحريًا عسكريًا نشِطًا في البحر الأحمر، وأيضًا تعزيز الأمن لسُفُن التجارة الدولية القادمة من الدول الآسيوية إلى الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، خاصَّةً أنَّ اقتصادات الآسيان والصين تعتمدُ بشكل متزايد على الإمدادات النفطية من الشرق الأوسط، وفي المقام الأول من الخليج العربي. كذلك، تعزِّز الصيغة الجديدة من مساعي دول الرابطتين والصين لتحقيق الأمن في الشرق الأوسط وشرق آسيا والمحيط الهندي، الذي يُعَدُّ جزءًا من أمن الخليج العربي، وهناك نموذج يمكن البناءُ عليه تشارك خلاله قوات من بعض دول الآسيان ودول الخليج في القوّات البحرية المشتركة، التي تضُمّ 34 دولة لحماية التجارة والملاحة في الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر.

4. إكمال حلقة كاملة من السلاسل الصناعية: الأطراف الثلاثة تكمل حلقةً كاملة من السلاسل الصناعية وسلاسل السوق وسلاسل رأس المال، بالنظر إلى أنَّ الصين تمثل قوَّةً صناعيةً كُبرى، وسوقًا واسعة، ودول الآسيان تشكِّل مناطق غنية بالموارد الطبيعية والبشرية، وسوقًا واسعة، وتحظى بموقع جغرافي متميِّز، ودول الخليج تُعَدُّ دولًا غنية برأس المال ومصادر الطاقة الضخمة، وموقع جيوسياسي فريد على نحوٍ يدعم الاستثمار الصُنّاعي وتطوير البنية التحتية والخدمات اللوجستية. وبذلك، فإنَّ صياغة الآلية التعاونية الثلاثية يرفع مستوى التعاون من نموذج «التكتُّلات المترابطة» إلى نموذج «المنصَّة الآسيوية الموحَّدة» القادرة على سن قواعد جماعية، وتنفيذ مشاريع قارية مشتركة. وبالفعل، هناك مساعٍ ثلاثية جادَّة للمُضي نحو رفْع مستويات التعاون؛ ففي مجال الذكاء الاصطناعي، تعمل بعض الشركات الصينية مع شُركاء من دول الخليج والآسيان لتطوير نماذج محلِّية، مثل إطلاق شركة «علي بابا» الصينية نموذج SeaLLMs في الآسيان، وتعاون شركة DeepSeek الصينية مع مركز بيانات رقمي سعودي تابع لشركة «أرامكو» في الدمام، وتأسيس مركز إنتاج لأجهزة في مجال الذكاء الاصطناعي التابعة لشركة «لينوفو» الصينية في السعودية، كذلك أنشأت بعض الشركات الصينية مصانع في الرياض في مجال الصناعات التحويلية لدعم مبادرة «صُنِع في السعودية». وتُعَدُّ رغبة دول الخليج في إحراز تقدُّم في قطاع الطاقة النظيفة واحتياجات دول الآسيان في نفس القطاع، مجالًا واسعًا للتعاون يصُبّ في صالح «آسيا خضراء» ويمكن أن يتحقَّق على ضوء الصيغة التعاونية الجديدة.

5. تجنُّب فخ الاستقطاب الحاد: الصيغة الجديدة تُجنِّبُ دولَ الرابطتين فخَ الوقوعِ في الاستقطاب الحاد، الذي تستخدمهُ القُوى الكُبرى في الصراع على القيادة الدولية، حيث تُتيح لدول الخليج والآسيان موازنة العلاقات مع الصين والولايات المتحدة. ورُبَّما تلك المعضلة المشتركة بين دول الخليج والآسيان تجاه القوَّتين الأمريكية والصينية، قد تدفعهما إلى تعزيز الاقتصادات الإقليمية، عبر تجنُّب الوقوع في فخ التحالفات الاستقطابية للاختيار بينهما، واختيار أولوياتهم وفق أجندة الأمن القومي ومصفوفة المصالح الوطنية.

رابعًا: تحدِّيات أمام التعاون الثلاثي المشترك

على الرغم من أهمِّية القمَّة وأجندة أعمالها وثِقَل أطرافها ومُخرَجاتها ومكاسب الأطراف، التي يمكن أن تُرسي نهجًا جديدًا في مستويات التعاون البينية، غير أنَّ هناك تحدِّيات أمام الأطراف الثلاثة لتعزيز التعاون المشترك، أبرزها:

1. النزاعات العالقة بين بعض الأطراف المشاركة: هناك خلافات شديدة تصِل إلى حد النزاعات بين الصين ودول الآسيان على السيادة في بحر الصين الجنوبي، ولا يمكن لهذه الأطراف تجاهلها في مستقبل العلاقة البينية، ولا يمكن لذلك المستوى من التعاون أن يعالجها، لا سيّما مع تكثيف بكين حضورها العسكري في البحر، وذلك ضمن الصراع مع واشنطن للسيطرة على الإندوباسفيك للفوز بمعركة القيادة الدولية. حيث تدرك بكين أنَّ التهاون في السيادة على البحر يصُبّ في صالح سياسات التطويق الأمريكية لها، ويوفِّر لواشنطن أوراق ضغْط قوية تُسهِم في حصارها من بوابة إمكانية التأثير في الأمن الاقتصادي الصيني؛ لكون البحر تمُرّ عبره النسبة الأكبر من تجارة الصين الخارجية من ناحية، وتأتي عبره إمدادات الطاقة لضمان دوران عجلة إنتاجها الضخمة من ناحية ثانية. ومن ثمَّ فإن فُقدان بكين للسيادة على البحر، يعني خسارة شريان الحياة للاقتصاد الصيني، كما أنَّ واشنطن وبكين تُدرِكان أنَّ السيطرة على البحر تلعب الدور الأكبر في تحقيق الهيمنة الاقتصادية العالمية، وفرْض الهيمنة على الاقتصاد الدولي سيحدِّد بالطبع القوَّة العظمى في القرن الـ 21، حسب تقديرات كبار المنظرين؛ لكونها تُتيح للمسيطر التحكُّم في مستقبل التجارة الدولية. وبالتالي، فإنَّ الحضور العسكري الصيني في بحر الصين الجنوبي مسألة أمن قومي وحيوي واستراتيجي وجيوسياسي للصين.

هاااااااااااااااامخريطة (1): النزاع البحري بين الصين ودول الآسيان في بحر الصين الجنوبي

2. صعوبة الالتزام بسياسة الحياد: يصعُب على العديد من دول الأطراف المشارِكة في القمَّة تجنُّب سياسة الاستقطاب الحاد، حيث أنَّ غالبيتها تربطها علاقات تجارية قوية مع الصين، بينما يرتبط بعضها بعلاقات أمنية مع الولايات المتحدة، وترغب بعضها في البقاء الأمريكي. فبالنسبة لدول الآسيان، فهي تتخوَّف من الحضور العسكري الصيني المتزايد في بحر الصين الجنوبي، واستخدام الصين أدواتها الاقتصادية للضغط على الآسيان لتجنُّب تصعيد النزاعات في البحر، والغموض الكبير بشأن السياسة الصينية المُتعارَف عليها بـ «سياسة فخ الديون»، التي تستخدمها الصين للضغط على دول الآسيان، التي تربطها علاقات قوية مع الولايات المتحدة وحُلفائها، وأيضًا استثماراتها المتعلِّقة بالمجال التكنولوجي ودوره في اختراق الأمن القومي لدول الآسيان. وكذلك، فإنَّ بعض الدول العربية والخليجية تريد الحفاظ على بقاء الحضور العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط؛ لحفظ التوازن الأمني والمشاركة في الترتيبات الأمنية، والتي عادةً ما تسعى بعض القُوى الإقليمية ذات النزعة الجيوسياسية للمساس بها.

خامسًا: مستقبل واتجاهات التعاون الثلاثي المشترك

على ضوء المعطيات السابقة، يمكن القول إنَّ هذه القمَّة تُسطِّر فصلًا جديدًا في مستويات التعاون في العلاقات الدولية؛ لأنَّه من المُتعارَف عليه أن تتكتَّل مجموعة من الدول ضمن إطار إقليمي معيَّن، وحدوث ذلك ليس بالأمر الهيِّن نتيجةَ التباينات بين الدول، لكن الجديد الذي أرستهُ هذه القمَّة أن تتكتَّل تجمُّعات وروابط إقليمية مع دول في صيغة تعاونية ثلاثية جديدة، من شأنها:

1. تعزيز ثِقَل وتأثير «الجنوب العالمي» وصوت الدول النامية في القضايا الدولية، حيث يتوسَّع فضاء مجموعة «بريكس»، وينمو نفوذ وثِقَل وتأثير منظَّمة شانغهاي للتعاون، وتتقارب الدول الخليجية مع الآسيان بنشاط وفاعلية؛ ما يعزِّز بدوره تدشين نموذج عالمي يُحتذَى به لتعاون «الجنوب العالمي».

2. تنامي «فُرَص التعاون» على «فُرَص الصراع» بين الأطراف الثلاثة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية؛ ما من شأنه تعزيز فُرَص الاستثمار في صناعة وبناء السلام في الأقاليم الفرعية للقارة الآسيوية باتجاه بقية الأقاليم الجغرافية في مختلف أنحاء العالم.

3. بروز مفاهيم «الحلول الآسيوية» وروّاد التعاون وصُنّاع السلام مقابل «الحلول الغربية» وداعمي الصراعات وتُجّار الحروب تجاه الأزمات، وإعادة تعريف لنموذج التعاون العالمي من جانب القُوى الآسيوية، حيث ظلَّ النموذج الغربي للتعاون لعقود يفرضُ نفسه على العالم. لكن اليوم من مضيق هرمز إلى مضيق ملقا، ومن الصناديق السيادية في الخليج العربي إلى المناطق الصناعية في جنوب شرق آسيا، إلى السلاسل الصناعية الضخمة في المناطق الصناعية الصينية، يُولَد نوعٌ جديد من التعاون يقوم على مفاهيم التكامل والتوافق والمنفعة المُتبادَلة والنمو المُستنِد إلى المزايا التكميلية، كمفاهيم رئيسية لثقافة إرساء التعدُّدية.

4. فتْحُ آفاق واعدة لصياغة توافُق آسيوي-آسيوي ذو تأثير عالمي في قضايا تخُصّ الأقاليم الفرعية في آسيا، مثل الصراعات في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، وشرق آسيا والمحيط الهندي.

ويرتبط مستقبل ذلك النوع من التعاون بمتغيِّرات داخلية تتعلَّق بطبيعة ومستوى العلاقات التعاونية بين دول الأطراف المشاركة، مقارنةً بمستويات النزاعات البينية القائمة، وأخرى خارجية تتعلَّق بمدى تأثير العوامل الدولية على السياسات الخارجية للأطراف المشاركة. لذلك، يُتوقَّع أن تلجأ الأطراف المشاركة، وتحديدًا دول الخليج ودول الآسيان، إلى «نهْج التوازن البراجماتي» تجاه بعضها البعض وتجاه الولايات المتحدة والصين في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، حيث تتوسَّع بكين في علاقاتها الاقتصادية والسياسية بشكل ٍكبير مع الآسيان، في حين أنَّ هناك خلافات بين الصين والآسيان حول توسُّعات الصين العسكرية في بحر الصين الجنوبي، ورُبَّما تنظُر الآسيان لدول الخليج من منظور التنُّوع الاستراتيجي؛ بهدف بناء شراكات استراتيجية مع دولٍ تتمتَّع بنفوذٍ كبير في سوق الطاقة العالمي.

ويُتوقَّع أن تلعبَ الصين دورًا في تعزيز التعاون بين رابطتي الخليج والآسيان، ضمن الصيغة التعاونية الجديدة -ما لم تتهدَّد مصالحها إذا ما لجأت الرابطتان إلى تعزيز التعاون على حساب المصالح الصينية- لا سيّما في ظل النفوذ الاقتصادي الهائل للصين في الآسيان، وعلاقتها القوية مع دول الخليج، وعدم فاعلية الاستراتيجية الأمريكية لتطويقها في الإندوباسفيك مع انشغال الولايات المتحدة بالحرب الروسية-الأوكرانية والحرب الإسرائيلية في غزة، بالإضافة إلى اهتزاز ثقة الآسيان إزاءَ توفير الولايات المتحدة الحماية للحُلفاء، خاصَّةً بعد مشهد انسحابها الفوضوي من أفغانستان، وعدم ردْع التوسُّع العسكري الصيني في بحر الصين الجنوبي بشكلٍ مُرضٍ لهذه الدول؛ بل والردود الصينية القوية على الطموحات الانفصالية لجزيرة تايوان المدعومة من الولايات المتحدة.


*  10 دول : ماليزيا، سنغافورة، إندونيسيا، تايلاند، الفلبين، فيتنام، لاوس، كمبوديا، ميانمار، بروناي.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير