بعد انسحابه المفاجئ من قمَّة السبع مبكِّرًا، توجَّه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض، ودعا مجلس الأمن القومي للانعقاد، لمناقشة الأوضاع الحاصلة في الشرق الأوسط، وبحَثَ إمكانيات التدخُّل في حرب إيران وإسرائيل، أو التوصُّل لتسوية بين البلدين. وقد حاول البيت الأبيض وعناصر من الإدارة الأمريكية التخفيف من حدَّة خطاب ترامب، بعد طلبه على منصَّته «تروث سوشيال» إخلاء مدينة طهران فورًا، بالتأكيد على أنَّ الولايات المتحدة لن تتدخَّل في الحرب، وأنَّها ملتزمة بموقفها الدفاعي في الشرق الأوسط، وليست بصدد التدخُّل، وفي حين كانت تُشير كل هذه التطوُّرات إلى أن التدخُّل الأمريكي في الحرب أصبح وشيكًا، عاد ترامب وصرح بأنه يتوقع «استسلامًا كاملاً» من إيران، وقد يرسل نائب الرئيس فانس أو مبعوث الشرق الأوسط ويتكوف للتفاوض، هذه التطوُّرات تُثير التساؤل الأكثر إلحاحًا خلال الفترة الأخيرة، وهو: هل ستدخَّل الولايات المتحدة عسكريًا، ومتى يمكن أن يحدث ذلك؟
بدايةً، وعلى الرغم من نأي واشنطن بنفسها في بداية الحرب عن المشاركة المباشرة، والتأكيد على ذلك، لكن في الحقيقة المعركة هي معركة واشنطن بالأساس. جاءت الحرب على خلفية فشل المفاوضات مع إيران، وعدم القُدرة على إقناعها على طاولة المفاوضات بالتخلِّي عن تخصيب اليورانيوم على أراضيها، ورُبَّما هذه الحرب هي معركة ترامب شخصيًا، الذي لديه موقف صارم من إيران منذ ولايته الأولى، ومن ثمَّ فإن المؤكَّد أنَّ واشنطن طرف أصيل في الحرب، حتى وإن لم تظهر بعد للعلن، ومن ثمَّ فإنَّ تدخُّلها المباشر على خط المواجهة مع إيران وارد إلى حدٍّ بعيد، ما لم تستلم إيران لشروط ترامب.
هناك العديد من العوامل، التي قد تدفع واشنطن للانتقال من المشاركة غير المباشرة إلى التدخُّل المباشر؛ فبدايةً طلَبَ نتنياهو من الولايات المتحدة مساعدة من القوّات الأمريكية لإزالة البرنامج النووي الإيراني، حيث لم تستطع القوّات الإسرائيلية فعْل ذلك بمفردها. ونظرًا لأنَّ إيران لا تزال تتمسَّك بعدم التفاوض دون وقْف الحرب، فإنَّ واشنطن قد تضطرّ إلى التدخُّل؛ لأنَّ وقْف الحرب دون الوصول لنتيجة حاسمة بالنسبة لواشنطن غير وارد.
من جهة ثانية، لا تزال واشنطن ملتزمة بأمن إسرائيل. وقد أدَّت هجمات إيران المكثَّفة واختراق الصواريخ الإيرانية للأراضي الإسرائيلية، واستهداف مواقع إستراتيجية ومواقع مدنية، إلى بدء سقوط عدد من القتلى في إسرائيل بالإضافة لمئات الجرحى، وتخشى إسرائيل من طول أمد المعركة، وتكبُّدها مزيد من الخسائر المادِّية والبشرية، مع نجاح إيران في خلْق قُدرة على الردع والتوازن؛ لذا لا يمكن أن تشاهد واشنطن حليفتها تتعرَّض لأزمة وتهديد حيوي على هذا النحو دون أن تتدخَّل.
من جهة أخرى، فإنَّ واشنطن تمتلك القُدرة على التأثير، فالقوّات الأمريكية في المنطقة تبدو على أهبّة الاستعداد، وهي مستعدة للتدخُّل، فبجانب القُدرات الدفاعية كمنظومة «ثاد»، التي تمَّ نشرها في إسرائيل، عزَّزت واشنطن قوّاتها بتحريك عدد كبير من طائرات التزوُّد بالوقود الأمريكية إلى أوروبا، إضافة إلى نشْر حاملة طائرات أميركية ثانية في الشرق الأوسط. ويُتوقَّع إرسال سُفُن بحرية إضافية مزوَّدة بأنظمة دفاع صاروخي إلى شرق البحر المتوسِّط، كما أرسلت واشنطن قاذفات «بي 52» إلى جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، استعدادًا للتدخُّل وتدمير منشأة فوردو النووية. وأخيرًا، صرَّحت وزارة الدفاع بأنَّ البنتاغون قد أعدَّ للرئيس خيارات للتعامل مع إيران، في ظل فشل الدبلوماسية.
مع ذلك، فإنَّ هناك عدد من التحدِّيات والحسابات، التي قد تعرقل تدخُّل ترامب في الحرب، من أهمِّها ميول ترامب الشخصية ورفضه لإقحام الولايات المتحدة في أيّ حروب جديدة، وقناعاته التي عبَّر عنها بجملته المشهورة «صفر حروب»، التي كانت أشبه بالكلمة المفتاحية في مناظراته في الانتخابات الأخيرة قبل فوزه بالرئاسة؛ ما يعكس توجُّه ترامب وتفضيلاته للدبلوماسية والمفاوضات، عن الدخول في صراع عسكري مُكلِف يصرف نظره عن غاياته الأساسية.
بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ ترامب حريص على تجنُّب دفْع تكلفة هذه المعركة، لا سيّما في ظل الحرب التجارية، التي يخوضها مع الصين والقُوى الدولية الأخرى، ورغبته في استعادة مكانة الولايات المتحدة على الصعيد العالمي، فضلًا عن المعارضة الداخلية، وموقف بعض أعضاء الكونغرس المناهض للحرب. وهُنا يُشار إلى تقديم عدد من الأعضاء مُقترَحًا يمنع ترامب دون الذهاب إلى الحرب مع إيران دون موافقة الكونغرس، في إجراء يهدف للحدِّ من قُدرة ترامب على شنِّ الحرب. كذلك، جزء كبير من قاعدته الانتخابية وحلفائه من أنصار «أمريكا أولًا» يرون أنَّ على أمريكا ألّا تخوض حربًا تورِّطها فيها إسرائيل.
إضافة إلى ذلك، فإنَّ واشنطن غير مستعدَّة لتحمُّل المخاطر، التي قد تترتَّب على التدخُّل، سواءً التداعيات الاقتصادية على الداخل الأمريكي، أو التداعيات الإقليمية والعالمية، بما في ذلك التأثير المُحتمَل على حركة التجارة، حيث قد تندفع إيران إلى غلْق مضيق هرمز للانتقال إلى وضْعٍ دفاعي متقدِّم، أو رُبَّما تّتِجه إيران إلى التأثير على صادرات النفط من دول المنطقة، وكذلك تعريض الأُصول العسكرية والقواعد الأمريكية في المنطقة للهجمات، التي قد تشنّها إيران أو حلفائها، وأيضا تخشى واشنطن سيناريو الفوضى، على غرار ما جرى في العراق، وصناعة تحدِّيات أمنية بيدها قد تعرقل مصالحها في المستقبل.
وفي الأخير، يمكن القول، إنَّ كل المسارات التي تستند إلى القوَّة أو إلى الدبلوماسية معلَّقة بانتظار قرار ترامب، وهو يمتلك خيارات متعدِّدة، حيث إنَّ الساحة ممهَّدة له من أجل تدخُّلٍ عسكري حاسم، لا شكّ سيُدخِل البرنامج النووي الإيراني في نفقٍ مظلم، ورُبَّما يتم تعطيله لسنوات. كما أنَّ لديه فُرصة أيضًا من أجل تضييق الخناق على النظام بصورة غير مسبوقة، ورُبَّما إسقاطه أو القضاء على رأسه، كما هدَّد، وكذلك لديه فُرصة من أجل تحريك المياه الدبلوماسية الراكدة، وتسوية الخلافات عبر الحوار، مع تحقيق نتائج مهمَّة فيما يتعلَّق بالبرنامج النووي، وهو القضية الحيوية لواشنطن، ورُبَّما قيود أخرى على البرنامج الصاروخي. ومع ذلك، وعلى الرغم من خيارات ترامب والبدائل المتعدِّدة أمامه وتفضيله لتسوية تخضع فيها إيران لشروطه، لكن إيران في الواقع هي من ستضطرّ ترامب إلى أيٍّ من هذه الخيارات.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد