هناك حكاية مشهورة تقول إن رجلاً متفائلاً سقط من برج شاهق، وفي طريق السقوط كان يقول حين وصوله إلى كل طابق من طوابق البرج: “سارت الأمور جيداً حتى اللحظة”، و”لم يقع أي مكروه حتى الآن”،وتعكس هذه الحكاية قصة السياسي المخضرم الذي أخذ انهياره طابعاً علنياً لأول مرة في انتخابات مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) في فبرایر عام 2000م ، وربما هناك قلة من الناس تصدرت على غرار رفسنجاني عناوين الصحف ووسائل الإعلام،وعاشت مثله حياة مليئة بالصعود والنزول. يعتقد كثيرون أن هاشمي رفسنجاني كان الشخصية السياسية الأكثر تأثيراً في إيران حتى انتهاء ولايته الرئاسية، حيث إنه كان من المقربين لزعيم الثورة الإسلامية آية الله خميني، ولعب دوراً محوريا في تأسيس الهيكلية السياسية للجمهورية الإسلامية في الثمانينيات، واختيار علي خامنئي ولياً للفقيه، مما أدى إلى تحوّل جاد في مستقبل إيران السياسي، كما أن الخطة الاقتصادية التي وضعها رفسنجاني في فترة ما بعد الحرب العراقية – الإيرانية رسمت فعلاً آفاق الخطة التنموية واستراتيجيتها للعقود القادمة.
أكبر هاشمي رفسنجاني في الثمانينيات من عمره، ولكن خلافاً للمرشد آية الله علي خامنئي لم يتم تداول أخبار كثيرة حول احتمالية موته، فبينما احتلّت حالة المرشد الإيراني الصحية حيزاً كبيراً من اهتمام النشطاء السياسيين والمراقبين، باتت حياة رفسنجاني تشكّل بارقة أمل لهم.وفي هذه الأيام، أصبح “الأمل” عنواناً لقائمة الإصلاحيين للانتخابات البرلمانية (مجلس الشورى) ومجلس خبراء القيادة، لكن الأحداث التي وقعت أثناء هذه الانتخابات، وخلال عملية الاقتراع لاختيار رؤساء هاتين المؤسستين، شكلت فرصة ملائمة للتطرق إلى مصير شخص كان حاضراً في العديد من العمليات الانتخابية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، عوضاً عن الدخول في تفاصيل هذه الأحداث ولاعبيها، حتى وإن لم تثمر الانتخابات خلال العقدين المنصرمين شيئاً لرفسنجاني سوى الفشل.
ربما بدأت قوة رفسنجاني بالتداعي منذ أن عُرف بـ”أكبر شاه” لدى الرأي العام، أي في أوج القوة، حيث كان يميل أكثر إلى لقب “أمير كبير” إيران، غير أن مواليه شبهوه بـ”دينج شياو بينج” في المشهد السياسي الإيراني، إذ أدى موت آية الله الخميني في تلك الفترة إلى حالة من عدم التوازن بين التيارين اليساري واليميني، وترك صعود اليمين أثره في حكومة هاشمي رفسنجاني.وبينما أخذ هاشمي يبتعد عن اليسار شيئاً فشيئاً، قام بإرسال محمد موسوي خوئيني وفريقه إلى مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للرئاسة، وتنازل في تشكيلة حكومته في الولاية الرئاسية الثانية عن عبدالله نوري ومصطفى معين في وزارتي الداخلية والعلوم، وفي النهاية وافق رفسنجاني على استقالة محمد خاتمي من منصب وزير الإرشاد.
كانت الحكومة في تلك الفترة تميل إلى اليمين، وشكّلت الدورة البرلمانية الرابعة ذروة الاتجاه اليميني للحكومة، غير أن البرامج الاقتصادية والسياسية الخارجية المعتمدة من رئيس الجمهورية آنذاك لم تنسجم مع توجهات التيار اليساري في الجمهورية الإسلامية، كذلك لم تنسجم سياساته الداعية إلى التغيير والتنمية الاقتصادية الخالصة مع أفكار العدالة الاجتماعية التي ينادي بها اليسار في الدولة الإيرانية، أيضاً لم يكن هناك تناغم بين سياسة الأبواب الاقتصادية المفتوحة ومواقف اليسار المناهضة للولايات المتحدة، وأقر رفسنجاني نفسه بهذه القضايا.
ولم تستمر علاقة رفسنجاني والتيار اليميني لفترة طويلة، وسرعان ما تداعى هذا الائتلاف، وعندما تمّ طرح فكرة تمديد ولايته الثانية، لم يكن رفسنجاني حينها يتمتع بشعبية كبيرة، لا عند اليسار ولا عند اليمين،ويقال إن فكرة تمديد ولاية رئاسته واجهت معارضة شديدة من المرشد.
وفي الحقيقة، لم يكن الصراع بين التيارات السياسية العامل الوحيد في خسارة هاشمي رفسنجاني لمكانته الرمزية وبروز الاستياء من حكومته، بل يعود ذلك أيضاً إلى فشل مشروع حكومة البناء على أرض الواقع في ثلاثة أقسام أساسية، إذ انتهى السجل ذو الأعوام الثمانية لرفسنجاني بفشل في السياسة المحلية، التي تمثلت في حركات التمرد في إسلام شهرومشهد وقزوين، وقمع المعارضين والمنتقدين.
أما في السياسة الخارجية، فإنه تم قطع العلاقات بين إيران والدول الغربية، وفي الشق الاقتصادي، توقف برنامج التنمية والإصلاح الاقتصادي، وانتهى سجل رفسنجاني بعد مرور ثمانية أعوام بالفشل، بسبب الإخفاق في هذه الأقسام الثلاثة، وكانت تلك مجرد بداية للأيام المرة التي سيواجهها هاشمي رفسنجاني في مجال السياسة.
◊ بداية السقوط.. فترة ما بعد هاشمي رفسنجاني
كسر الإصلاحيون حاجز الانتقاد الجاد الموجه إلى هاشمي رفسنجاني منذ 23 مايو 1997(دوم خرداد)، والذي كان يعتبر من المحرمات آنذاك، وإن كان الإصلاحيون بعد الانتخابات الرئاسية آنذاك ألحقوا الضرر برفسنجاني، من خلال الهجوم الحاد والشامل عليه، وجعلوه يخسر مكانته لدى جزء كبير من الرأي العام، إلا أنّ محمود أحمدي نجاد وجّه لهضربة قاضية، وذلك من خلال القضاء على الجذور الاقتصادية والآلیات السیاسیة التي كان يمتلكها رفسنجاني، حيث كرس جهوده واهتمامه بعد انتهاء ولايته الرئاسية لمجلس تشخيص مصلحة النظام، وسعى إلى إبقاء جزء من نفوذه السياسي في هذه المؤسسة، وذلك باعتباره رجل السياسة الذي يحظى بنفوذ أساسي في هيكلية السلطة، وليس بين الشعب،
وقد يكون هذا السبب هو الذي دفع رفسنجاني لنقل مقر مكتب الأبحاث الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية إلى مجلس تشخيص مصلحة النظام، لكن المرشد الأعلى لم يوافق على إعادة تركيز السلطة في يد مؤسسة تابعة لرفسنجاني، ومن هنا اشتدت المشاكل التي واجهها رفسنجاني، ناهيك عن الاختلافات التي برزت بين الرجل والتيارات السياسية، وعلى إثر ذلك منح خامنئي إحدى أهم مسؤوليات مجلس تشخيص مصلحة النظام، والمتمثلة في حل الخلافات بين السلطات الثلاث إلى مؤسسة أخرى تدعى “الهيئة العليا لحل الخلافات وتنظيم إدارة العلاقات بين السلطات الثلاث”، وذلك تحت إشراف هاشمي شاهرودي.
وعلى رغم أن أداء آية الله خامنئي في فترة الإصلاحيين واجه انتقادات عديدة، لكن في الحقيقة أنه خرج في هذه الفترة رويداً رويداً من الظل، وأخذ يتولى أدواراً أكثر حسماً في المعادلات السياسية للسلطة.
وبعبارة أخرى يمكن القول إنه كلما خسر رفسنجاني من قوته، أصبح المرشد الإيراني في الجانب الآخر أكثر اقتداراً وثباتاً في الساحة السياسية الإيرانية، وذلك من خلال إصدار مراسيم حكومية، واتخاذ توجهات واضحة، حيث بدأ تدخل خامنئي بالتزامن مع انتقال “بيت القائد”من منطقة جاماران إلى باستور (بجوار مقر رئاسة الجمهورية) إبان توليه منصب المرشد، إذ قام بتحويل بيت المرشد شيئاً فشيئاً إلى مؤسسة موازية وحكومة ظل.
وكان رفسنجاني يسعى خلال هذه الأعوام التي سبقت الانتخابات الرئاسية في 2009 إلى تقديم نفسه على أنه رجل عابر للتيارات السياسية في هيكلية النظام السياسي في إيران، غير أنه لم يستطع أن يتمتع بعلاقات جيدة مع التيارين السياسيين في نفس الوقت، وكانت لديه دائماً خلافات مع السلطة التنفيذية، إذ كان يعتبر على الدوام منافساً فعلياً للرئيسين في البلاد.
