بعد وفاة الشابة الكردية مهسا أميني، وما صاحبها من غضبة شعبية في الداخل الإيراني، اندلعت احتجاجات منادية بإلغاء شرطة الأخلاق، وعمَّت حالة من التوتُّر والاضطراب في أجهزة النظام، ما جعله في حالة من الارتباك، اضطرَّ معها إلى فرض مزيد من الممارسات العنيفة ضد المتظاهرين، في محاولة لإخماد الحراك الاحتجاجي. لكن مع شدَّة الاحتجاجات، وما كانت تشكِّله من خطر على مستقبله، اضطرَّ النظام الإيراني إلى تجميد عمل شرطة الأخلاق. ولأنَّ النظام الإيراني يرى أنَّ الحجاب يمثِّل رمزية سياسية وحجر أساس في أيديولوجيته، أعاد عمل شرطة الأخلاق إلى الشوارع الإيرانية في 16 يوليو 2023م، سواء بالسيارات أو سيرًا على الأقدام، بهدف مواجهة النساء غير ملتزمات الحجاب، وإثارة الرعب في نفوسهن، وفرض سلطة النظام الإيراني.
وعلى الرغم من مرور نحو عشرة أشهر من الاحتجاجات على وفاة مهسا أميني داخل أحد معتقلات شرطة الأخلاق، وضغوط الحملات الاجتماعية تحت شعار «المرأة، الحياة، الحرِّية»، فإنَّ النظام لم يصِل إلى نقطة التقاء مع الشعب. وعلى النقيض من ذلك، أثار بركانًا خامدًا بعودة شرطة الأخلاق بأمر من رئيس الجمهورية الإيرانية والسلطة القضائية، بحُجَّة أنَّها «من مطالب الشعب نفسه»، وإحلال الأمن العام، وتعزيز أُسُس وبناء الأُسرة.
السؤال الذي يطرح نفسه هُنا: لماذا لم ينظُر النظام الإيراني إلى الأبعاد الأمنية والسياسية لعودة «عودة شرطة الأخلاق»؟، ولماذا جنَّد لها كل إمكاناته وخصَّص لها ميزانية طائلة للاضطلاع بدورها في وقت يمُرّ فيه الاقتصاد الإيراني بأزمة خانقة؟
مؤيِّدو عودة شرطة الأخلاق هم أقطاب وأنصار التيَّار «المحافظ» والشريحة المتديِّنة في المجتمع الإيراني، يُصِرُّون على فرض الحجاب، ويروْنَ أنَّ شرطة الأخلاق «ستعيد الأمور إلى نصابها وتمنع التوتُّرات والمواجهات، التي حصلت بعد مقتل مهسا أميني من خلال فرضها القانون، وفيه حفاظٌ على المجتمع من السلوكيات غير الأخلاقية، والتحرُّشات الجنسية، والخروج عن القِيَم والعادات، والنظام العام، والاحتجاجات وما ينتج عنها».
أمّا المعارضون، فيروْنَ أنَّ شرطة الأخلاق تعتبر أداة ظُلم واضطهاد وإجحاف في حق الإيرانيين، وسلْب لحرِّيتهم وإنسانيتهم، وحرمانهم من حقوقهم، ومدعاة للقتل والسجن تحت غطاء الدين، كما أنَّها وسيلة قمْع وحشي، ورُبّما يهدف النظام الإيراني من إعادة نشرها في هذا التوقيت إلى شغْل المجتمع الإيراني عن مطالبه الأساسية، المتمثِّلة في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
اتَّخذ النظام الإيراني هذه الخطوة على الرغم من أنَّه يدرك تمامًا أنَّ من شأنها أن تشكِّل له تحدِّيًا كبيرًا خلال الفترة المقبلة، وقد يعود الإيرانيون إلى خيار الاحتجاجات لإجبار النظام على التراجع عن قرار إعادة نشْر شرطة الأخلاق. وعلى مدى الأيام الماضية، حذَّر سياسيون داخل النظام من رد فعل عكسي قد يولِّد انفجارًا اجتماعيًّا تقوده النساء ويهدِّد بإسقاط النظام.
لعلَّ ما قد يؤجِّج الصراع في الداخل الإيراني، ويشعل الاحتجاجات من جديد، هو إلحاق قرار إعادة نشْر شرطة الأخلاق في الشوارع والأماكن العامة، بإجراءات أخرى تتمثَّل في استخدام الرسائل النصِّية، أو التقنية الحديثة لمراقبة غير ملتزمات الحجاب، إضافةً إلى فرض قانون «الحجاب والعِفَّة» الجديد، الذي فُرضت بموجبه عقوبات مشدَّدة على النساء، اللواتي يخالفن الحجاب في الأماكن العامَّة، كالغرامات المالية الكبيرة، والسجن لفترات تتراوح بين خمس وعشر سنوات. ووصلت سلسلة العقوبات أيضًا إلى اعتقال مالكي ومديري الأماكن العامَّة، ومقاطعة وإغلاق المتاجر أو الشركات والمطاعم والمراكز الصحية والصيدليات، وغيرها من الجهات، التي تعمل بها غير ملتزمات قانون الحجاب. ويعتبر هذا القانون تحذيرًا من النظام الإيراني وتأكيدًا لعدم تراجُعه عن موقفه في قضية الحجاب. وتحسُّبًا لثورة شعبية ضد النظام الإيراني، وضعت السلطات إجراءات أمنية مشدَّدة في المدن الكبرى، كما عُيِّن 400 من قوَّات الأمن، وأُطلِق عليهم «مراقبو الحجاب» في مترو طهران.
وفي النهاية، يمكن القول إنَّ الإجراءات الجديدة المتعلِّقة بإعادة نشر شرطة الأخلاق، وفرْض عقوبات جديدة بحقّ النساء، على الرغم من التحذيرات من تجدُّد الاحتجاجات ضدَّ النظام، تُشير بوضوح إلى عدم استعداد النظام لتقديم أيِّ تنازُل في مسألة الحجاب. ولعلَّ ما يُثبت هذا الإصرار تخصيص ميزانية كبيرة لشرطة الأخلاق بما يزيد على 103 مليارات تومان، لكن الشعب الإيراني، الذي يراقب عن كَثَب هذه الإجراءات، وأثار ردود فعل غاضبة حيالها، يبدو أنَّه ينتظر أيَّ انتهاك أو حادثة جديدة بحقِّ النساء، على غرار ما حدث لمهسا أميني أو أقلّ من ذلك، للنزول إلى الشارع. وحينها لن يستطيع أحد أن يتوقَّع ما ستؤول إليه الأوضاع هذه المرَّة، خصوصًا في ظل حالة الاحتقان والسخط الشعبي الشديدين من سياسات النظام، واستمرار تردِّي الأوضاع الاقتصادية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد