رافــق قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تغريدة بثها عبر حسابه على «تويتر» الثلاثاء (18 ديسمبر 2018) بالانسحاب العسكري الكامل للجنود الأمريكيين من سوريا، والبالغ عددهم 2000 جندي خلال فترة تتراوح ما بين 60-90 يومًا بعد نجاح بلاده-على حد قوله-في هزيمة تنظيم «داعش» الإرهابي، حالة من الجدل ليست داخل أروقة الحكم في الولايات المتحدة أو على المستويين الإقليمي والدولي وحسب، بل في الدوائر الضيقة داخل إدارته، حول جدوى القرار وانعكاساته على الإستراتيجية الأمريكية لتكثيف الضغوط القصوى على إيران، التي يتمثل أحد أهم أهدافها في مواجهة خطط التموضع الإيراني في المنطقة ولا سيما في سوريا.
ويتساءل المتابعون للسياسات الأمريكية لتعديل سلوك النظام الإيراني عن آثار القرار على دور إيران في سوريا، في الوقت الذي تكثف فيه إدارة ترامب ضغوطها القصوى لمحاصرة إيران، وتحجيم نفوذها الإقليمي، ووقف برامج الصواريخ الباليستية، وحرمانها من إعادة تخصيب اليورانيوم بعد عام 2025 عبر حزمة من العقوبات الاقتصادية على مرحلتين: الأولى بدأت في السادس من أغسطس 2018، والثانية في الرابع من نوفمبر 2018.
كما يردد مراقبون أن «الانسحابات العسكرية المتسرعة» من الدول المنهارة قبل تعافيها تترك «مساحات فراغ» تتصارع عليها القوى صاحبة المصالح لاستغلالها ومد نطاق نفوذها ممَّا يخلف حالة من الصراعات الخارجية والصراعات الداخلية فضلًا عن تحولها إلى ملاذ آمن للجماعات الإرهابية، وليس قرار الانسحاب الأمريكي من العراق 2011 الذي هاجمته إدارة ترامب أثناء حملتها الانتخابية ببعيد، إذ ترك القرار فراغًا استغلته إيران المتوغلة في العراق منذ سقوط نظام صدام حسين بمد نطاق نفوذها إلى ربوع الدولة العراقية عبر ميليشياتها المسلحة، وشد الأطراف الموالية مذهبيًا ودفعها نحو مراكز صنع القرار، ودفع الميليشيات بالتمترس في المحافظات الجنوبية الغنية بالنِّفط، واستغلال المناطق المحررة من تنظيم «داعش» في زرع أبناء المكون الشيعي لتغيير التركيبة الديمغرافية العراقية.
تكرار «سيناريو العراق»
ويتساءل المحللون حول إمكانه تكرار سيناريو الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق 2011، من حيث إطلاق يد الإيرانيين في سوريا بعد إخلاء القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في الشمال والجنوب السوري المحددة باللون الأزرق في الخريطة، واستغلال الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة بما يمكنها من تحقيق المكاسب التالية:
أولًا: سهولة تنفيذ مخططات التموضع الإيراني في سوريا وتوسيع نطاق النفوذ والسيطرة على إدارة مفاصل الدولة ومؤسساتها وصنع قرارها بل وتشكيل المؤسسة العسكرية من مقاتليها الذين جلبتهم من الدول غير المستقرة، خاصة في الوقت الذي تدخل فيه سوريا مرحلة جديدة بإقبال بعض الدول على ترميم سفاراتها تمهيدًا لعودة علاقاتها الدبلوماسية مع نظام بشار الأسد، إضافة إلى زيارة الرئيس السوداني عمر البشير للأسد الثلاثاء (18 ديسمبر 2018) بعد ثماني سنوات من المقاطعة العربية.
ثانيًا: فتح الباب على مصراعيه أمام عمليات تهريب ونقل الأسلحة إلى «حزب الله» اللبناني نتيجة سيطرة ميليشياته على الحدود العراقية-السورية، وقرب رحيل القوات الأمريكية من قاعدة «التنف» على الحدود العراقية-السورية، وهو ما يزيد من قدرات الحزب العسكرية وأوضاعه في المعادلة اللبنانية ممَّا يتيح له استمرارية حمل السلاح وإرساله المقاتلين إلى سوريا متجاوزًا الدولة اللبنانية، إضافة إلى استمرارية تعطيله تشكيل الحكومة الجديدة منذ تسمية رئيسها بعد نتائج الانتخابات البرلمانية مايو 2018، فضلًا عن إمكانية الدخول في صراع مع إسرائيل يزج بالمنطقة المضطربة في آتون حرب شاملة.
ثالثًا: إمكانية قيام إيران وميليشياتها المسلحة في العراق وسوريا ولبنان، بتنفيذ «الكوريدور» الإيراني فعليًا، وهو الممر الأرضي الذي يربط طهران بالبحر بالمتوسط عبر العراق وسوريا، خاصة مع انسحاب القوات الأمريكية من الشمال والجنوب السوري، وتحقيق إيران مكاسب سياسية وعسكرية في العراق، وتوسيع نطاق النفوذ في سوريا منذ سقوط حلب مطلع 2017 وغيرها من المدن والمحافظات المحررة من المعارضة السورية والتنظيمات الإرهابية.
رابعًا: يرتبط باحتمالية فتح ذلك القرار المجال لتنامي النفوذ الروسي والإيراني بدلًا من تحجيمه من خلال الأذرع الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان، ممَّا يمكنها مستقبلًا من تعظيم معدل قوتها ومكانتها الإقليمية بل وقدرتها على مجابهة بعض السياسات والعقوبات الأمريكية على أقل تقدير، تلك العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على إيران بغية محاصرتها ولجمها إقليميًا، فضلًا عن صعود دور المحافظين من المتشددين في الداخل الإيراني وعودة الخطاب السياسي التعبوي من جديد في إيران.
ويجادل متابعون للشأن الأمريكي أن هواجس بعض الجمهوريين من الدوائر المقربة من الرئيس ترامب كوزير دفاعه جيمس ماتيس أو من داخل أروقة مجلس الشيوخ كعضو لجنة القوات المسلحة السيناتور ليندسي غراهام ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس بوب كوركر، وكذلك السيناتور ماركو روبيو، مما ستجنيه الولايات المتحدة من الانسحاب من سوريا على غرار ما جنته بعد الانسحاب من العراق، كل ذلك دفعهم نحو تقديم الاعتراضات على القرار واصفين إياه بـ«الانسحاب المتسرع»، التي وصلت إلى حد تقديم ماتيس استقالته الخميس (20 ديسمبر 2018) في رسالة لترامب قال فيها «نظرتي إلى العالم تميل إلى التحالفات التقليدية والتصدي لـ«الجهات الخبيثة» تتعارض مع وجهات نظر الرئيس»، مضيفًا «لأنه من حقك أن يكون لديك وزير دفاع تتوافق وجهات نظره بشكل أفضل مع وجهات نظرك حول هذه القضايا، أعتقد أنه من الصواب بالنسبة لي أن أتنحى عن منصبي».
كما أكد مسؤولون في الإدارة الأمريكية أن المبعوث الأمريكي للتحالف الدولي لمحاربة «داعش» بريت ماكغورك قدم استقالته السبت (22 ديسمبر 2018) لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو اعتراضًا على قرارات الانسحابات العسكرية من سوريا وأفغانستان-حسب متابعين، وهذا يعكس عدم التنسيق داخل إدارة ترامب.
ويرى مقربون من ترامب أن الأهداف من الانتشار العسكري الأمريكي في سوريا منذ العام 2015 لم تتحقق، فلا القضاء على تنظيم «داعش» تحقق بشكل تام، حيث تنتشر الجيوب الإرهابية في بعض المحافظات السورية، ولا الميليشيات الإيرانية خرجت من سوريا، ولا التسوية السياسية وبناء المؤسسات والدستور تمت هناك، حتى يمكن القول إنّ هناك دولة سورية مستقرة تستطيع فرض الأمن والنظام واستلام المناطق المحررة من «داعش»، ويقول ماكغورك «لا أحد يقول إن مسلحي التنظيم سيختفون، وليس هناك أحد بهذه السذاجة؛ ولذلك نريد البقاء على الأرض حتى نضمن استمرار الاستقرار في تلك المناطق»، ولم تتوقف الاعتراضات على قرار الانسحاب من سوريا على الداخل الأمريكي، ووصفت الفصائل الكردية الحليفة للولايات المتحدة في سوريا قرار الانسحاب بـ«الطعنة في الظهر» بعد انتصاراتهم على «داعش» في العديد من المناطق السورية الشمالية.
إسرائيل تدخل على الخط
هاجمت إسرائيل القرار الأمريكي، ففي تغريدة له على حسابه الشخصي في «تويتر» الأربعاء (19 ديسمبر 2018) قال رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو «هذا بطبيعة الحال قرار أمريكي»، وتابع: «سنعمل على صون أمن إسرائيل، وسندافع عن أنفسنا في هذه الساحة»، مستطردًا: «تحدثت مع الرئيس ترامب وبومبيو، وأوضحوا لي أنه توجد سبل أخرى للتعبير ميدانيا عن تأثيرهم»، ويوم الخميس (20 ديسمبر 2018)، صرح نتانياهو أن بلاده ستصعد معركتها وتكثف ضرباتها ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا، مشيرًا إلى حملة جوية إسرائيلية في سوريا ضد عمليات الانتشار الإيرانية ونقل الأسلحة لـ «حزب الله».
وذكر موقع «ديبكا» الإسرائيلي أن القرار الأمريكي الذي يشكل انتصارًا عسكريًا لإيران بما يمكنها من تموضع مخططاتها لإقامة جسر بري يربطها بالمتوسط، سيترتب عليه تداعيات خطيرة على الحدود الشمالية لإسرائيل، إذ ستصبح إسرائيل في مواجهة عسكرية مباشرة مع «حزب الله» اللبناني في سوريا والميليشيات الإيرانية، بينما أشارت صحيفة «يديعوت أحرونوت» قائلة: «عندما يكتمل الانسحاب الأمريكي من سوريا سنرى قاسم سليماني قائد فيلق القدس وهو يفرك يديه فرحًا، وسيبلغ قائده الأعلى علي خامنئي بأنه تمت إزالة عقبة أخرى أمام إيران لتعزيز تواجدها في سوريا، وتم فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل». في المقابل، بارك الروس والأتراك القرار الأمريكي مؤكدين على أنه سيعزز من فرص التسوية السياسية في سوريا، بينما أعلنت كل من فرنسا وبريطانيا رغبتهما بالحفاظ على وجودهما العسكري ضمن التحالف الدولي لمحاربة «داعش» في سوريا.
لكن التساؤل المطروح: كيف تستفيد إيران من القرار الأمريكي؟ إنّ روسيا وإيران طرفان رابحين-حسب مراقبين-من القرار الأمريكي، فعودتنا إيران منذ دخول أمريكا إلى العراق 2003 و الانسحاب لاحقًا في 2011 على «سياسة ملء الفراغ» وعدم ترك الساحات فارغة؛ لذا ستعمل على توسيع نطاق نفوذها في سوريا وملء الفراغ وتحقيق مكتسباتها داخل المعادلة السورية الجديدة من خلال زاوية إعادة بناء المؤسسات الأمنية، وقد يعتمد الروس على الميليشيات الإيرانية في إعادة بنائها، وهذا يمكّن إيران من التحكم في مفاصل المؤسسات العسكرية السورية في سوريا الجديدة، أو من خلال زاوية إدارة الحكومة السورية للمناطق التي تركتها القوات الأمريكية، إذ سيعتمد النظام السوري بشكل رئيس على المقاتلين الإيرانيين في تأمين وإدارة تلك المناطق التي تركتها القوات الأمريكية سواء في الشمال أو الجنوب السوري، وكل ذلك يصب في صالح تعزيز النفوذ الإيراني في سوريا، وإذا كان القرار يصب في صالح ترسيخ النفوذ الإيراني الذي تسعى إدارة ترامب لتقليصه، فما الذي دفع ترامب لاتخاذ هذا القرار؟ فهل يعكس استعدادات أمريكية-إسرائيلية لضرب مقرات الميليشيات الإيرانية في سوريا؟ ولكن في المقابل هل واشنطن وتل أبيب مستعدتان لسيناريو الحرب الشاملة التي تواجه خلالها إسرائيل حربًا متعدد الجبهات لا تحبذها؟ أم أن هذا القرار يعود إلى تفاهمات أمريكية-تركية كما يقول مراقبون في ظل مطالبات أنقرة من ترامب الضغط على الفصائل الكردية للانسحاب إلى شرق الفرات، وتقديم تركيا تنازلات بتوقيعها صفقة باتريوت المتطورة مع واشنطن بمبلغ 3.5 مليار دولار مقابل تراجعها عن شراء منظومة S-400 الروسية؟
أم أنه قرار يتطابق وشعار ترامب «أمريكا أولاً» الذي يعلي من مسألة الانسحاب العسكري من الدول غير المستقرة وغير الحليفة، على أن تتحمل-حسب رؤية ترامب-مسؤوليتها في إعادة بناء مؤسساتها، خاصة في ظل التكاليف الباهظة التي تكبدتها واشنطن من انتشارها العسكري في العراق وأفغانستان لأكثر من عقد ونصف من الزمان؟ أم يتعلق برغبة ترامب في تنفيذ وعوده الانتخابية وإرضاء قاعدته الانتخابية من الطبقات البيضاء بولايات الوسط التي لا ترى مصلحة من وراء الانتشار العسكري بالشرق الأوسط، وذلك للفوز بولاية أمريكية ثانية في انتخابات 2020. وهل هناك علاقة بين القرار الأمريكي وقرب إطلاق تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي «MESA» للتصدي للخطر الإيراني في المنطقة العربية، والمزمع إطلاقه في قمة عربية-أمريكية تستضيفها الولايات المتحدة في يناير 2019، بوصفها ورقة ضغط قوية على الدول العربية لإتمامه من ناحية، أو لتحمل تلك الدول مسؤوليتها في الدفاع عن أمنها واستقرارها من ناحية أخرى؟
ونختم بأن هناك اعتبارات عديدة تكمن خلف القرار الأمريكي الذي حتمًا سيشكل فرصة كبيرة لإيران ويلعب دورًا جيوسياسيًا ليس فقط في رسم مستقبل سوريا وإنما في مستقبل المنطقة برمتها، وقيادتها نحو مستقبل أكثر قتامة، لما له من آثارٍ سلبية على معدل الصراع في الإقليم المضطرب بين قواه المتصارعة والمتدافعة لتحقيق مصالحها وأهدافها نحو خلق مناطق نفوذ جديدة وامتلاك أوراق ضغط مما يجعلها رقمًا مؤثرًا في القضايا الإقليمية وترتيب الخريطة السياسية للمنطقة وشؤونها بالكامل لصالح طموحاتها ومخططاتها.