شهد العقد الأخير، حضورًا مكثفًا للملف الإيراني في دراسات وأبحاث الشرق الأوسط، وتصدَّر مختلف الأدبيات السياسية والأمنية، إلى درجة أن قوة حضوره ومستوى انتشاره في القضايا الإقليمية فاق كل اهتمام، بما في ذلك ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وهو ما يُفَسَّر مرحليًا بالتكلفة الكبيرة التي بات يفرضها الطرف الإيراني على مختلف دول المنطقة، جرَّاء ضلوعه في مختلف بؤر التوتر وتهديده للمصالح القومية العربية، وحركة الملاحة الدولية في المنطقة، وأمن واستقرار الدول والمجتمعات. استدعى ذلك بالنسبة للدول العربية أكثر من أي وقتٍ مضى، حتميةَ التفكير الجدي والفِعلي لمواجهة التهديد الإيراني المتنامي في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، فالخطر الإيراني يتعاظم، وسياساته التوسعية تسجل تناميًا على أكثر من جبهة، كما أن منطق تقاطع المصالح خلق توازناتٍ دوليةٍ جديدة ومُقلقة.
فعلى الرغم من توفّر أرضية العمل والتعاون العربي، ممثلةً في جامعة الدول العربية، والتي يُفترض أن تكون مدخلًا لمِظلة الأمن القومي العربي، غير أنها بقيت عاجزةً عن مواجهة التهديدات ومسايرة التحديات، كما أن المظلات الصغرى ممثلةً في المجالس الجهوية، والاتحادات الإقليمية بقيت بعيدةً عن حجم الخطر الإيراني المُحدق.
وهنا ظهرت محاولات ومبادرات عدة لتأسيس آليات جديدة أكثر فاعلية للحدِّ من الخطر والتهديد الإيراني، وعليه تهدفُ هذه الدراسة لرصد المبادرات والترتيبات الأمنية الرامية إلى مواجهة هذا الخطر الذي تصاعدَ بحدة خلال العقد الأخير، ولا سيما بعد ثورات ما يسمى بـ «الربيع العربي»، وبعد توقيع إيران الاتفاقَ النووي مع القوى الغربية في عام 2015م، مع محاولة تقييم هذه المبادرات، وبحث المراحل التي تقفُ عندها وفاعليتها في مواجهة التهديدات الإيرانية.
ويُمكن بحث إشكاليةِ الدراسة من خلال العناصر الآتية:
أولًا: المقاربة الإيرانية للأمن في منطقة الخليج العربي
ثانيًا: خطورة المقاربة الإيرانية على أمن منطقة الخليج العربي
ثالثًا: إخفاق الأُطر الأمنية التقليدية ومنظومة الأمن القومي العربي
رابعًا: المقاربات الإقليمية البديلة لمواجهة خطر إيران
خامسًا: المقاربات الأمنية ذات الطابع الدولي لمواجهة خطر إيران
سادسًا: تقييم المبادرات الأمنية الجديدة في منطقة الخليج العربي
أولًا: المقاربة الإيرانية للأمن في منطقة الخليج العربي
طَرَح الرئيس روحاني مبادرةَ هُرمز للسلام أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2019م، وتصرُّ طهران على أن هذه المبادرة كفيلة بأمن واستقرار المنطقة في الوقت الذي تُشكِّل فيه إيران أكبر معضلة أمنية تواجه الإقليم، وبقراءةٍ موضوعية للمنظور الإيراني للأمن في المنطقة، ولما طُرِح في هذه المبادرة، يُمكن تلخيص محاور هذه المقاربة في العناصر الآتية([1]):
- إنشاء نظام إقليمي أمني جديد، تكون فيه إيران محوره وقاعدته المركزية.
- الإقرارُ من قِبل دول المنطقة بالنفوذ السياسي والعسكري الإيراني.
- تصفية منطقة الخليج من أي تواجدٍ عسكري أجنبي، وترحيل كل القواعد العسكرية والأساطيل البحرية من الخليج العربي ومن على تخوم إيران.
- كبحُ ميزانيات التسلُّح في المنطقة، لسدِّ الفجوة التسليحية بين إيران ودول الخليج.
- الاعتراف بحق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية التي تسمح لها بالتفوق النسبي، وبلوغ مستوى الردع النووي الذي يعتبر هدفَ الأمن القومي الإيراني.
- الاستقرار الأمني في منطقة الخليج حسب المقاربة الإيرانية هو مسؤوليةٌ إقليميةٌ صِرفة، تقعُ على عاتق دول المنطقة وحدها دون حاجةٍ إلى التدخل الخارجي الذي يُعتبر حسب المقاربة ذاتها أحد مُهددات الأمن الإقليمي.
تُحيل القراءة الموضوعية للمقاربة الأمنية الإيرانية مباشرةً إلى مسعى تحقيق الدولة الإسلامية العالمية في مرحلتها الأولى، كما أن المقاربة في أساسها تهديدٌ لأمن الخليج والشرق الأوسط أكثر من كونها ضمانةً للاستقرار والتنمية في المنطقة، حيث إن المقاربة ترمي في الأساس إلى تحقيق الأهداف الرئيسية الآتية:
1. إحباط الجهود السعودية لترتيب الوضع الأمني في المنطقة
إذ تدرك إيران جيدًا أن السعودية تمثِّل صمام الأمان في المنطقة، وضابطَ الإيقاع في العلاقات والمبادرات والتحالفات العسكرية، وانطلاقًا من ذلك تسعى إيران لتطوير علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع بعض دول الخليج كسلطنة عُمان والكويت وقطر؛ بهدف إحداث شرخٍ بين دول المنطقة يتسعُ مع السنين، ويكون كفيلًا بنسف كل المبادرات الرامية إلى عزل إيران ومحاصرتها إقليميًا، والحدِّ من نزعتها التوسعية في المنطقة.
2. كسر العزلة الإقليمية المفروضة على إيران
إن أكبر هاجسٍ أصبحَ يؤرِّق صانع القرار الإيراني هو استمرار الحصار الدولي، حيث يهدد هذا الوضع استقرارَ النظام السياسي ويرهن السِلم الاجتماعي الذي يُعتبر أحد ركائز البقاء، خاصةً وأن موجةَ الثورات والحركات الشعبية والطلابية أخذت تتزايد وتتصاعد بشكلٍ مقلقٍ لصنَّاع القرار في إيران.
3. ترسيخ وتعزيز التواجد الإيراني في الخليج والشرق الأوسط
وذلك من خلال أخذ صكِّ الاعتراف والإقرار الرسمي والعلني من قِبل دول الخليج بالنفوذ العسكري والسياسي الإيراني، وهو ما مِن شأنه أن يجرَّ المنطقة إلى إعادة صياغةٍ ديمغرافيةٍ جذرية، تُدخِل المنطقة في دوامةٍ من الصِراع الإثنِي والهوياتِي، لأن مسألةَ الإقرار في هذه الدول ليست مسألةً سياسيةً أو دبلوماسية، وإنما هي مسألةٌ اجتماعيةٌ وهوياتية، سرعان ما تتضح خيوطها بمجرد توقف إيران عن التدخل في شؤون هذه الدول.
4. المناورة ومحاولة إعادة بناء الثِقة
تتبنى إيران خطابًا سياسيًا دوليًا في المرحلة الأخيرة يدعو إلى تعزيز الثقة بين أطراف النظام الإقليمي الخليجي، وضرورةِ بعث الحوار الخليجي بين الأطراف وجبرِ الشقاق، وأهم تِلك المبادرات مبادرةُ هُرمز للسلام في 2019م، إلا أن المبادرات كلها كانت سعيًا لطرح إيران كجزءٍ رئيسٍ في المعادلة الإقليمية، وتأكيد دورها المحوري لفرض مشورتها في ملفاتٍ إقليميةٍ حساسة (لبنان، اليمن، سوريا، العراق، القضية الفلسطينية، التواجُد الأمريكي…)، وهي مناورةٌ حاسمة من قِبل النظام الإيراني في خطوةٍ تستهدِف مركز ومكانة السعودية، للدَّفع بها نحو وضعِ الشريك غير المؤثر في نظامٍ أمنيٍ جديد([2]).
5. إنهاء التواجد العسكري الأمريكي في الخليج
تضع إيران نفسها في تناقضٍ غير مبرر حين تؤكد في مبادرتها الأمنية، وتصريحات خارجيتها بشأن الأمن في الخليج على ضرورةِ تصفية المنطقة من التواجد العسكري الأمريكي، وتركِّز إيران على تصفية هذا الوجود في العراق ومياه الخليج، حتى تُفسح المجال أمام طموحاتها في تعزيز مكانتها الإقليمية، وفي حين تُعزز إيران علاقاتها العسكرية والأمنية مع حليفها الروسي، وتسعى لتمكينه من أجوائها في سبيل إنقاذ النظام السوري، نجدها تنتقد التعاونَ والتنسيقَ الأمني الخليجي – الأمريكي، في حين قبلت هي أن تكون أداةً لخدمة الإستراتيجية الروسية في المنطقة، وسمحت للطائرات الروسية باستخدام مجالها الجوي لقصف مواقع في سوريا.
لقد مكَّن الموقع الإستراتيجي لإيران من زيادة حدة تهديدها لمنظومة الأمن بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فالإستراتيجية الإيرانية في بُعدها الخارجي تُراهن على القوة الناعمة من خلال استهداف الشعوب بدلًا من الحكومات، في منحى جديد يتجاوز الأُطر التقليدية لاستخدام القوة في العلاقات الدولية، ويتجلَّى ذلك بوضوح في عددٍ من الدول تشمل دولَ الخليج، وباكستان، والهند، والعراق، وسوريا، واليمن، ولبنان، والجزائر، والسودان..، في الوقت الذي لم تستغنِ فيه إيران عن إستراتيجية القوة الصلبة في تفاعلاتها الإقليمية والدولية من خلال المُضي في البرنامج النووي، وزيادة القدرات العسكرية، والحشد الشعبي، والدعم العسكري واللوجستي لحزب الله في لبنان، والشيعة في العراق، والحوثيين في اليمن، ونظام الأسد في سوريا.
