بعث رئيس الحوزات العلمية في إيران آية الله الأعرافي، رسالةً إلى شيخ الجامع الأزهر، ووفقًا لوسائل إعلامٍ إيرانية فإنّ الرسالةَ جاءت بمناسبة الأوضاع الراهنة، والعصيبة التي تمُرّ بالعالم الإسلامي، وهي تفشِّي فيروس «كورونا» المستجد.
بدأت الرسالةُ مستفيضةً في الحديث عن «كورونا»، وصدَّرها الأعرافي بقوله: «إنّ ظاهرة تفشِّي فايروس كورونا أدَّت إلى متاعب كثيرة في شتّى البلدان، وأصبحت مصدرًا لحزن الشخصيات الدينية في العالم، لا سيما علماءُ الأمة الإسلامية .إنّ الحوزات العلمية وكبار العلماء بمدينة قُم وإيران، وتأسِّيًا بإرشادات قائد الثورة الإسلامية، وكذلك سائر المراجع العِظام، مع تقديم خالص المواساة للعوائل المتضرِّرة وذوي الضحايا والمصابين بهذا الفيروس من كافّة أتباع الأديان، لا سيما أتباعَ المذاهب الإسلامية، يسألون الله سبحانه وتعالى الرحمةَ والمغفرةَ للمُتوَفِّين والشفاء العاجل للمصابين، ويؤكِّدون على لزوم التنسيق مع الجهات الطبِّية المتخصِّصة، واتّباع إرشادات المتخصِّصين وتطبيقها، حيث أنّهم أصبحوا من الأوائل الذين يطبِّقونها».
أولًا: قراءةٌ في أهداف الرسالة
بدت الرسالةُ وكأنّها رسالةٌ من مؤسَّسةٍ لجمهورها، وليست من رجل دينٍ إلى مؤسَّسةٍ موازية؛ ويبدو أنّها رسالةٌ تتضمّن داخليًّا عدّة رسائل هدفها التطمين، ولمُّ شمل القواعد، وتمتين علاقة الجمهور بمرجعيته.
والملاحظ أنّ كلمةَ «الأزهر» لم ترِد في ثنايا الرسالة نهائيًّا، إلّا في بدايتها مرَّةً واحدة، وتحديدًا في أوّل كلمةٍ منها؛ حينما قال الأعرافي مخاطبًا شيخ الأزهر: «فضيلة الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر..».
ثمّ تطرَّقت الرسالةُ مباشرةً إلى تعامُل السلطات الإيرانية مع جائحة «كورونا»، وركَّزت على حكمة المرشد الأعلى في سياسته، ونحو ذلك ممّا هو داخليٌ إيرانيٌ صرف، لا علاقة له بمسألة الوحدة أو التقريب؛ ما يضع علامات استفهام ٍكبرى حول فلسفة الرسالة ومقصدها.
بعد ذلك، تناولت الرسالةُ هدف الحوزات في مواجهة الفيروس: «إنّ من دواعي فخر الحوزات العلمیة الشيعية في العالم، هذا الواجب؛ حيث تُعلن الحوزات العلمية عن استعدادها واستعداد المؤسَّساتِ التابعة، لها من أجل تقديم الخدمات الممكنةِ لمكافحة فيروس الكورونا».
والحقيقةُ أنّ الاستعداد لمواجهة الفيروس إنّما هو استعدادٌ طبِّيٌ في القطاعات الصحِّية في الأساس، ومن ثمَّ فإنَّ حديث الحوزة عن الاستعدادات يُعَدُّ نوعًا من التضخيم خارج نطاق المهام الأصلية لها، المتعلِّقة بالدرجة الأولى بالدرس الفقهي والشرعي، ويبدو أنّ هذه العبارة كانت مقدِّمةً لعدم تعطيل الدروس العلمية في الحوزة، فكأنّها رسالةٌ إلى عموم طلاّب الحوزة، بعدم تعطيل الأنشطة: «إنّ الحوزات العلمية مصرَّةٌ على عدم توقُّف نشاطاتها العلمية والتبليغية والثقافية والتربوية بسبب هذه الأزمات، وتحاول تبديل التهديد إلى فرصة».
وكما أنّ الدولة الإيرانية بادئ الأمر تأخَّرت كثيرًا في غلق المراقد والعتبات، وكذلك في الحجر الصحِّي على قُم، فإنّ السماح باستمرار الأنشطة العلمية يُعَدُّ تأخُّرًا أيضًا في هذا السياق؛ لكن المعادلة الصعبة هُنا أنّ غلق العتبات والمراقد، وتعطيل الدروس العلمية، هو بمثابة استلابٍ لمهمَّة رجال الدين في قُم، بل وفي عموم إيران، وهذا له تبعاته التي لا يُمكن للدولة تجاوزها في ظلِّ تعزيز شرعيتها المذهبية بالعتبات ورجال الدين. فربّما يرى رجالُ الدين أنّ مثل هذا مؤثِّرٌ في الشرعية والمشروعية، التي ابتُنيت في عناصرها على المذهبية وطقوسها وشعائرها.
ثم تتوجَّه الرسالةُ إلى تطمين الناس باعتبار الوباء من الابتلاءات والمِـحن، التي تعقبها منحٌ إلهية: «من مُنطلق المنطق الإسلامي؛ فإنّ الحوادث الطبيعية ظواهر تحمل الحكمة في طيّاتها، وهي تمثِّل ابتلاءاتٍ للبشر من أجل امتحانهم، وتمهد الطريق لتطورهم، كما أنّها تحذيرٌ للإنسان من أجل إيقاظه ووعيه بالنسبة للميعاد، وفي نفس الوقت هي عاملٌ للسير به نحو التطوُّر العلمي للمجتمع البشري».
هذه عباراتٌ أشبه بالعبارات الوعظية الموجَّهة إلى عموم طلاب الحوزة، والداخل الشيعي، أكثر من كونها موجَّهةً إلى الخارج، فضلًا عن مؤسّسةٍ دينيةٍ أخرى.
ويؤكِّد ذلك -توجُّه الرسالة إلى الداخل الحوزِي- ما تضمَّنته من مفرداتٍ متعلِّقةٍ بمواجهة الاستكبار العالمي: «ومن الواضح أنّه يجب عدم الغفلة عن خطر الاستكبار العالمي والطواغيت والشياطين وأعداء الإنسانية، الذين يتربَّصون السوء بالشعوب المستقلَّة، وهؤلاء الطواغيت هم أحد عوامل الكثير من المصائب والفساد في الأرض».
وهي عبارةٌ تؤكِّد مؤشر الرسالة وقِبْلتها نحو الداخل، وهي عباراتٌ دارجةٌ في الصحافة الإيرانية اليومية، وفي مقولات المسؤولين الإيرانيين السياسيين والدينيين، بُغية حشد الرأي العام، وتمتين الكتلة الصلبة الولائية الثورية.
يبدو أنّ الرسالة كانت إعلاميةً فقط، أي عبر الإعلام فحسب، وكان الهدف الرئيسي منها مخاطبةَ الداخل الحوزِي والشعبي، أكثر منها برقيةً حقيقيةً بالبريد أو التسليم بواسطة مسؤولٍ ديني أو دبلوماسي، وكذلك لإضفاء نوعٍ من التضخيم حول مكانة قُم في العالم الإسلامي، بمخاطبة إحدى أكبر المؤسَّسات الدينية في العالم، والقصدُ من وراء ذلك شعبوي داخلي حوزِي.
وبعد، فإنَّ ثمَّة سؤالٌ يطرح نفسه، حول حقيقة الرسالة؛ فهل كان ثمَّة رسالة حقًّا؟ الواقع أنّ تلك الرسالة لم يُعلن عنها سوى من الإعلام الإيراني فحسب، لكن المنافذ الإعلامية الرسمية للأزهر لم تُعلن عن تلك الرسالة، أو حتّى المنافذ غير الرسمية القريبة من المؤسَّسة الأزهرية.
هذا ليس بجديدٍ على الجانب الإيراني، فقد زعم المجمع العالمي للتقريب من قبل إرسالَ شيخ الأزهر رسالة شكرٍ ردًّا على برقية عزاءٍ من المجمع للأزهر في وفاة الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية، وقد نفى المركز الإعلامي للأزهر إرسال هذه الرسالة جملةً وتفصيلًا. وربما يُعزِّز هذه القراءة، أنّ الأعرافي نفسه أعلن عن إرساله رسالةً شبيهةً بتلك الرسالة إلى بابا الفاتيكان، تضمَّنت نفس المفردات، بل ونفس الجمل والعبارات (وكالة أنباء الحوزة). علاوةً على أنّ الأعرافي ليس مسؤولًا دينيًّا كبيرًا في الدولة الإيرانية؛ كي يراسل رؤوس المؤسَّسات الدينية الكبرى في العالم.
لكن هُنا لمحةٌ حول حقيقة تلك الرسالة، فمفرداتها الكُلِّية التي تتكلَّم عن الشأن الإيراني، وحكمة المرشد «الأعلى»، ونحو ذلك، تومئُ بصورةٍ ما، إلى مركزية إيران، والهيمنة المتخيَّلة في عقل النخبة الدينية، لما يمكن تسميته بنموذج «الإسلام الإيراني»، وكذلك إلى مركزية المرشد الأعلى باعتباره ولي أمر الإسلام والمسلمين، كما يُطلِق على نفسه؛ وهذا حسب محسن كديور، يُؤدِّي إلى: «الشمولية الشرعية لأوامر هذا النوع من الحكومة لجميع المسلمين في العالم».
لذا جاء خطاب قُم إلى شيخ الأزهر في هذا النطاق، وتحت تلك الفلسفة الولائية، ومن ثمَّ كان مُرسِل الرسالة أحد مشايخ الحوزة ومراجعها شبه الإداريين، وليس مرجعًا من مراجع التقليد الكبار في الخطّ الولائي، فضلًا عن المرشد نفسه.
وهذا يؤكِّد منحى آخر، وهو أنّ عدم التفاتة الأزهر وردّه على الرسالة -على فرض إرسالها ووصولها فعلًا إلى الأزهر-، إنّما هو بسبب ما لحِظه الأزهر من هذا السياق الاستعلائي، ومن ثمَّ عدم جدِّية الرسالة، وهو ما يفهمه الأزهر جيِّدًا بعقله الجمعي، وذاكرته التراكمية، بناءً على التجارب التاريخية التي حاولت دومًا تسييس مسألة التقريب، والاستفادة الإيرانية منها، وتوظيفها لصالح المشروع.
في العموم، فإنّ هناك عوائق لا يمكن إغفالها في هذا السياق، تحولُ بين تطبيع علاقات الأزهر وقُم؛ بعضها ما له علاقة بالدين والمذهب، وبعضها شديد الصِلة بالسياسة!
ثانيًا: العوائق التأسيسية الأيديولوجية
تبدو مسألة العلاقة بين الأزهر والحوزة الإيرانية على وجه الخصوص، معقَّدةً ومتشابكة، ويتداخل فيها عددٌ من العوامل والمحدِّدات.
فالمناهج المعتمدة أزهريًّا في علم الكلام والعقيدة، هي مناهجٌ لعلماءٍ واجهوا أنماط التشيُّع السياسي تاريخيًّا، المتمثِّل في الدولتين البويهية والفاطمية، وكذلك القرامطة. خاصةً الثلاثي العُلمائي: الباقلاني، والجويني، والغزالي؛ فهؤلاء الثلاثة لهم موقفٌ مشهورٌ في علم الكلام الإسلامي من التشيُّع السياسي ومسألة الإمامة.
ويجعل البعض مصنَّفاتهم سببًا في القضاء الفكري والفلسفي على الدولة البويهية المترَّسة بعلم الكلام حينئذ، ولا تزال مصنَّفاتهم هي العُمُد التي يُبنى عليها الفكر الأزهري المعاصر.
وحتّى في المراحل المتأخِّرة بعد تأسيس الأزهر السنِّي، وسقوط الدولة الفاطمية، برز عددٌ من علماء الأزهر، كابن خلدون، وتلميذه ابن حجر، وتلميذه السيوطي، وهم ممن تحلَّق في الأزهر، كانوا أيضًا على منهج الجيل القديم في موقفهم من التشيُّع السياسي، سيما ذلك الذي تبلور في مرحلة الدولة الفاطمية، وعانى منه المصريون كثيرًا، والذي فنَّده السيوطي كثيرًا، في عدّة مواضع، مثل «تاريخ الخلفاء»، و «حسن المحاضرة»، وغيرها من مصنَّفاتٍ لا تزال تُدرَّس في الأزهر.
وفي العصر الحديث، كانت ثمَّة محاولات لمسألة تطبيع العلاقات بين الأزهر وقُم، لكن تلك المحاولات كانت أهليةً غير مؤسَّسيةٍ إلى حدٍّ بعيد، واعترتها كثيرٌ من المعوِّقات المذهبية والسياسية، بسبب ما سميناه بالعوائق الأيديولوجية.
وعلى الجانب القُمِّي تبدو صعوبة التكتُّل خلف رسالة التقريب والتطبيع، لأنّه لا يوجد مرجعٌ واحد يقود قُم، فثمَّة تشظٍّ مرجعي لا يُمكن تجاهُله، وثمَّة مدارس وتيّاراتٌ لا يمكن ضبطُها وحدُّها بالأسوار المنطقية، نظرًا لطبيعة الدرس الحوزِي، وعدم انتظامه مؤسَّسيًا حتّى اليوم، ومن ثمَّ فإنّ محاولات البعض على افتراض صدقيتها كانت تُواجَه بسهام المراجع الآخرين الرافضين لأصل الفكرة. بالإضافة إلى طبيعة المناهج الحوزِية، التي لا يزال جزءٌ كبيرٌ منها متأثِّرًا بنتاج العصر الصفوي في النظرة للآخر المذهبي والديني.
وبعد الثورة الإيرانية عام 1979م، هيمن الولائيون على الحوزة، واستدمجوها بالنظام؛ وبالتالي تمّ تأميم مسألة التقريب برمّتها لصالح النظام ومؤسَّساته، وهذا ما جعل راينر برونر يذهب إلى أنّ أمل التقريب بين المذهبين السنِّي والشيعي انتهى بسبب سياسة رجال الدين في إيران، فحسب قوله فإنّه: «في عام 1979م انتهى تاريخ ما يُمكن تسميته بحركة التقريب الإسلامي، الكلاسيكية؛ وصار الطموح المتطلِّع للتقريب مكوِّنًا مركزيًّا ومباشرًا للسياسة الخارجية، للدول المعنية».
وفي عهد شيخ الأزهر الراهن، الشيخ الطيب، فإنّ مستشاره الديني الدكتور حسن الشافعي، عبَّر في عهد حكم جماعة الإخوان -التي فتحت الباب لأوّل زيارةٍ لرئيسٍ إيرانيٍ إلى مصر منذ الثورة الإيرانية وكادت أن تطبع العلاقات المصرية الإيرانية-، عبَّر عن غضبه من التشيُّع السياسي، وما سمّاه بــــ التبشير المذهبي، الذي تقف خلفه إيران.
وفرَّق الشافعي بين المذهب الفقهي، وبين الممارسة الإيرانية، فقال: «الأخذ بالمذهب الجعفري والاستفادة من فكره وفقهه شيءٌ، والسماح لأصحاب هذه المذاهب بأن يشقُّوا نسيج المجتمع المصري شيءٌ آخر».
ثالثًا: العوائق السياسية.. تأميم العلاقات
تبدو العلاقة بين الطرفين معقَّدةً (مرحلة اللا علاقة)، ليس فقط من أجل الخلاف الأيديولوجي التاريخي، والآني، بل من أجل الخلافات والعوائق السياسية.
ويمكن حصر العوائق السياسية في عاملين:
1- ولاية الفقيه المطلقة وانعكاساتها السياسية: ففي مرحلة ولاية الفقيه المطلقة ارتأت الدولة الإيرانية أنّ ملفّ التقريب لا يُمكن تركه للجماعة العُلمائية، التي ربّما تحتوي على مناهضين للولي الفقيه، أو مخالفين لنموذج الدولة، ومن ثمَّ بدأت مرحلة توظيف ملفّات التقريب كسبيلٍ للهيمنة والانتشار الجيبولوتيكي في الإقليم، والعالم الإسلامي، وبات التقريب جزءًا من المشروع الإيراني في المنطقة، والذي يُتغلغل باسمه في مفاصل الدول الأخرى، ودعم الجماعات الأدنى في الدولة الوطنية، وأسسَّت ما يُسمَّى بـــــــ «المجمع العالمي للتقريب» للعمل من خلاله في هذه المسالك، وهو على ما يبدو تأميمٌ لمسألة التقريب، وإنهاءٌ لأيّ جهودٍ عُلمائية غير مؤسَّسية.
وقد التفت راينر برونر إلى لمحةٍ دقيقة بخصوص تاريخ محاولات التقريب المؤسَّسي، إذ إنّ محاولات التطبيع التي زادت في عهد عبد الناصر، والتي سمّاها بمرحلة التوافق (1958- 1959م)، انتهت بسبب تغير أولويات السياسة الخارجية المصرية حينئذ. فقد حاول ناصر توطيد علاقته مع بعض الزعامات الشيعية، مثل موسى الصدر الذي ربطته علاقة شخصية به حينئذ، في إطار مشروعه الذي سعى إليه في المنطقة، ثمّ جاءت فتوى الشيخ محمود شلتوت في هذا السياق، وسرعان ما تراجع عنها عمليًّا، لاحقًا.
2- العلاقات المصرية – الإيرانية: هناك خلافٌ مصري إيراني على المستوى السياسي والدبلوماسي، بدأ بتأجيجٍ إيراني ضد الدولة المصرية بسبب اتفاقية كامب ديفيد، ثمَّ انتهى بدعم طهران لجماعاتٍ راديكالية مصرية، أدَّت إلى مقتل الرئيس السادات، واستمرّ الدعم لتلك الجماعات طيلة عهد الرئيس مبارك، سيما حقبة التسعينات؛ ولا يزال الدعم والتحريض مستمرًّا، وقد كشفت تقارير حديثة أنّ ثمَّة لقاءات عُقدت بين قادةٍ في جماعة الإخوان وبين أطرافٍ إيرانية رفيعة المستوى تتبع الحرس الثوري، في تركيا؛ ما يعني أنّ الخط الإيراني الساعي لإحداث قلاقل في الدولة المصرية مستمرٌّ لم ينتهِ، ولم تحدث ثمَّة مراجعات حقيقية لهذا النهج المستمرّ منذ عام 1979م حتّى الآن.
ويقوم مكتب رعاية المصالح الإيرانية في مصر بنشاطٍ موسَّعٍ في الداخل المصري، ويستضيف رئيس المكتب بعض النُّخب المصرية، في محاولةٍ منه للتأثير عليها والتسويق للمشروع الإيراني في الداخل المصري، ويحاول تحييد آخرين، بأن يكفُّوا عن عداوتهم مع إيران؛ فعندما نشرت مجلة الأزهر كتابًا يُحذِّر من التشيُّع وممارسات التبشير الإيرانية، ذهب مجتبى أماني رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية حينئذ، بنفسه إلى رئيس تحرير مجلة الأزهر في بيته، وعاتبه على إصدار هذا الكتاب. وبسبب هذا النهج لرئاسة مكتب رعاية المصالح، استُدعِي رئيس المكتب من الخارجية المصرية، لمطالبته بضرورة الالتزام بقواعد العمل الدبلوماسي.
خلاصة
لا يبدو أنّ هناك رسائل متبادلة بين قُم والأزهر، وإنّما المرجَّح أنّها رسالةٌ إعلاميةٌ من جانب قُم، هُدِف من ورائها إيصالَ عدَّة رسائل للداخل الحوزي والإيراني، وعلى فرض أنّها رسالة واقعية وصلت إلى الأزهر، فإنّ لتجاهُل الأزهر لها دلالاته أيضًا؛ ولا يخفى – تَنزُّلاً – أن تبادل الرسائل على المستوى الدبلوماسي، لا يعني متانة العلاقة، أو تعزيزها، في كثيرٍ من الأحيان.
ونخلُصُ من هذا التقرير إلى أنَّ إقدام المؤسَّسة الدينية المصرية على تطبيع أي علاقةٍ دينيةٍ أو مذهبيةٍ مع الإيرانيين، بعيدٌ عن الواقع؛ لأسبابٍ سياسيةٍ وأيديولوجية.
ولا يُتوقَّع مستقبلًا حصولُ مثل هذا التطبيع، لأنّ أيّ تطبيعٍ على هذا المستوى، لا يُمكن حدوثُه قبل حصول تفاهماتٍ سياسيةٍ عميقة، وهو بعيدٌ في المرحلة الراهنة، لأسبابٍ متعلِّقةٍ هذه المرة بصميم إرادة الدولة المصرية ورؤيتها للسلوك الإيراني وسياسته التدميرية في الإقليم، وليست متعلِّقةً بالقرار الإيراني على غِرار ما حدث بعد كامب ديفيد. أيضًا فإنّ الأزهر كمؤسَّسةٍ دينية تحاول أن تَبرُز كمؤسَّسةٍ سنِّيةٍ عالمية، ومن ثمَّ فإنّ محاولات استقطاب الأزهر من الإيرانيين تضرب فاعليته في العالم الإسلامي؛ لأنّ مثل هذا الاستقطاب كفيلٌ بنقل الأزهر من مربع الانفتاح على جميع المسلمين، إلى مربعاتٍ أخرى طائفية وتدميرية، لا يرضاها الأزهر، ويُدرك مخاطرها؛ علاوةً على أنّ أي قرارٍ للتطبيع أو تعزيز العلاقات المشتركة، سيضعُ في الحسبان الممارسات الإيرانية في الإقليم في دولٍ مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن، وقد ندَّد الأزهر بالفعل في بياناتٍ رسمية بالسلوك الميليشياتي الإيراني في العراق، وسيضعُ في الاعتبار الضغوطات القصوى التي ربّما تتعرضُ لها المؤسَّسة، ومكانتها في العقل الجمعي في عمومِ العالم الإسلامي.