تاريخيًّا، تُعَد إيران هي الآخر للذات العراقية، فقد مكَّنها موقعها الجغرافي على الحدود مع بلاد فارس من جانب، والأمة التركية من جانبٍ آخر من تمثيل التّماس العربي المباشر مع تلك الدولتين أكثر من أيّ دولةٍ عربيةٍ أخرى. ولقد كانت العراق أولى المحطات المستهدفة في مشروع إيران الخمينية التوسعي الخارجي، مِمَّا قاد إلى حربٍ طاحنةٍ بين البلدين استمرَّت لمدة ثماني سنوات (1980-1988م)، دون تحقيق أيّ مكاسب حقيقية لكلا الطرفين، وبعد رفضٍ مستمرٍ من إيران للوساطات الإقليمية، ومن بينها مبادرةٌ سعودية، لإنهاء الحرب، اضطرَّ الخميني إلى ما أسماه تجرّع كأس السُم وتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار بين البلدين وإنهاء الحرب؛ وبذلك أيقنت القيادة الإيرانية باستحالة تحقيق مشروعها التوسعي عبر جيشها النظامي والاحتلال المباشر للدول والتخلِّي أيضًا عن مقولة «أنَّ الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء»، وتحوَّل العراق إلى مصدَّةٍ حقيقية في وجه الأطماع الإيرانية.
لكن ما لم يحققهُ الجيش الإيراني والحرس الثوري طيلة تلك السنوات قام به الجيش الأمريكي في عام 2003م، من خلال عملٍ عسكري أسقط النظام الحاكم في العراق وهدم كلَّ مؤسَّسات الدولة بشكلٍ كامل، وهي خطوة غيَّرت خارطة المنطقة، وتمَّ على أثر ذلك تسليم العراق على طبقٍ من فضة لإيران.
إنَّ التجربة العراقية المباشرة مع إيران بعد 2003م، وبسبب تدخلات إيران الواضحة والجلية في كلّ تفاصيل الشأن الداخلي العراقي، سياسيًّا، واقتصاديًّا، وتجاريًّا وأمنيًّا وفكريًّا، وعسكريًّا، خلق جيلًا جديدًا من الشباب العراقي الناقِم على الدور السلبي الإيراني في الداخل العراقي، وأصبحت مدنٌ كثيرة من بينها النجف وكربلاء والبصرة، وجميعها مدنٌ ذات أغلبية شيعية، تقودُ الحراك الشعبي الشبابي ضدَّ الوجود الإيراني في البلاد، ولهذا شهدنا عمليات استهدافٍ للبعثات الدبلوماسية الإيرانية، وحرق العلم الإيراني، ورفع شعارات “«إيران.. برا برا» وغيرها.
لقد فشل النظام الإيراني في احتواء العراق بالقوة الناعمة واعتمد بشكلٍ كُلّي على القوة الصلبة المتمثِّلة في الميليشيات وخلايا الاغتيال والمجموعات الطائفية المؤدلجة أو ما يُعرف في العراق بـ «الفصائل الولائية»، ولقد وصل الأمر في مناطق مثل النجف إلى استياء الشباب الشيعي من إيران إلى درجة أنه إذا أراد أحدهُم شتم الآخر نعتهُ بـ «الإيراني». إنَّ الدور السلبي المكشوف لإيران في العراق، إلى جانب حاجز الثقافة واللغة، والأهم عاملُ التاريخ الذي يمضي في عروق الشباب العراقي تقفُ سدًا منيعًا دون تدجين هذا الجيل العراقي.
من هُنا، يمكننا فهم خسارة الأحزاب والفصائل والميليشيات العراقية التي تفتخر بارتباطها بإيران وتدافع عن الوجود الإيراني في العراق، في الانتخابات النيابية الأخيرة هناك، رغم كلّ الضغوطات التي مارسها الحرس الثوري والسفير الإيراني في العراق إيرج مسجدي ورئيس مجلس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي وغيرهم من أجل الضغط على الحكومة الراهنة أو لجنة مراقبة الانتخابات.
لقد أوضح حراكُ تشرين الذي انطلق قبل نحو عامين على يد شبابٍ عراقيّ وطني يُريد حصولَ وطنه على استقلالٍ كامل، والاهتمام بالمصالح الوطنية أولًا وأخيرًا، ومحاربة الفساد الإداري والمالي والبيروقراطية وتجاهل المطالب الشبابية الداعية إلى خلق الوظائف وتحسين المستوى المعيشي وإنهاء ظاهرة السلاح المنفلت الذي يستهدف كلَّ معارضٍ للميليشيات أو الطائفية أو منتقد لإيران وسلوكها. وعلى الرغم من عمليات البطش التي نالت أولئك الشباب المسالمين من قتلٍ وتعذيبٍ واختطافٍ وتشريد، لا تزال شعلةُ هذا الحراك متّقدةً وتنتظرُ من الحكومة القادمة تحقيقَ مطالبهم الوطنية، وإذا ما تمَّ تجاهل ذلك فليس من المستبعد عودة الاحتجاجات الشعبية وبزخمٍ أكبر وأوسع في هذه المرة مع رفع سقف المطالب إلى الثورة ضدّ النظام السياسي بأكمله، وهذا ما لا تُريد إيران وأتباعها في العراق التفكير فيه مطلقًا.
يبدو أنَّ قطار التخلُّص من الهيمنة الإيرانية في العراق قد انطلق دون توقف، وقد تكون مهمَّة إيران في إيقافه شبه مستحيلة، ولا سيَّما وأنَّ حالة التذمر من إيران لم تعُد محصورةً في العراق بل امتدت إلى الشارع اللبناني الذي يسعى إلى التخلُّص من هيمنة حزب الله على البلاد وتعطيل الدولة والعمل لمصالح إيران أوّلًا وأخيرًا، وإذا ما استمرَّت هذه الموجة فليس من المستبعد أن تنتقل إلى الشباب اليمني في صنعاء وتعز وصعدة للتحرُّك ضدَّ ميليشيا أنصار الله الحوثية المرتبطة بإيران.
إنَّ انهيارَ الهيمنة الإيرانية في العراق ولبنان واليمن سيكون من الداخل، وعلى دول المنطقة والعالم التركيزُ على ضرورة حماية أولئك الشباب الذين يسعون إلى تحقيق سيادة الوطن ومصالحه، وليس الخارج.
المصدر: arabnews
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد