منذ الثامن من مايو الماضي يستيقظ المتابع للشأن الإيراني كل يوم على تطورات وتبعات جديدة لقرار الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران، ولا ريب أن صانعي القرار والمجتمع الإيراني كانوا يخشون اتخاذ الإدارة الأمريكية لذلك القرار، لكن يبدو أنهم -أي صانعي القرار في إيران- لم يكونوا يتوقعون رد الفعل الدولي، خصوصًا من الشركات عابرة الحدود، ولا الآثار التي سيخلفها هذا القرار على الاقتصاد والشعب الإيراني أو على الاستثمارات الأجنبية التي عولوا عليها كثيرًا لتطوير الاقتصاد بعد الاتفاق النووي.
مسارات تحوّل الاستثمارات الأجنبية:
مما لا شك فيه وجود علاقة إيجابية بين دخول أو خروج الاستثمارات الأجنبية من أو إلى دولة ما، وبين التوافق الدولي بين هذه الدولة والعالم الخارجي، فعلى مدى عامين عقب توقيع الاتفاق النووي عام 2015 انعكس اتجاه الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) ليأخذ المنحنى التصاعدي بعد سنوات من تراجعه نتيجة الحصار الدولي المفروض على الاقتصاد الإيراني، وارتفع من مليارَي دولار في عام 2015 إلى نحو 3.4 مليار دولار و5 مليارات دولار في عامي 2016 و2017 على التوالي، وفقًا لبيانات منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، وكما يتضح من الرسم البياني التالي:
وعلى الرغم من أن حجم الاستثمار الأجنبي المباشر على مستوى العالم انخفض في عام 2017 بنسبة 23% مقارنة بعام 2016، فإنه سجّل ارتفاعًا في إيران في ذات العام بنسبة بلغت 50% كواحدة من أعلى نِسَب نموّ الاستثمار الأجنبي في قارة آسيا (نسبة نمو فقط وليس الحجم الإجمالي للاستثمارات، الذي سجّل 5 مليارات دولار، وهو رقم متواضع بالنسبة إلى كثير من دول آسيا)، كما يتضح من الشكل التوضيحي التالي، الذي يقدم الدلالات المتعلقة بــتوزيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة من حيث الحجم ونسب النمو على دول آسيا في عام 2017، وتظهر الدول الأكثر استحواذًا على الاستثمارات الأجنبية (أكثر من 50 مليار دولار) باللون الأخضر الغامق، ثم الأقل استحواذًا بألوان أخرى متدرجة.
وفي الثامن من مايو 2018 قررت الولايات المتحدة الانسحاب من الاتفاق النووي وإعطاء مهلة لا تتجاوز ستة أشهر للشركات الأجنبية للخروج من السوق، وبعدها يبدأ سريان غرامات مالية (لم تحدد بعد) على الشركات المتعاونة مع الاقتصاد الإيراني. ولم تنتظر غالبية الشركات متعددة الجنسيات إلى نهاية المهلة وسارعت بإعلان خروجها المؤكد بعد أيام قليلة من قرار الانسحاب الأمريكي، وجل هذه الشركات كانت تعمل في قطاعات محورية بالنسبة إلى الاقتصاد الإيراني كالنفط والغاز والبنوك والخدمات المالية والتأمين والنقل البحري والطيران المدني.
وإذا ما عُدنا بالذاكرة لسنوات قليلة إلى الوراء نجد تشابهًا كبيرًا بين المواقف الحالية للشركات الأجنبية ومواقفها خلال الفترة من 2012-2015 في أثناء سريان العقوبات الاقتصادية على المتعاملين مع الشركات الإيرانية، وهو ما يرجح عودة منحنى الاستثمار الأجنبي للتراجع من جديد خلال الفترة المقبلة في ظل انعدام اليقين السياسي والصراعات المتزايدة يومًا بعد يوم مع العالم والجوار الإيراني.
إلى أي مدى سيتأثر حجم صادرات الخام الإيراني؟
توقعت شركة بي بي (BP) البريطانية أن صادرات النفط الخام الإيراني قد تنخفض ما بين 300 ألف إلى مليون برميل يوميًّا بعد انسحاب الولايات المتحدة، ورجح عملاق صناعة النفط في العالم أن يكون حجم الانخفاض عند الحد الأدنى لهذا النطاق، في حين تراوح اجمالي صادرات النفط الإيراني منذ بداية العام الجاري ما بين 2 و2.1 مليون برميل يوميًّا، ويذهب أكثر من ثلثي الصادرات إلى دول آسيوية أكبرهم الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان، وأقل من الثلث يذهب إلى دول أوروبا، وتسعى الولايات المتحدة للضغط على الأخيرة لوقف استيراداها للنفط الايراني.
وحتى مايو 2018 استوردت أوروبا بمعدل نحو 450 ألف برميل يوميًّا من النفط الخام الإيراني، لكن الولايات المتحدة تسعى إلى التأثير على هذه الواردات عبر الضغط على المصارف الكبرى التي تحول أموال النفط من أوروبا لإيران، ومن ناحية أخرى عبر شركات التأمين البحري على ناقلات النفط العالمية، بيد أن الضغوط الأمريكية نجحت في تحقيق بعض أهدافها، ليس في أوروبا فقط، بل في آسيا أيضا، إذ في تقرير لموقع “برترين ها” الإيراني في السابع من يونيو الجاري أعلنت شركة »ريلاينس« الهندية، وهي تملك أكبر مجموعة من مصافي التكرير الهندية، عن نيتها التوقف عن شراء النفط الإيراني لتبقى بمأمن عن العقوبات الأمريكية، كما صرحت مصادر مطلعة في مصافي تكرير أوروبية عدم مقدرة شركاتهم في تحدي الغرامات الأمريكية كشركات «ساراس» الإيطالية و«ريبسول» و«كبسا» الإسبانية، و«تروليوم» اليونانية.
الآثار الاقتصادية للانسحاب الأمريكي:
أولًا- تكلفة الفرص الضائعة نتيجة لخروج الاستثمار الأجنبي: أي المزايا الاقتصادية التي قد يحرم منها الاقتصاد والمواطن الإيراني جراء خروج الاستثمار الأجنبي، وتشمل هذه المزايا نقل الخبرة ورؤوس الأموال وتوطين التقنية والتكنولوجيا وزيادة المنافسة بين المنتجين المحليين ورفع الكفاءة، وتشمل أيضًا تشغيل الأيدي العاملة الإيرانية وزيادة التصدير للخارج وتوفير عملة أجنبية وزيادة المعروض المحلي من السلع والخدمات، ما يساهم في زيادة الجودة وتراجع الأسعار نتيجة للتنافس مع المنتجين المحليين. كل ما سبق يمثل فرصًا يجلبها الاستثمار الأجنبي للاقتصاد المحلي سرعان ما تضيع مع خروجه من هذا الاقتصاد، ولذا من المتوقع أن يضيف الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مزيدًا الأعباء الاقتصادية والحياتية في إيران.
ثانيًا- تراجع التوظيف والأجور ومخزون رأس المال: تخارج الاستثمارات الأجنبية يعني تراجعًا في مخزون رأس المال في الدولة وتراجعًا في الطلب على العمالة (ارتفاع البطالة)، وبالتالي الأجور، نتيجة للعلاقة الطردية ما بين معروض رأس المال وبين الطلب على العمالة ومعدلات الأجور، فخروج رؤوس الأموال يخفض الطلب على العمالة وبالتالي تتراجع الأجور وتنخفض دالة/حجم الإنتاج ومعها معدل النمو الاقتصادي.
ثالثًا- مساحة أكبر للاحتكارات: في بعض الصناعات وتعزيز تدخل المؤسسات النافذة سياسيًّا وماليًّا من التدخل في الحياة الاقتصادية كالحرس الثوري وشركات المؤسسات الدينية، ما يسفر عن أسعار أعلى وجودة أقل لغياب المنافسة السعرية، ما يزيد الأعباء على كاهل المواطن الإيراني.
رابعًا- انخفاض معدل النمو الاقتصادي: توقعت شركة “BMI” للأبحاث التابعة لمؤسسة “فيش” الائتمانية الأمريكية انخفاض معدل النمو الحقيقي إلى 3.1% في نهاية عام 2018 تأثرًا بإعادة فرض العقوبات الأمريكية، وإلى 0.8% في عام 2019 مقارنة بـ4.3% في عام 2017 وبـ12.5% في عام 2016 مدفوعًا بنمو الصادرات النفطية. أما صندوق النقد الدولي فتوقع في تقرير له في التاسع والعشرين من شهر مارس الماضي أن ينخفض معدل النمو الحقيقي إلى 4% في عام 2018/2019، لكنه لم يُشِر في كامل التقرير لإعادة العقوبات الأمريكية ولا إلى آثارها المحتملة، لذا قد لا يعتبر هذا المعدل واقعيًّا، ولهذا تم الاعتماد في الرسم البياني التالي الذي يوضح معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال الأعوام 2015-2019 على بيانات صندوق النقد الدولي حتى عام 2017 دون توقعات العامين التاليين، إذ تم الاعتماد على توقعات شركة الأبحاث الأمريكية، وتبدو هذه التوقعات مقبولة في ظل انخفاض متوقع في صادرات النفط الخام وخروج فعلي لشركات استثمارية صاحبة رؤوس الأموال الضخمة.
خامسًا- الضغط على ميزان مدفوعات الدولة وتفاقم أزمة نقص العملة الأجنبية: وذلك نتيجة تراجع حصيلة العملة الأجنبية، خصوصًا من الدولار، بعد التراجع المتوقع لصادرات النفط الخام، وقد تزداد الواردات الإيرانية لتعويض النقص في الإنتاج الذي سيخلفه خروج الشركات الأجنبية العاملة في المجالات الإنتاجية كالسيارات والأجهزة والمعدات وقطع الغيار وغيرها، وفي حال تزايد الواردات مع نقص إيرادات العملة الأجنبية سيتجه سعر الصرف الأجنبي للارتفاع وما يرتب عليه من زيادة في تكلفة المعيشة. وشهدت أسعار صرف العملات الأجنبية في إيران ارتفاعًا حادًّا في السوق الموزاية منذ بداية العام الميلادي 2018، فقدَ خلالها التومان الإيراني أكثر من ثلث قيمته أمام الدولار خاصة، ما اضطر الحكومة إلى توحيد سعر الصرف في أبريل الماضي وتجريم التداول بأي سعر مُوازٍ، إلا أن السعر الموحد كان أقل بكثير من القيمة الحقيقية، الأمر أعاد تداول العملة الأجنبية بأسعار أعلى في السوق الموازية.
سادسًا- عرقلة خطط تطوير حقول النفط والغاز وتباطؤ التجارة الخارجية: تخارج شركات التأمين وناقلات النفط وشركات الطاقة يعرقل برامج إنتاج وتصدير النفط ومخططات التطوير المستقبلي لحقول الغاز الإيرانية الهائلة، أما وقف تعامل بنوك وشركات مالية عالمية مع إيران فسيعيق الاستيراد والتصدير بين إيران والعالم أجمع ويحرم المجتمع الإيراني من سلع وخدمات أو يرفع من تكلفتها على أقل تقدير، فأي مصرف عالمي يتعامل بالدولار الأمريكي أو مسجل أو له فرع في أمريكا سيكون عرضة لغرامات مالية أمريكية إذا ثبت تعامله مع شركات إيرانية على قائمة العقوبات.
https://www.youtube.com/watch?v=pqxTviistEk
الطبقة المتوسطة والبسيطة تدفع الثمن:
إنّ تبعات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي على الاقتصاد الإيراني يمكن أن توصل إلى نتيجة نهائية مفادها أن الشعب الإيراني هو أكبر المتضررين ومن يدفع الثمن في النهاية، وإن لم يكن كامل الشعب فالطبقات البسيطة والمتوسطة -وهم المكون الأكبر للمجتمع الإيراني- هم للأسف من سيدفع ثمن أفعال صانعي القرار الإيراني، وهم من سيضطرون إلى مواجهة تحديات وضغوط إضافية في سوق العملة الصعبة ونقص الإنتاج، مما سينعكس على مستويات الأسعار، وهم من سيواجهون التباطؤ في التشغيل والتجارة والأعمال، مما سينعكس على معدلات البطالة والفقر وجودة الحياة. ولربما يحمل المستقبل إما مزيدًا من التدهور، وإما تصحيحًا لهذه الأوضاع الخطيرة، وهو أمر مرهون بمدى عقلانية ورشد صانعي القرار هناك وتقديمهم لمصلحة مواطنيهم على صراعاتهم الخارجية وأحلامهم العابرة للحدود.