ضمن ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من تحوُّلات جيوسياسية جديدة، تصُبّ في صالح انتقالها إلى مرحلة مغايرة -حال نجاحها- عنوانها تحقيق الأمن وإحلال السلام محلَّ الصراع المُنهِك في الشرق الأوسط، تشهد الساحة اليمنية تطورات سياسية جديدة تعكس دخول اليمن في مرحلة سياسية جديدة، قد تُفضي إلى مفاوضات شاملة لتسوية الأزمة الممتدَّة منذ سنوات، على خلفية تعدُّد مسارات التفاوض ما بين الوساطة العُمانية والجهود الأُممية بين أطراف الصراع المباشرين -الحوثيون في صنعاء ومجلس القيادة والحكومة اليمنية في عدن- وبين اللاعبين الرئيسيين والمؤثِّرين في الأزمة اليمنية، السعودية وإيران؛ بهدف دخول اليمن في مرحلة جديدة تؤسِّس لسلام شامل ينهي الأزمة، التي خلَّفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمشرَّدين واللاجئين.
يطرح توقيت المساعي السياسية لحل الأزمة المتعدِّدة الأطراف في اليمن، والمرحلة الجديدة، التي تمضي نحوها المنطقة، بعد أيام قليلة من الاتفاق الموقَّع بين القوَّتين الإقليميتين الكبيرتين، السعودية وإيران، التساؤلات حول محفِّزات وأبعاد ومضمون المساعي لإنهاء الأزمة في اليمن، ثمّ تقييم تصوُّرات أطراف الصراع المباشرين وغير المباشرين المُشار إليهم أعلاه لكيفية إنهاء الأزمة اليمنية، وما هي أبرز التحدِّيات أو العراقيل الداخلية والخارجية أمام الجهود الإقليمية والدولية لإنهاء الأزمة في اليمن؟ ثمّ مآلات المساعي على ضوء المحفِّزات والمكاسب والتحدِّيات، التي يمكن أن تعيق تحقيق الأهداف المرجوَّة من كافّة أطراف الصراع الممتدّ منذ قرابة 8 سنوات.
أولًا: طبيعة وتقييم المساعي السياسية لتسوية الأزمة اليمنية
ضمن مساعٍ سياسية جديدة لتمديد الهدنة بين أطراف الصراع، وتقريب وجهات نظرهم تجاه الملفات العالقة، تحوَّلت عدن وصنعاء إلى قبلة للوسطاء والوفود العربية والدولية؛ لبدء تنفيذ ما تمَّ الاتفاق عليه أثناء المحادثات بين أطراف الصراع، خلال الأسابيع الماضية. وفيما يلي، أبرز هذه المساعي السياسية لحل الأزمة في اليمن، ثمّ تقييم لأهمّ النتائج، التي ترتَّبت على هذه المساعي:
1. المساعي العربية والدولية لتسوية الأزمة
أ. الوساطة العُمانية: تُعَدُّ سلطنة عُمان أهمّ وسيط في تقريب وجهات نظر أطراف الصراع، حيث أجرت السلطنة جولات تفاوضية عديدة مع هذه الأطراف، وطرحت عدّة مبادرات لتسوية الأزمة. وعزَّزت عُمان من جهودها لإنهاء الأزمة عقب الاتفاق السعودي-الإيراني الموقَّع في بكين في العاشر من مارس 2023م، بإرسالها وفدًا دبلوماسيًا لصنعاء في التاسع من أبريل 2023م، ضمّ كبير المفاوضين الحوثيين محمد عبد السلام المقيم في مسقط؛ بهدف إجراء محادثات حول تجديد الهدنة المنتهية في أكتوبر 2022م، بعقد هدنة جديدة مدّتها 6 أشهر، والتباحث حول عملية السلام الشاملة في اليمن؛ لإسدال الستار على أخطر مرحلة صراع في اليمن.
ب. الجهود السعودية: قبل زيارة الوفد العماني لصنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين، بأربعة أيام فقط، وتحديدًا في السادس من أبريل 2023م، إلتقىوزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان برئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي في الرياض، للتباحث حول جهود إحلال السلام ضمن عملية سياسية شاملة برعاية أممية تنهي المعاناة الإنسانية وتعيد الأمن والاستقرار والتنمية في اليمن، وبعد يوم واحد من وصول الوفد العماني لصنعاء، وصل وفد سعودي لصنعاء، ضمن جهود دبلوماسية جارية للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار مطول بين المملكة والحوثيين تمهيدا لإنهاء مرحلة الحرب الدائرة في اليمن.
ج. الوساطة الأُممية: على مدى 10 أيام، وفي 11 مارس 2023م، استضافت جنيف، برعاية من الأمم المتحدة ممثَّلة في المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ واللجنة الدولية للصليب الأحمر، مفاوضات بين الحكومة اليمنية والحوثيين؛ لعقد صفقة تبادُل الأسرى. وبانتهاء المفاوضات في العشرين من مارس 2023م، وقَّع الطرفان على اتفاق لتبادُل الأسرى، يتِم بموجبه تبادُل نحو 887 أسيرًا من الطرفين، حيث تفرج الحكومة اليمنية وقوات التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن عن 706 أسرى من الحوثيين، مقابل إفراج الحوثيين عن 181 أسيرًا تابعين للحكومة وقوات التحالف، كمرحلة أولى تتبعها مراحل لاحقة ضمن قاعدة «الكل مقابل الكل»، بحسب ما تداولته الأوساط الإعلامية العالمية.
2. التفاهمات والنتائج المترتِّبة على المساعي لتسوية الأزمة
أ. تجديد الهدنة لـ6 أشهر إضافية جديدة: أسفرت الجهود عن تداوُل الأوساط الإعلامية تقارير حول توقيع أطراف الصراع هدنةً جديدة لمدة 6 أشهر، تمهيدًا لبدء محادثات حول الدخول في فترة انتقالية لمدة عامين. وحسب الوسائط الإعلامية، تنص الهدنة على إعادة تصدير النفط، وصرف رواتب الموظَّفين، وفتح مطار صنعاء الدولي لوجهات دولية.
ب. الاستقبال الحوثي لوفد سعودي بصنعاء: ترتَّب على هذه الجهود أيضًا استقبال رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين في صنعاء مهدي المشّاط للوفدين السعودي والعُماني، ووثَّقت الصور المتداولة إعلاميًا لحظة تبادُل السلام بالعناق والمصافحة بين السفير السعودي في اليمن محمد آل جابر والقيادي الحوثي مهدي المشّاط، مع التقاط صور جماعية يتوسّطها السفير السعودي والقيادي الحوثي برفقة أعضاء الوفدين السعودي والعماني.
أثبتت المملكة مجدَّدًا مساعيها المستمرَّة للسلام، منذ أن قدَّمت مع الدول الخليجية المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية عام 2011م، مرورًا بمبادرة المملكة عام 2021م؛ لإنهاء الأزمة والتوصُّل لحل سياسي شامل، وصولًا إلى تقديم الدعم المالي الكبير والمتتالي لليمن، وآخره إيداع المملكة في فبراير 2023م لمبلغ مالي قدره مليار دولار في البنك المركزي اليمني، على خلاف ما روَّج له الحوثيون طيلة السنوات الماضية ضدّها.
ج. تنفيذ صفقة تبادُل الأسرى الموقَّعة فعليًا: تمَّ تنفيذ صفقة تبادُل الأسرى المتّفَق عليها بين أطراف الصراع، وتمَّ تبادُل الأسرى، وعددهم نحو 887 أسيرًا من الطرفين، بطيران تابع للجنة الصليب الأحمر، على مدى ثلاثة أيام متتالية 14 و15 و16 أبريل 2023م. ومن بين الأسرى المُطلَق سراحهم، وزير الدفاع اليمني الأسبق اللواء محمود الصبيحي، واللواء ناصر منصور هادي شقيق الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي، والصحافيون الأربعة التابعون لـ«الشرعية» والمُختطَفون منذ 2015م والمحكوم عليهم بالإعدام من جانب الحوثيين منذ عام 2020م بتُهم التجسس لصالح السعودية، وأبناء الفريق علي محسن عفاش، وشقيق نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي العميد طارق صالح، وعددٌ من أسرى التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن.
تتّسِم هذه الجهود العربية والدولية بالطابعين السياسي والإنساني، وتكتسب أهمِّيتها، مقارنةً بما سبقها من جهود لإحلال السلام في اليمن، لكونها تأتي بعد أسابيع قليلة من الاتفاق السعودي-الإيراني على عودة العلاقات الدبلوماسية، بما يوفِّر بيئة تهدئةً قد تكون مواتية لحلحلة بقية الملفات الخلافية، مثل قضية الرواتب، وقضية غلق الطرقات الرئيسية بين المحافظات الخاضعة للحوثيين والمحافظات الخاضعة للحكومة، وإعادة استخدام الموانئ والمطارات اليمنية، ودفع أجور الموظَّفين العموميين، وعملية إعادة الإعمار، تمهيدًا للجلوس على مائدة المفاوضات؛ لتسوية تخلق بيئةً مواتية لسلام مُستدام في اليمن.
وكذلك، تشكِّل نتائج المساعي المُشار إليها أعلاه، خطوةً مهمّة على طريق بناء الثقة بين أطراف الصراع، حيث أنَّ التزامهم بتنفيذ اتفاق تبادُل الأسرى يعكس رغبةً حقيقية في تعزيز وبناء الثقة المتبادلة الممزوجة برغبة أخرى في طي صفحة الماضي المرير، بل وقبول مسألة تأجيل القضايا الحساسة إلى مراحل لاحقة، مثل احتكار الدولة للسلاح، وسحب السلاح من يد الحوثيين، وشكل المعادلة السياسية الجديدة باليمن، وقضية الحراك الجنوبي، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ تلك المساعي لن تكون فعّالة في بناء دولة مستقرَّة على الأمد البعيد، من دون معالجة الأسباب الحقيقية وليست الظاهرية للصراع، التي تأتي في مقدِّمتها معالجة قضية المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي لا يخفي توجُّسه من أيّ تسوية لا تأخذ بعين الاعتبار مطالبه.
ثانيًا: اشتراطات الأطراف لتسوية الأزمة
كانت الأزمة اليمنية هي نقطة الخلاف الأساسية، التي عرقلت الجهود الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وما دام الطرفان قد توصّلا لاتفاق مصالحة، فلا بد أنَّ هناك اتفاق ما وضمانات أو تصوُّر لتسوية الأزمة في اليمن. ما لم يحدث تقدُّم في ملف اليمن، فلن يكتب النجاح للاتفاق السعودي-الإيراني. ومن ثمَّ، فإنَّ أول شروط المملكة، هو التزام الحوثيين بأيّ اتفاق، وعدم التراجع عنه كما حدث من قبل.
بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ السعودية لا تتوقَّف شروطها في اليمن على مجرد التهدئة ووقف هجمات الحوثيين، الذين كانت تستغلّهم إيران لتوجيه ضربات غير مباشرة لأراضي المملكة، ولا الحصول على ضمانات أمنية، بما في ذلك المنطقة العازلة، التي يسيطر عليها الحوثيون على طول الحدود اليمنية-السعودية. بل إنَّها تتطلَّع إلى تسوية ناجزة للازمة تضع حدًّا لعدم استقرار اليمن ككُل، وعملية سياسة شاملة، حيث يصبح لليمن حكومة وطنية موحَّدة تلبّي تطلُّعات اليمنيين، وتحقِّق مصلحة المملكة في تحقيق أمنها القومي. فشروط السعودية هي: تثبيت الهدنة ووقف إطلاق النار، ودعم عملية تبادُل الأسرى، واستكشاف آفاق الحوار بين المكوِّنات اليمنية للتوصُّل إلى حل سياسي مستدام وشامل في اليمن. ومضى الأطراف لمرحلة ما بعد الهدنة، التي نجحت المملكة من خلالها في وضع حد للتصعيد، ووضعت الأطراف على طريق حل الأزمة لصالح اليمن وصالح المملكة والمنطقة ككُل.
بالنسبة لإيران، فإنَّها تدرك أنَّ نجاح الاتفاق مع المملكة وإنهاء عزلتها الإقليمية مرتبط بلعب دور إيجابي في الملف اليمني. ما لم تحصل إيران على فوائد من الاتفاق، فيما يتعلَّق بتوجُّهات المملكة نحوها، وموقفها من القضايا الخلافية، بما في ذلك التصعيد السعودي في عدد من الملفات كالملف النووي، فضلًا عن التهدئة في ملفات أخرى ذات أهمِّية لإيران كالملف السوري، الذي يشهد تقدُّمًا بالتوازي مع الملف اليمني، فإنَّ إيران قد تعرقل التسوية في اليمن. كذلك فيما يخُص الحوثيين، فإيران لن تقبل بتهميشهم، وستظل حريصةً في أيّ تسوية على أن يحصلوا على نصيب من السلطة والثروة. هي لا تمانع من التهدئة ووقف التصعيد، فهذا شرط أساسي، لكنها ستظل تقدِّم الدعم للحوثيين، وستقبل بالتسوية التي لا تهِّمش دورَهم على الساحة اليمنية.
أمّا بالنسبة للحوثيين، فإنَّ لديهم شروطًا للمُضي قُدُمًا نحو التسوية، أبرزها الخروج بصياغة جديدة للعلاقة مع السعودية، لهذا اشترطت في المفاوضات الجارية توقيع المملكة على اتفاق تسوية طرف في الصراع وليس كوسيط. وكانت إيران وعُمان تضغطان على الحوثيين من أجل التراجع عن هذا المطلب، إضافةً إلى تطبيع العلاقات مع الحركة الحوثية من جانب دول المنطقة، فضلًا عن ترجمة مكتسباتها على الأرض في أيّ اتفاق؛ وبالتالي حصد نصيب مهم من السلطة في إطار التسوية والعملية السياسية المرتقبة، وكذلك الاستحواذ على نصيب من الموارد والثروة وكيفية توحيد البنك المركزي في البلاد، ووضع آلية لدفع رواتب جميع موظَّفي الدولة -بما في ذلك الجيش والعناصر العسكرية للحوثيين- من عائدات النفط والغاز، إلى جانب الاحتفاظ بقوتهم وسلاحهم وعدم المساس به في أيّ اتفاق، والرضا عن الآلية التي سيتِم بها دمج القوات، حيث لا تفقد الحركة احتكارها للسلاح. كما يتطلَّع الحوثيون إلى أيّ تسوية داخلية تمكِّنُهم من الحصول على تمثيل واسع في الحكومة الانتقالية، خاصةً الوزارات السيادية، هذا ناهيك عن اختبار بنود أيّ اتفاق، بما في ذلك رفع الحصار الجوِّي والبحري المفروض على بعض المناطق، ووصول المساعدات، وغيرها من الإجراءات المتّفَق عليها.
وبصفة عامّة، يمكن القول إنَّ تعقيدات الحرب تتطلَّب حلولًا حقيقية لجذور الصراع والتخلِّي عن الإقصاء والاستحواذ من قبل أيّ طرف كشرط أساسي للمُضي قُدُمًا في أيّ تسوية، لاسيّما أنَّ سنوات من الصراع أثبتت في الأخير عدم قدرة أيّ طرف على حسمه لصالحه.
ثالثًا: عوامل ومحفِّزات المساعي السياسية لحل الأزمة
بالتأكيد تقف عوامل ومحفِّزات عدّة خلف المساعي السياسية لأطراف حل الأزمة اليمنية، ووقف إدامتها؛ تطلُّعًا لسلام دائم على أراضيها، ويمكن حصرها فيما يلي:
1.المساعي إلى تقريب وجهات النظر بين المكوِّنات اليمنية السياسية والشعبية؛ فالمملكة العربية السعودية تتّبِع نهجًا ثابتًا لا يتغيَّر في سياستها الخارجية، قائم على جمع شتات الفرقاء، وإيقاف النزاعات في المنطقة، والنأي بالنفس عن الشؤون الداخلية للدول، وتقوية دعائم الأمن والاستقرار في دول المنطقة. وعند الحديث عن دول جارة وذات حدود مشتركة معها، كاليمن، نجد أنَّ السعودية سعت إلى إحلال الأمن والسِلْم والاستقرار في المجتمع والدولة في اليمن، من خلال توفير الأرضية المناسبة والملائمة لمكوِّناته السياسية المتنافرة وأطراف المجتمع اليمني المتقاتلة، والسعي إلى تقريب وجهات النظر بين الاطراف المتصارعة، عبر الحوار والتفاهم، حتى الوصول لاتفاق ينهي الأزمة باليمن، ويعيد حالة الأمن والسِلْم والاستقرار لشعبه.
2.ظروف إقليمية مواتية: بذلت المملكة جهودًا واضحة في سبيل أمن وسلام واستقرار الدولة اليمنية؛ بهدف تحقيق التنمية والتطوير والنهضة الشاملة في جميع الأراضي اليمنية، وكذلك من أجل أن ينعم الشعب اليمني بالأمان والرخاء والرفاه. ولا تعتبر المساعي الأخيرة للسعودية للتوسُّط بين الأطراف اليمنية هي الوحيدة،فمُنذ بدء الحراك الشعبي في يناير 2011م، بادرت المملكة بدعوة أبناء اليمن لحل الخلافات الداخلية على أُسس المصلحة اليمنية العليا، وتمثَّلت على أرض الواقع بالمبادرات السياسية والدبلوماسية، والدعم الاقتصادي والتنموي، والتمويل المادي والمالي، والدعم الإغاثي والإنساني، والتأييد الكامل للجهود الساعية لوحدة الصف اليمني، وإنهاء حالة الخلافات الداخلية بين المكوِّنات اليمنية.وعلى الرغم من أنَّ هذه الجهود ساهمت إلى حدٍّ كبير في تخفيف آلام ومعاناة الشعب اليمني، إلّا أنَّها لم تكُن كافيةً لإنهاء حالة النزاع الداخلي بين الأطراف اليمنية.
لذا؛ يأتي الدور المحوري السعودي الأخير في حل الأزمة اليمنية متّسِقًا مع متغيِّرات إقليمية ودولية قد تدفع جميع الأطراف للسير قُدُمًا، نحو إيجاد حل سياسي شامل لهذه الأزمة. يأتي من أبرزها، الظرف الإقليمي المواتي نحو السعي لتهدئة الأوضاع في دول المنطقة، وترجيح كفّة المصالح المشتركة في تهدئة وترتيب الشؤون الإقليمية، ونقل المنطقة من مرحلة التوتُّر إلى مرحلة التعاون والتنسيق، وإيقاف النزاعات والاقتتال الداخلي، والتركيز على تحقيق تطلُّعات شعوب المنطقة في مستقبل أفضل يعُم فيه الرخاء والازدهار والتكامل الاقتصادي. فالسعودية تنظر إلى تداعيات تأثير إدامة الأزمة اليمنية، وكذلك السورية واللبنانية، ضمن منظور أشمل يتماشى مع إستراتيجيتها العليا في تحقيق «رؤية 2030». أمّا بالنسبة لطهران، فتفرض عليها الضغوط الداخلية والخارجية نوعًا من محاولة إحداث تغييرات سياسية ضرورية لتفادي تفاقُم الأوضاع أكثر.
ومن أبرز مظاهر الظروف الإقليمية المواتية الدافعة نحو حل للأزمة اليمنية، الاتفاق بين السعودية وإيران، الذي أكَّد على احترام سيادة الدول، وعدم التدخُّل في شؤونها الداخلية، والاتفاق على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقَّعة بين البلدين في أبريل 2001م، والاتفاقية العامة للتعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب الموقَّعة في مايو 1998م، بالإضافة للتعبير عن حرص هذه الدول على بذل الجهود كافة لتعزيز السِلْم والأمن الإقليمي والدولي. لذا؛ يمكن اعتبار الحراك، الذي يشهده اليوم الملف اليمني، والتقدُّم الذي أحرزته المحادثات بين السعودية والأطراف اليمنية الفاعلة في الأزمة خلال الفترة الماضية هو نتيجة مباشرة للتطوُّرات الإقليمية، خاصةً عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران.
رابعًا: معوِّقات التسوية في اليمن
بقدر المحفِّزات السياسية، التي تدفع باتّجاه التسوية في اليمن، التي أشرنا إليها أعلاه، تقف تحدِّيات عديدة أمام مسار الحل السياسي، تتمثَّل فيما يلي:
1. تعنُّت الطرف الحوثي: تمدَّدَ الحوثيون كثيرًا في مفاصل الدولة خلال السنوات السابقة، وباتت لديهم مزايا سلطوية كبيرة، أبرزها العاصمة صنعاء، وسيكون من مقتضيات التسوية تقديمهم تنازلات سياسية مهمّة لصالح مؤسسات الدولة. وقد يجد الحوثيون في ذلك خسارةً لمكاسبهم، وسيعملون للمحافظة على أكبر قدر ممكن من المزايا، وهو ما يحول دون التوصُّل إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي الحرب في اليمن، خاصةً أنَّ أيّ مسار ديمقراطي وتوزيع مراكز القيادة والنفوذ، سيكون فيه الحوثيون هم الخاسر الأكبر لمحدودية قُدراتهم وإمكانياتهم الانتخابية، مقارنةً بالقوى السياسية الأخرى.
2. بروز تيّار متطرِّف داخل جماعة الحوثي: يبقى الحوثيون في النهاية جماعةً دينية تحمل ثقافةً سياسية، تتعارض في الكثير من ملامحها مع قِيَم وثقافة الدولة. وبحُكم هذه الخلفية الأيديولوجية، قد تبرز داخل الجماعة تيّارات تتمسَّك بأيديولوجيتها، وترفض التنازلات التي تقدِّمها قيادة الجماعة، وتعتبر تلك البراغماتية شكلًا من التخلِّي عن قِيَم ومبادئ الجماعة، ومن المُحتمَل أن تلجأ للأدوات العسكرية لعرقلة التسوية.
3. دور شركاء الحوثيين: أشارت تقارير إعلامية إلى أنَّ حالةً من الغضب الشديد تسود أوساط القيادات الحزبية من حزب «المؤتمر»؛ الشريكة صوريًا مع الحوثيين في سلطتهم الانقلابية، من جرّاء تهميش هذه القيادات، واستبعادها من حضور المشاورات، التي يقودها الوفدان السعودي والعُماني للتوصُّل إلى خريطة للسلام في البلاد. يمكن لهذه الأطراف عرقلة التوصل للتسوية بأدوات مختلفة، سواءً سياسية أو عسكرية.
4. البنية القبلية والمسلحة للمجتمع اليمني: هيمنة الثقافة القبلية وانتشار السلاح في المجتمع القبلي يسهِّل لكل الأطراف المناوئة للتسوية -سواءً كانت داخلية أو خارجية- توظيفَ مجموعات من مختلف الأطراف لمواجهات مسلَّحة تدفع نحو تأجيل التسوية السياسية، أو التراجع عنها.
5. الخلافات بين القيادات الحوثية: لا يزال الخلاف في التوجُّهات قائمًا بين القيادات الحوثية، حيث لا تتطابق رؤى رئيس ما يُسمَّى بالمجلس السياسي الأعلى للحوثيين؛ مهدي المشّاط، مع طروحات الرئيس السابق لما يُسمَّى باللجنة الثورية للحوثيين؛ محمد علي الحوثي، حول تفاصيل الاتفاق المتعلِّق بتسوية الأزمة اليمنية.
رابعًا: السيناريوهات المُحتمَلة لمآلات الأزمة اليمنية
بناءً على التطوُّرات الأخيرة، التي تشهدها الأزمة اليمنية والمساعي العربية والدولية لإنهائها والنتائج المترتِّبة عليها، نخلُص إلى السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: انخفاض حدّة الأزمة والدخول في مفاوضات تمهِّد لتسوية شاملة، لكن نجاح هذا السيناريو سيبقى مرهونًا بالرغبة الجادّة للأطراف المتصارعة في اليمن، خاصةً الحوثيين، واستعدادهم لتغليب مصلحة اليمن والحفاظ على وحدة أراضيه، وتقديم تنازلات تشجِّع جميع الأطراف على الدخول في مفاوضات جادة تنتهي بالتوصُّل إلى حل شامل يرضي الجميع ويتِم بموجبه تشكيل حكومة تشمل جميع الأطراف. يعزِّز هذا السيناريو الاتفاق السعودي-الإيراني، الذي يتوقَّع أن يوفِّر إطارًا إقليميًا لتسوية جميع الملفات الخلافية مع إيران، والتوجُّهات السعودية لخفض التصعيد مع الحوثيين وحلحلة الأزمة اليمنية، والزيارة التي قام بها الوفد السعودي إلى صنعاء، فضلًا عن إنجاح صفقة تبادُل الأسرى، إضافةً للأنباء التي تتحدَّث عن التوصُّل لتوافق مبدئي لهدنة تستمرّ لأشهر تتخلَّلها مفاوضات بشأن إنهاء الصراع، الذي تفَّجر في العام 2015.
السيناريو الثاني: استمرارية المشهد الحالي بسيطرة الحوثيين على صنعاء، مع استمرارية سيطرة الحكومة الشرعية على عدن واستمرار التدافع بين الطرفين، وذلك حال أخلت إيران والحوثيون بتعهُّداتهم تجاه تسوية الأزمة. هذا الوضع قد يدفع السعودية نحو معاودة دعمها للحكومة الشرعية؛ لأنَّ خروج المملكة من الساحة اليمنية، من شأنه أن يؤدِّي إلى انفراد الحوثيين بالمشهد في اليمن، وتمزُّق هذا البلد، وتفاقم أوضاعه وأزماته الأمنية والاقتصادية والسياسية.
السيناريو الثالث: فشل التوصُّل لتسوية؛ وبالتالي استمرار الصراع، وتحوُّله إلى حرب استنزاف طويلة بين الأطراف المتصارعة في اليمن، وحينها لن يتمكَّن أيّ طرف من حسم الحرب لصالحه. عوامل كثيرة قد تعزِّز هذا السيناريو، أهمّها أنَّ الصراع في اليمن أطرافه متعدِّدة ومتباينة ومصالحها متعارضة، كما أنَّ الحوثيين الذي تمدَّدوا كثيرًا خلال السنوات الماضية في مفاصل الدولة، قد يصرُّون على الخروج بأكبر قدر من المكاسب في أيّ مفاوضات مستقبلية، وهو ما سترفضه بقية الأطراف، علاوةً على تعقُّد قضية الحراك الجنوبي، هذا السيناريو في حال تحقُّقه من شأنه أن يؤدِّي إلى تقسيم اليمن وتمزيق وحدته.