وقسى عليه الزمان أكثر حين أصبح الخيار السياسي الذي اعتمده رفسنجاني يتعارض مع خيار المرشد الأعلى في الانتخابات الرئاسية 2009، إذ أخذ رفسنجاني في هذه الفترة يصرف اهتمامه شيئاً فشيئاً عن مراكز السلطة السياسية في الدولة، ويهتم بالمحتجين، وشكّلت هذه الحاضنة الشعبية فرصة لرفسنجاني ليقدم نفسه مرة أخرى على أنه رجل عابر للتيارات السياسية، وكان يطمح دوماً للعب هذا الدور بعد فترة رئاسته، وكرر الرجل مرات عديدة بأن السبب في ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية هو إيجاد التعادل، ولكن الهوة التي أنتجتها الانتخابات الرئاسية في 2009 كانت عميقة جداً، حيث لم يرضخ المرشد ومؤسسة “بيت القائد” لآراء رفسنجاني، بل سلبا منه منصب رئاسة مجلس الخبراء.
◊ الحياة بعد الموت وأخ غير شقيق
استمرت إخفاقات هاشمي رفسنجاني المستمرة من أجل استعادة مكانته السابقة لمدة 16 سنة، ومن ثم حدث ما اعتبره هو بنفسه أكبر إنجاز في حياته السياسية بعد عقدين من الزمن، وهو اختيار حسن روحاني رئيساً للجمهورية، زميل رفسنجاني وشخصية تشبهه، شخصية معتدلة، وربما هذا النصر هو ما جعل مكانة هاشمي رفسنجاني تفقد معناها والحاجة إليها للبقاء في المشهد السياسي في إيران.اعتمد روحاني النهج الذي لم يتمكن رفسنجاني من تنفيذه، وهو العلاقة مع الغرب، نهجٌ حصل على موافقة المرشد الأعلى، اليوم يوجد إجماع على روحاني الذي اعتبر سابقاً ترشّحه للانتخابات الرئاسية منوطاً بموافقة المرشد، وأصبح يعلم اليوم أن التقدم في خططه السياسية مرهون بالتقرب من المرشد بشكل أكبر، وحفظ المسافة بينه وبين هاشمي رفسنجاني،ولهذا السبب ربما أخذ روحاني يبدي بأن العامل الذي كان يقف وراء اختياره رئيساً للجمهورية هو الشعب الذي أعطى صوته لنهج الاعتدال،وليس المناورة السياسية التي قام بها هاشمي رفسنجاني في فترة الانتخابات، ولهذا السبب يجد رفسنجاني نفسه بالتحديد ملزماً في أن يؤكد في مقابلاته على الدور الذي لعبه في صعود روحاني، وهو الدور الذي لم يتطرق إليه روحاني ولا المقربون منه.تمثلت اللعبة الأخيرة التي قام بها رفسنجاني في جلب رئيس كتب بيده النهاية الرمزية لرفسنجاني، روحاني الآن يقف حيث كان يطمح علي أكبر هاشمي رفسنجاني للوصول إليه: شخصية سياسية عابرة للتيارات، كان حسن روحاني وحكومته يؤيدون إعادة اختيار علي لاريجاني رئيساً لمجلس الشورى في دورته الحادية عشرة، مما يدل على أن روحاني يعلم مدى أهمية هذه المكانة التي لا يمكن بلوغها إلا عن طريق قوة ملموسة.
والحقيقة أن رفسنجاني لم يعد يملك القوة السياسية للاستمرار في حواره الذي كان له دور كبير في صناعة مكانته، كما أنه لم يعد يمثل تياراًسياسياً، إذ بدأت فترة ما بعد رفسنجاني منذ نحو عقدين من الزمن،فالرجل الذي كان يقوم بتحديد وجهة السلطة في الجمهورية الإسلامية في نهاية الثمانينيات لا يترك ردّ أهليته اليوم أيّ تأثير على الحكومة.
إن دعم جزء من منتقدي السلطة لرفسنجاني ناتج عن العجز الذي يشعربه المجتمع نفسه لإحداث التغيير، وتتمثل أسطورة رفسنجاني اليوم في حلم لم يتحقق، حلم السلطة التي كان من المقرر أن تضع مجلس الخبراء وجهاً لوجه مع آية الله خامنئي بعد احتجاجات عام 2009، واليوم تقول وسائل الإعلام عن رفسنجاني إنه “ما وراء الحقيقة” التي تخفي في طياتها غياب السلطة الحقيقية للشعب والحقائق في إيران.
رفسنجاني اليوم عديم التأثير، غير أن ذلك لا ينفي تاريخه وإرثه،والمعروف هو أن ذكريات رجال السياسة تبرز أكثر عندما يصبحون عديمي التأثير، ولذلك فإن كتاب ذكريات هاشمي رفسنجاني بعدد صفحاته الكبيرة قد ينقصه فصل واحد لم يُكتب وهو فصل عن “حياته بعد الموت”، موتٌ رمزي بدأ منذ 18 عاماً، موتٌ على خلاف موت المرشد الأعلى، من المحتمل أنه لن يترك أثراً على الإطلاق في الحياة السياسية والاجتماعية في إيران.
مادة مترجمة عن بي بي سي فارسي