منذ سنوات ترصد إيران ميزانية ضخمة للاستثمار في بناء السدود، ويذكر بعض الخبراء أن الاستثمار في السدود في إيران احتلّ المرتبة الثانية بعد النِّفْط منذ عام 1979، وقد كان هاشمي رفسنجاني يفتتح بشكل متوسّط، خلال فترة رئاسته للجمهورية، سدًّا كلّ 45 يومًا، وكان ذلك سببًا في تسميته “جنرال الإعمار”.
منذ أكثر من عقد من الزمن، تواجه إيران انتقادات بسبب برامجها في بناء السدود المؤثِّرة على البيئة، وتتناول الدراسات الأخيرة، مثل تقرير “الجَنَّة المفقودة” الذي نشرته مؤسَّسة “small media” عام 2017، أزمةَ البيئة المستمرة في إيران، ويشير فيها عدد من الأكاديميين والمنظَّمات إلى جفاف البحيرات والأنهار في إيران على أنها نماذج بارزة لسوء إدارة مصادر المياه خلال هذه السنوات.
ومن أجل التحقيق بشكل أكبر في موضوع سوء إدارة المياه، قام فريق “small media” بالبحث والتقصي في موقع شركة إدارة مصادر المياه في إيران -من الهيئات التابعة لوزارة الطاقة- لتحصل بذلك على بيانات 1155 سدًّا في إيران، متوصلةً إلى نتيجة مفادها أن “في كثير من الحالات معلومات أساسية مفقودة”، علمًّا بأن قاعدة البيانات لم تقدّم معلومات كاملة إلى لمئة سَدٍّ فقط من هذه السدود، دون أن يجزم الفريق القائم بالبحث والتقصِّي ما إذا كانت هذه المعلومات المفقودة من الأساس ناتجة عن عملية الفساد الموجودة في النِّظام، لكن في الوقت نفسه سلّط الضوء على هذه المعلومات والنزاهة المفقودة بخصوص بناء السدود في إيران.
تبرز أهمِّيَّة موضوع السدود في إيران عندما نعلم أن أخبارًا كثيرة تتحدث عن أن الحرس الثوري استغلّ شركة “خاتم الأنبياء” الهندسية (إحدى الشركات الكثيرة التي تنشط تحت مظلته) للالتفاف على عقوبات منظَّمة الأمم المتَّحدة والاتِّحاد الأوروبيّ، ولأن عملية بناء السدود السريعة إبان فترة رئاسة هاشمي رفسنجاني (1989-1997) وفترة محمد خاتمي (1997-2005) وفترة أحمدي نجاد (2005-2013)، إذ بُنيَ في هذه الفترات سَدٌّ واحد في كلّ عام بشكل متوسط، فإن عمليات الإنفاق التي جرت تتطلب نزاهة ووضوحًا أكبر حول الجهة التي بنت هذه السدود، والمدَّة التي استغرقتها عمليتا البناء والتقييم اللتين جرتا لها.
(جدول1: مشروعات السدود التي بدأت عملية بنائها في كل عام)
(جدول 2: عملية بناء السدود في إيران خلال الأعوام 1978-2013)
لكن عندما وصل حسن روحاني إلى الرئاسة توقفت عملية بناء السدود، وبالنظر إلى بناء ما متوسّطه 35 سدًّا كل عام خلال الفترة 1989-2013، فإن هذا التوقف المُفاجئ يُشكّل في سياسة البيئة اختلافًا كبيرًا عن تَوَجُّه من سبقوه في بناء السدود، كما يشير هذا التوقف المفاجئ إلى أن الحاجة إلى بناء سدود لا نهاية لها الذي كان يجري خلال العقدين الماضيين أصبحت منتفية، وفي هذه النقطة تحديدًا يقول أصحاب الرأي إن “إيران بحاجة إلى تعطيل أكثر من 500 سدّ بنته خلال هذه الفترة، لإحداث تغيير إيجابي على البيئة في إيران”، وهذا يعني وقف العمل في أكثر السدود التي بدأت إيران بناءها منذ عام 1989، البالغ عددها 873 سدًّا.
من الواضح إذًا أن عملية بناء السدود السريعة أثّرت بشكل عام سلبيًّا على الممرات المائية والبيئة في إيران، لكنّ الوصول إلى فهم شامل للسدود التي بُنيت يُعتبر عملية شاقَّة، فكما سبق وذكرنا، على الرّغم من البحث والتقصّي في مجموعة كاملة من البيانات حول 1155 سدًّا مبنيًّا فعليًّا أو تحت الإنشاء في إيران، فإن هذه البيانات ليست كاملة، وفي ما يلي توضيح للحالات التي فُقدت بياناتها:
(جدول 3: تقسيم السدود الإيرانيَّة على أساس البيانات المفقودة)
مَن يبني السدود في إيران؟
إضافةً إلى المنافع المؤكَّدة التي تعود بها عملية بناء السدود على الحرس الثوري ومن يرتبط بهم من حيث العوائد المالية، فقد طُرِحَت أسئلة حول ماهية هذه السدود شبه العسكرية، وقيل إن عملية بناء السدود على هذا النطاق الواسع في إيران، التي غالبًا ما يقوم بها المرتبطون بالحرس الثوري، استُعملت أداةً دفاعية، للتأكُّد من أن الدولة تسيطر على مصادرها المائية بشكل كبير إذا حدثت مواجهة عسكرية طويلة المدى، لذا فإن الكشف عن سيطرة الحرس الثوري على المصادر المائية في إيران أمر مهم، وفي نفس الوقت نجد أن أكثر من نصف هذه السدود الموجودة في قاعدة البيانات ليس لها بيانات حول شركة المقاولات أو الشركة الاستشارية أو كلتيهما، الأمر الذي يَحُول دون أن نتعمَّق في بحثنا.
إن المعلومات الخاصَّة بالشركات المشاركة في بناء السدود ضرورية من أجل الحفاظ على معايير تحمل المسؤولية والنزاهة، وهذه المعلومات يجب أن تكون متوافرة على ثلاثة مستويات: صاحب العمل (هيئات المياه الإقليمية التي تطلب القيام بعملية البناء)، والمقاول، والاستشاري، وبفقدان البيانات الخاصَّة بالمقاولين والاستشاريين فلا سبيل لنعرف إلى أي المؤسَّسات وُكِلَت العقود للبدء بعملية بناء السدود الضخمة.
إن 647 سدًّا من السدود الإيرانيَّة تفتقر إلى البيانات الكاملة حول المقاول أو الاستشاري أو كليهما، وهذا يعني أكثر من النصف بقليل.
(جدول 4: تقسيم السدود الإيرانيَّة على أساس معدّل البيانات الموجودة)
كما أن 108 من هذه السدود تفتقر إلى تاريخ البدء بعملية البناء، منها 69 سدًّا يفتقد تاريخ إتمام عملية البناء أيضًا، وهذا يعني أنه لا مجال لمعرفة إن طرأ تأخُّر على عملية بناء هذه السدود أم لا، ومِن ثَمَّ لا يمكن تحديد التكاليف الإضافية لعمليات التأخير هذه.
(جدول 5: تقسيم السدود الإيرانيَّة على أساس ذكر تاريخ البناء)
السدود التي تأخّر بناؤها
مع أن قاعدة البيانات لا تذكر شيئًا حول تكاليف البناء، فإن تكاليف التأخير في عملية البناء كبيرة جدًّا، وذلك حسب اللجنة العالَمية للسدود، التي استنتجت في تقريرها عام 2001 أنه يمكن افتراض أن يبلغ متوسّط تكلفة التأخير في بناء السدود الكبيرة 56% من إجمالي تكلفة السدّ، ويشير هذا التقرير كذلك إلى أن عملية التأخير لا تؤثِّر كثيرًا على شركات البناء، لأنها في النهاية ستحصل على أموالها وتغادر، لكنّ مواطني الدولة هم مَن سيتحمَّل عبء هذه التكاليف الإضافية.
في الحقيقة، وفي كثير من الحالات وبشكل لا يمكن تصديقه، اعتُبرت عمليات بناء السدود الكبيرة غير مُجدية اقتصاديًّا، وفي أفضل حالاتها تركت أثرًا إيجابيًّا ضئيلًا مقارنة بتكاليف بنائها، ومدته وتأثيره على المجتمعات المحليَّة.
وعلى الرّغم من كل ذلك فقد تقصّينا عمليات بناء 707 سدود كبيرة في إيران (كلّ سدّ يزيد ارتفاعه على 15 مترًا) بدأ العمل على بنائها بعد عام 1989، وفي حين أن متوسط المدة التي تستغرقها عملية البناء 5 سنوات، فإن 269 سدًّا من هذه السدود لا يزال تحت الإنشاء أو استغرق بعضها أكثر من 5 سنوات، بجانب 88 سدًّا استغرق بناؤها أكثر من عشر سنوات، بل إنّ في محافظة جيلان سدًّا لم يُنجز منه سوى 5% رغم مرور 22 عامًا على بدء بنائه، وتشير صور الأقمار الصناعية إلى أنه لا يوجد أي تقدّم في عملية بنائه حتى اليوم.
تَحمُّل المسؤولية أمرٌ ضروري
بالنظر إلى الاعتراف بأن هذه السدود قد تركت تأثيرًا سيئًا للغاية على البيئة في إيران، والمخاوف من تدخُّل الحرس الثوري على نطاق واسع في بناء هذه السدود لتحقيق أهدافه العسكرية والاستحواذ على حصة أكبر من الميزانية، فإن هناك قلقًا حقيقيًّا من عدم تَحمُّل أحد مسؤولية هذه السدود، وبصعوبة كبيرة يمكن جعل المؤسَّسات المحلية والحكومة تتحمل مسؤولية التكاليف الباهظة والمدمِّرة للاقتصاد والمجتمع والبيئة الناتجة عن بناء هذه السدود، دون الوصول إلى مجموعة كاملة من البيانات.
إن هذا المقال لا يشير فقط إلى ماهية إدارة المياه الغامضة في إيران، بل إلى الحاجة إلى وضع البيانات في متناول الجميع، ويسلّط الضوء على أهمِّيَّة الإجابة عن أسئلة الرأي العامّ، كما أن الهدف منه هو فتح باب النقاش حول عملية بناء السدود في إيران وماهيّتها، ونحن هنا ندعو الباحثين إلى إلقاء نظرة على مجموعة البيانات الكاملة، ليجري تحقيق على نطاق أوسع حول القضية.
ملاحظة: أُعِدَّ هذا التقرير على أساس بيانات “قاعدة بيانات إيران المفتوحة” Iran Open Data، وهي قاعدة تجمع بيانات صحيحة من جميع قطاعات الصحة والسكّان والزراعة وغيرها.
مادة مترجمة عن موقع راديو فردا