الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا أربكت المشهد الجيوسياسي الأوروبي، لكنها أيضًا ألقت بتداعياتها على النظام الدولي وخلقت مواقف متباينة أمام هذه الأزمة، ومنها الموقف الخليجي الذي أظهر الحيادية أمام هذه الأزمة، والسؤال: لماذا كان السلوك السياسي الخليجي بهذا الشكل؟ وما مبررات هذا الموقف؟
تاريخيًّا، عُرِفَ عن المواقف الخليجية مواءمتها مع الشرعية الدولية والقانون الدولي، ومعارضتها لأي غزو مسلَّح للدول المعترف بها دوليًّا وانتهاك سيادتها. وهكذا كان الموقف الخليجي ولا يزال من الغزو الروسي لأوكرانيا. ورغم امتناع الإمارات، إلى جانب الصين والهند، عن التصويت على مشروع قرار أمريكي وألباني في مجلس الأمن يُدين الغزو الروسي لأوكرانيا ويطالب موسكو بسحب قوّاتها، فإنه يجب ألَّا يُفهَم منه أن الحيادية تعني القبول. لكن ربما أرادت دول مجلس التعاون إرسال رساله للغرب مفادها أن التوسع الجيوسياسي الروسي والإيراني ينتهك الشرعية الدولية، وأن الغرب كان يُفترَض أن ينظر إلى إيران بنفس المنظار الذي ينظر به إلى روسيا.
يبدو أن الموقف الغربي بدأ يأخذ مسارًا متوترًا في ما يتعلق بمواقف الدول الخليجية وبعض الدول العربية والإفريقية من روسيا، وهي بذلك عادت إلى قاعدة أمريكية عبَّر عنها بوضوحٍ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بقوله: «إن لم تكُن معنا فأنت ضدنا». وهذا موقف فيه بعض الانتهازية ويشكل ضغوطًا غير مبررة على دول العالم.
كثير من دول العالم كان يرجو من الغرب أنه كما وقف ضد روسيا أن يقوم بالشيء ذاته في قضايا العالم وأزماته، خصوصًا مشروع الحرب بالوكالة الإيراني.
فالمواقف الغربية من التوسع الإيراني لم تكُن يومًا مقنعة لدول المنطقة العربية، عبر الميليشيات الولائية التي تشكّل تهديدًا وجوديًّا لبعض الحكومات المركزية في المنطقة العربية، بل إنّ كثيرًا من شعوب المنطقة العربية يرى في الغرب داعمًا للسلوك الإيراني، أو مستهينًا به، أو على أقل تقدير يقلل من خطورته لأسباب كثيرة، من أبرزها الزعم بأن هذا التهديد بعيد جغرافيًّا عن الغرب ولا يستهدف مصالحها في الغالب، على الرغم من المناوشات والعلميات المحدودة هنا أو هناك.
دول الخليج العربية لا تريد الانخراط في الأزمة الروسية-الأوكرانية لعدة أسباب. إنّ تجارب الماضي البعيد والقريب على حدٍّ سواء قدمت إليها دروسًا كثيرة جعلتها تُعيد النظر كثيرًا في مواقفها السياسية، وتهتمّ في المقام الأول بمصالحها السياسية والاقتصادية والجيوسياسية، كما أن مكانتها الدولية ومصادرها الاقتصادية لا تسمح لها بالانحياز السياسي والاقتصادي لمعسكر ضد آخر.
من المعلوم أن دول الخليج مرتبطة اقتصاديًّا، وبخاصة في مجال الطاقة ومشتقاتها، بالشرق أكثر من الغرب، ولديها مصالح اقتصادية كبرى مع الصين على وجه الخصوص، وروسيا إلى حدٍّ ما، كما أنها لا ترغب في تسييس أسعار الطاقة على حساب مصالحها القومية والوطنية، خصوصًا أن الدول الخليجية، وبعد تبعات جائحة كورونا، محتاجة إلى تدفقات مالية لدعم ميزانياتها الوطنية ولمواصلة خُطَطِها التنموية.
في المقابل ترتبط هذه الدول بمصالح سياسية وعسكرية مع الغرب، ولا تنظر في القريب المنظور باتجاه فك الارتباط مع الغرب، سواء سياسيًّا أو ثقافيًّا أو اقتصاديًّا. وترى أيضًا أنها تستطيع أن تكون بعيدة عن هذه التكتلات التي لا تخدم مصالحها الوطنية إستراتيجيًّا. ربما أرادت دول مجلس التعاون الابتعاد عن الثنائية في نظام الأحلاف إلى تبنّي مجموعة تحالفات تحقق من خلالها توازن في عَلاقاتها مع جميع الدول، وَفْقَ مقاربات المكاسب المشتركة وتقاطع المصالح، وهو توجُّه يبدو أن دولًا كثيرة في العالم بدأت تنتهجه في إطار تشكل نظام دولي متعدّد الاقطاب.
شعبيًّا، لدى شعوب المنطقة استياء واضح حيال الانسحاب الغربي، حتى وإن كان رمزيًّا، من المنطقة العربية والشرق الأوسط بشكل عامّ، وترك فراغ واضح لا بد من مَلْئِه بقوى كبرى، لا سيّما في ظل الأزمات والحروب والتهديدات المتواصلة من قِبل إيران تجاه المنطقة. يقول العرب في أمثالهم: «الصديق وقت الضيق»، وإذا تخلَّى عنك حين الحاجة إليه فليس صديقًا، والأسوأ إذا لم يتعلَّم ذلك الصديق من أخطائه ولم يتراجع عنها، سواء في الاتفاق النووي بين مجموعة «٥+١» وإيران، أو في سحب مُعَدّات عسكرية في وقت الحاجة الماسة إليها.
يشعر الغرب بالخطر في الوقت الراهن، و«إدراك الخطر» (threat perception) قد يختلف في ظل الأزمة الأوكرانية، وهذا يفترض أن يقود تلقائيًّا إلى استيعاب ما تتحدث عنه دول المنطقة في ما يتعلق بالخطر الإيراني. وإذا ما وضعت هذه الدول نفسها حاليًّا في موقف دول الخليج بشكلٍ خاصّ، ودول المنطقة بشكلٍ عامّ، فستجد أنها أساءت فَهْم «إدراك الخطر» في المنطقة العربية مقابل إيران.
فهل الغرب بات مستعدًّا لتصحيح أخطاء الماضي، ووضع أزمات العالم وانتهاك الأعراف الدولية على مسطرة واحدة، دون اللجوء إلى مبررات يغيب عنها المنطق السياسي والمقاربات العادلة والمنصفة؟ أرجو ذلك.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد