استحوذَ الاتفاق السعودي-الإيراني، الذي تمَّ توقيعه في 10 مارس 2023م، على اهتمامٍ كبير على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وجرى الترويج له إقليميًا ودوليًا على نطاق واسع، أولًا: لأَّنه يضع حدًّا لمواجهة بين أكبر قوَّتين في منطقة الخليج. وثانيًا: لأنَّه قد يمهِّد الطريق نحو تهدئة الصراعات والتوتُّرات، التي سادت المنطقة، ويفتح أُفُقًا أوسع للانخراط والتفاهم بين دول المنطقة وداخلها، بعد عقد من الاضطرابات والصراعات. وثالثًا: لأهمِّية الوساطة، التي تمّت قراءتها في إطار منافسة دولية أوسع بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ العالمي، وفي الشرق الأوسط تحديدًا.
لكن بجانب هذه الأهمِّية، التي حظِيَ بها الاتفاق إقليميًا ودوليًا، فإنَّ الاتفاق كان له صدى واسعًا داخل المملكة العربية السعودية وإيران. في إيران تحديدًا، حاولَ النظام الإيراني أن يسوِّق الاتفاق شعبيًا، باعتباره انتصارًا مهمًّا، وأنَّه سيكون له مردودٌ على الواقع الداخلي، وسيفتح أُفُقًا لمعالجة المشكلات والأزمات. يحاول هذا التقرير أن يرصد كيفية ترويج حكومة رئيسي للاتفاق في الداخل، وما حدود واقعية الخطاب، الذي تمَّ الترويج له.
أولًا: تسويق الاتفاق في الداخل
بدايةً، اعتبرَ النظام الإيراني الاتفاقَ مع المملكة العربية السعودية بمثابة انتصار واختراق بالغ الأهِّمية، بل زلزالًا سياسيًا، بحسب ما وصفه مستشار المرشد علي خامنئي والقائد الأسبق للحرس الثوري يحيى رحيم صفوي. وقد كان واضحًا أنَّ النظام بعدما كان ينتهج سياسةً متشدِّدة تجاه المملكة، وبعدما كانت توجُّهاته مؤثِّرة على المستوى الشعبي، فإنَّه ربما أراد عكس هذه السياسة، والاستفادة من الاتفاق؛ لتحسين صورته، والتمهيد لعملية التحوُّل التي ستُصاحبه، لهذا فقد روَّج للاتفاق، على أنَّه:
1. انتصار لـ«المتشدِّدين» في مواجهة «الإصلاحيين»: احتفت الحكومة الإيرانية بالاتفاق مع السعودية، وروَّج الجناح «المتشدِّد» للاتفاق، على أنَّه انتصار مهم، واختراق دبلوماسي كبير، وتقول عناصر مقرَّبة إنَّ المرشد قد باركه. ويقال إنَّ رسالته إلى الرئيس الصيني، التي حملها الرئيس إبراهيم رئيسي خلال زيارته لبكين قبيل الاتفاق، كانت مهمَّةً في التوصُّل إلى الاتفاق. وقد انعكس ذلك في التناول الإيجابي للاتفاق من جانب وسائل الإعلام المحسوبة على السلطة، بما فيها الإعلام المحسوب على الحرس الثوري الأكثر تشدُّدًا، فبعدما كانت هذه الوسائل حتى وقت قريب تُعبِّر عن مواقف سلبية، فقد تراجعت عن نهجها السابق، وروَّجت للاتفاق على أنَّه إنجاز، وأنَّه درسٌ لـ«الإصلاحيين» في فنون التفاوض، وهو الميدان الذي طالما ادّعى «الإصلاحيون» بأنَّ لهم السبق فيه.
2. نجاح لتوجُّهات حكومة رئيسي على الصعيد الخارجي: اعتبرت وزارة الخارجية الإيرانية في بيانها، في 11 مارس 2023م، أنَّ الاتفاق «خطوة أخرى لتنفيذ السياسة الخارجية المتوازنة والديناميكية والفعَّالة، ضمن مسار سياسة الجوار». وسياسة الجوار هي أحد محاور تحرُّكات حكومة رئيسي على الصعيد الخارجي، والتي كانت قد واجهت عراقيل عديدة في ظل العقوبات، فضلًا عن فقدان الثقة في إيران كشريك في ظل توجُّهاتها الإقليمية، التي كانت أكبر معرقل للتعاون مع دول جوارها، ورُبما يُعتَبر هذا الاتفاق مع السعودية أهم اختراق على هذا الصعيد. وجدير بالذكر أنَّ الحوار مع دول المنطقة، قد بدأ في ظل حكومة روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، حول «مبادرة أمن هرمز»، لكن لم تكُن الظروف مناسبةً في ذلك التوقيت لإنضاج تلك المبادرة.
3. رافعة لحل الأزمة الاقتصادية: لقد حاولت أجنحة السلطة وإعلامها، إظهارَ الاتفاق بين إيران والسعودية، على أنَّه سيكون بمثابة فرصة لتجاوز الأوضاع الصعبة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وقد تمَّ الاستدلال على ذلك، بالإشارة إلى انخفاض أسعار العملات الأجنبية في إيران. عقِب الإعلان عن الاتفاق بين إيران والسعودية. في يوم التوقيع 10 مارس، بلَغ سعر الدولار في السوق الإيرانية المفتوحة 47700 تومان، وهو أدنى معدل له خلال الشهر ونصف الشهر الماضيين، وانخفض سعر الدولار في السوق الحرة الإيرانية بنحو 2200 تومان، مقارنةً باليوم السابق، بل واصل الدولار تراجعه أمام العملة المحلية بعد ذلك.
4. انتكاسة لنفوذ الولايات المتحدة ومكانتها في الشرق الأوسط وحول العالم: اعتبرت الأوساط الرسمية في إيران، أنَّ الولايات المتحدة هي الخاسر من الاتفاق مع السعودية، وأنَّ هذا الاتفاق بمثابة تغيير لنهج السعودية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، وسيحدّ من الاندفاع الخليجي نحو توسيع اتفاقيات إبراهام. وأنَّ الاتفاق قد حيَّد مؤامرة الولايات المتحدة وإسرائيل ضد إيران، وقد وصف اللواء صفوي في 12 مارس 2023م، الاتفاق بين إيران والسعودية، بأنَّه «نهاية لهيمنة أمريكا في المنطقة». ليس هذا وحسب، بل تمَّ الترويج للاتفاق على أنَّه مؤشِّر على تراجُع النفوذ الأمريكي على الصعيد الدولي.
5. نجاح لسياسة «التوجُّه شرقًا»: لأنَّ حكومة رئيسي قد ألقت بثقلها الدولي نحو الشرق ونحو الصين تحديدًا، فقد وجدت في الوساطة الصينية مناسبةً للترويج لأهمِّية توجُّهاتها، وأنَّها قد أتت ثمارها، وربطت وسائل الإعلام بين الاتفاق، وبين المُضي قُدُمًا في تنفيذ الاتفاقيات الثنائية وتعزيز العلاقات التجارية مع بكين. فضلًا عن ذلك، فقد تمَّ الترويج للحضور الصيني، على أنَّه مؤشِّر على التغيير في النظام الدولي، وأنَّه بداية فترة ما بعد الولايات المتحدة في الخليج.
6. يؤسِّس لعودة الاستقرار الإقليمي وتفاهمات أكبر بين إيران وجيرانها: ركَّز النظام الإيراني في دعايته للاتفاق على أنَّه سيكون بدايةً لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وتحقيق التعاون على مختلف المستويات، وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان. إضافةً إلى ذلك، ركَّز الخطاب الإيراني على أهمِّية الاتفاق في تحقيق التعاون في المجالات الاقتصادية، وهذا ما أكده رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، في تغريدة على حسابه على تويتر يوم الجمعة 10 مارس 2023م، بأنَّ الاتفاق «خطوة مهمة نحو استقرار المنطقة والخليج والتنمية السياسية والاقتصادية، في سياق التعاون الإقليمي»، وما أكده مساعد الشؤون السياسية بمكتب الرئيس الإيراني محمد جمشيدي، على «تويتر» في اليوم نفسه، بقوله: «إنَّ الجمع بين سياسة الجوار والأوراسية يعِّزز التعاون الاقتصادي، ويوسِّع الاستقرار والأخوّة والأمن الداخلي، دون تدخُّل أجنبي». وعلى الصعيد نفسه، اعتبر النظام أنَّ الاتفاق سيكون نقطة انطلاق لتفاهمات أوسع مع بقية دول المنطقة، وهو ما ظهرَ في زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن الإيراني علي شمخاني للإمارات، وزيارة وفد آخر للبحرين.
ثانيًا: الأهداف وحدود التأثير
مع كلّ هذه الدعاية والترويج للاتفاق، غير أنَّ هناك تسييسًا كبيرًا ومبالغةً من جانب النظام في تأثيرات الاتفاق والمكاسب المتوقَّعة منه؛ وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى ما يأتي:
1. أنَّ الاتفاق لا يزال في مرحلة الاختبار: تُظهِر الدعاية التي قام بها النظام تفاؤلًا كبيرًا، وتعويلًا على الاتفاق في تحقيق مكاسب عديدة، في حين أنَّ الاتفاق لا يزال في مرحلة الاختبار، وبحاجة إلى تنازلات واستحقاقات مهمة، لا سيّما من جانب إيران، خاصةً فيما يتعلَّق بسياساتها الإقليمية.
2. حدود الإسهام في تهدئة التوتُّرات الداخلية: روَّجت الحكومة الإيرانية للاتفاق على أنَّه سيكون مدخلًا لحل الأزمات الداخلية، في حين أنَّ أزمة النظام في الداخل لها أبعاد سياسة واقتصادية واجتماعية، لا تمُت للاتفاق بصِلة، ولن يكون للاتفاق تأثيرٌ يُذكر عليها على المدى المنظور؛ فالنظام يواجه جيلًا جديدًا لديه رغبة في التغيير، وتتناقض قِيَمُه مع قِيَم «الجمهورية الإسلامية»، والأزمة لها أبعاد سياسية عميقة. وعلى الرغم من أنَّ الاتفاق قد أسهم في إحباط المعارضة الخارجية، التي كانت تأمل في استمرار الضغوط الخارجية على النظام، والتي تلعب فيها دول الخليج إلى جانب الولايات المتحدة والغرب دورًا كبيرًا، غير أنَّ النظام الإيراني يواجه أزمةً أكبر من أن يعالجها اتفاق التهدئة.
3. إمكانية معالجة الأزمة الاقتصادية: تواجه إيران أزمةً اقتصاديةً معقَّدة، هي بالأساس أزمةٌ هيكلية تراكمت عبر حكومات ما بعد الثورة، في إطار اقتصاد المقاومة والمواجهة، فضلًا عن إشكالية في إدارة الموارد، والعلاقة مع الجماهير، وأخيرًا وجود العقوبات، التي ستحول دون أيّ تعاون على الصعيد الإقليمي، بما في ذلك التعاون الاقتصادي مع السعودية. ومن ثمَّ، فإنَّ الترويج بأنَّ الاتفاق قد أسهم في تحسين الأسواق، هو تداعيٌ سياسي أكثر منه اقتصادي، ولن يستمِرّ ذلك، ما لم تُعالَج الأسباب الحقيقة، التي تقف خلف الأزمة، والدليل هو عودة سعر صرف العملة الأجنبية للارتفاع.
4. تقدير التداعيات على الولايات المتحدة وإسرائيل: صحيح أنَّ الصفقة قد أضرَّت بالمصالح الأمريكية، وأسهمت في دعم الصورة التي ترغب الصين في رسمها للولايات المتحدة كقوة متراجعة، لكن هذا ليس هو الواقع، فلا تزال الولايات المتحدة القوة الدولية الأكثر فاعلية، التي لا غنى عنها على الصعيد الإقليمي، ولا بديل عنها، وذلك على الرغم من الدور الصيني المتزايد والأكثر انخراطًا في المنطقة. فالولايات المتحدة لا تزال الأكثر قُدرةً على تحمُّل الأعباء والمسؤولية عن الأمن الإقليمي، ولا تزال تُمِسك بالعديد من الخيوط في المنطقة، حتى إن بدت أقلّ اهتمامًا وانخراطًا في المنطقة. كما أنَّها، وإن نجحت في جعل قضية إيران حجّةً لتعاون أمني خليجي-إسرائيلي لمواجهة إيران، غير أنَّه لن يُوقِف مسار التطبيع مع إسرائيل، الذي له سياق مختلف.
5. القيد الصيني: من أجل متابعة مصالحها في المنطقة، خصوصًا علاقاتها الاقتصادية والاستثمارات مع المملكة، فإنَّ الصين ستكون قيدًا على إيران، وعلى أيّ ضرر قد تُلحِقه بهذه المصالح. إنَّ الاتفاق جاء بالأساس من جانب الصين؛ لأجل إزالة العراقيل من أمام مصالحها العميقة، التي تمتدّ إلى دول المنطقة ككُل، بل وتمُرّ عبرهما، من خلال «مبادرة الحزام والطريق»، وهي بحاجة إلى أن تسود أجواء تهدئة بين أهم قوَّتين إقليميتين؛ لضمان تدفُّق مصالحها من الجانبين دون تحدِّيات، ورُبما تضغط على إيران، باعتبار أنَّ علاقاتها مع طهران، لا سيّما على الجانب الاقتصادي، ورقة ضغط مهمّة بيدها.
ثالثًا: توافُق وخطاب تصالحي يمكن البناء عليه
على الرغم من الخطاب الداخلي الموحَّد على مباركة الاتفاق، وعلى الرغم من الحديث وبصورة واسعة في إيران عن أنَّ خامنئي استدعَى الفريق المفاوض مع السعودية، وأبلغَهم بضرورة التوصُّل لاتفاق، لكن حتى الآن لم يعلِّق المرشد على الاتفاق، وهذا له مغزى، بالنظر إلى ديناميات السياسة الإيرانية وعملية صُنع القرار داخل الهيكل المزدوج للسلطة، والمساحة التي يتركها النظام لنفسه عند الضرورة لمراجعة التزاماته، إذا ما شعر أنَّه بحاجة إلى التراجع أو تبرير سياساته المتناقضة.
مع ذلك، لم يخلو الترويج للاتفاق في الداخل من دعاية لحكومة رئيسي، إذ أنَّ الاحتفاء بالاتفاق والتعويل عليه كرافعة من أجل معالجة مشكلات داخلية وخارجية لا علاقة لها بها، أو أوسع ممّا يرمي إليه الاتفاق، هو نوع من التسويق والدعاية والتسييس؛ لخدمة أهداف الحكومة، ومعالجة بعض أزماتها، أو الترويج لنجاح سياساتها أمام الرأي العام الإيراني.
لكن الملاحظ أنَّ الاتفاق كان مجالًا للسِّجال بين «الإصلاحيين» و«المتشدِّدين»؛ هذا السِّجال ليس موضوعه الخلاف حول سياسة تطبيع العلاقات مع السعودية. لكن كان موضوعه؛ مَنْ صاحب السبق في الدعوة إلى المصالحة وتسوية الخلافات. فقد اتّفقت التيّارات السياسية على أنَّ الاتفاق مكسب، حاول كلُّ طرف أن ينسبه إلى تيّاره. من جهة، حاول «الإصلاحيون» توظيفه للعودة إلى المشهد، بالتأكيد على نجاعة سياساتهم خلال فترة روحاني، إذ أنَّ حكومته هي من بادرت بطرح مبادرات للتقارب مع المملكة في إطار «مبادرة أمن هرمز»، ومن جهة أخرى حاولت حكومة رئيسي الاستفادة من امتيازات توقيع الاتفاق، وروَّجت إلى أنَّ القائد السابق لـ«فيلق القدس» قاسم سليماني كان أول من طرح فكرة المصالحة مع السعودية، قبل رحيله في مطلع 2020م.
لكن الأهمّ أنَّ الاتفاق عَكَس الخطاب الرسمي الإيراني تجاه السعودية، وصحَّح صورة المملكة في داخل إيران، واتّفق كلٌّ من «الإصلاحيين» و«المتشدِّدين»، بشأن أهمِّية العلاقة مع المملكة وضرورتها، وهذا مكسب مبدئي مهم، فضلًا عن أنَّه يفرض قيودًا شعبية على أيّ قرار بالتراجع عن الاتفاق ومقتضياته الأساسية، وسيبقى الانتقال إلى عملية التنفيذ وكبح جماح الأطراف الأكثر تشدُّدًا، التي قادت العلاقات إلى مرحلة التأزُّم، عمليةً مهمة؛ من أجل وضع أساس داخلي قوي لعلاقة مستدامة مع المملكة، قائمة على التفاهم والانخراط، بدلًا عن المواجهة والتخندُق المذهبي.
وأخيرًا، يمكن القول إنَّه من المفترض أن تتِم ترجمة هذا الخطاب الدعائي والترويجي للاتفاق، إلى سياسة واقعية تَظهَرُ نتائجها على الأرض، إذا كان النظام الإيراني يريد أن يجني ثمار هذا الاتفاق على الصعيد الداخلي؛ لأنَّ تطبيع العلاقات واتّباع سياسة إقليمية متوازنة قبل أن يكون مطلبًا إقليميًا ودوليًا، كان مطلبًا وشعارًا للإيرانيين خلال السنوات الماضية.