ثانيًا: خطورة المقاربة الإيرانية على أمن منطقة الخليج العربي
ما تقوم به إيران في المنطقة يُناقض كافةَ تصريحاتها عن الأمن والاستقرار الإقليمي، ومقاربتها الأمنية ذاتها تتمثَّل فيها التهديدات والمخاطر التي تقوم بها، فإيران بسياساتها العِدائية وسلوكها الاستفزازي أصبحت خطرًا وتهديدًا قائمًا على نظام الأمن الخليجي، وعلى أمن الشرق الأوسط برمَّتِه، ويمكن تحديد أهم صور التهديدات الإيرانية للأمن الإقليمي على النحو الآتي:
1. النزعة العسكرية التوسعية
تقوم العقيدة العسكرية الإيرانية على نزعةِ الاستعلاء العسكري والتفوق الإستراتيجي الإقليمي، حيث تعتبرُ إيران نفسها القوةَ الإقليمية الكبرى، بل والمهيمنة في الخليج العربي، وهو ما يفسرُ المناورات التدريبات والاستعراضات العسكرية المتكررة في مياه الخليج، والتي تُعدُّ بمثابة رسائل تهديدٍ صريحة ومقصودة إلى دول المنطقة، خاصةً وأن هذه التدريبات والمناورات عادةً ما تتضمن استعراضَ منظوماتٍ صاروخية من الطرازات قصيرة المدى، في تهديدٍ واضحٍ كذلك لعواصمِ دول الخليج ومصالحها الحيوية بالمنطقة.
لقد كان الخطر العسكري الإيراني قائمًا بقوة حتى قبل ثورة 1979م، حيث كانت أطماع الشاه محمد رضا بهلوي واضحةً للتوسّع في المنطقة العربية، وهو ما يفسرُ الاحتلال الإيراني للجُزر الإماراتية طنب الكبرى، وطنب الصغرى، التابعتين لإمارة رأس الخيمة، وجزيرة أبو موسى التابعةِ لإمارة الشارقة، فالتوجهُ القومي التوسعي الذي تبنَّاه نظام الشاه قد استمر بنفس الحدّة والإصرار في نظام الثورة الإسلامية، وإن كان بثوبٍ جديد، حيث تصرُّ النُخب الحاكمة الإيرانية المتعاقبة على توظيفٍ مقصودٍ ومركز لمتغيرَي التاريخ والجغرافيا في الخطاب السياسي، كما يعمدُ الحُكّام الإيرانيون إلى استحضار أحداث الحرب العراقية – الإيرانية بشكلٍ ممنهج حتى تظل عالقةً بالأذهان([3])، وتهندس لوعيٍ قومي يُبرر للحكومة تدخلاتها المستمرة والمتكررة في شؤون دول الجوار، بذريعةِ استباق الهجوم وتدمير الخطر من مصدره، ويُبرر في الآن ذاته الميزانية الضخمة التي أصبحت عبئًا على مقدرات الدولة من خلال دعمها للجماعات والميليشيات والحكومات الحليفة، وفي السياق ذاته يصرُّ المسؤولون الإيرانيون في تصريحاتهم على أن تدخلهم المباشر في سوريا واليمن يُعتبر دفاعًا عن حدود إيران([4]).
لم تكن الجزر الإماراتية الحالةَ الوحيدة التي كشفت النزعةَ التوسعية الإيرانية وخطرَها العسكري الجسيم على المنطقة، فهي لا تزال تُردد مقولة أن البحرين جزءٌ من الدولة الإيرانية، وأنها حتى 1970م كانت المحافظة الرابعة عشر لإيران، لهذا شجعت إيران على تمرد الشيعة ضد السُلطة في الأحداث التي شهدتها البحرين عام 2011م، وهو ما نددت به الدولُ العربية بشدة، إذ اعتبرت الأمر تعديًا صارخًا على دولةٍ مستقلة ذات سيادة، وأن إيران تنطلق في ادعاءاتها من تزييفٍ واضحٍ ومقصود للحقائق التاريخية، الأمر الذي يتنافى جذريًا مع خطابات الرغبة في تعزيز الثقة وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة([5]).
لقد أدت شراسة النزعة التوسعية الإيرانية في المنطقة إلى تعدُدِ جبهات وملفات النزاعات الإقليمية، فلا يزال ملف ترسيم الحدود العراقية – الإيرانية عالقًا، لا سيما في جزئه المتعلق بشط العرب، ولا يزال النزاع كذلك قائمًا حول حقل الدرة النفطي منذ ستينيات القرن العشرين، والذي يقع الجزءُ الأكبر منه على الحدود السعودية-الكويتية، والذي تجدد النزاعُ حوله في عام 2015م.
إن مكمَن الخطر في العقيدة العسكرية الإيرانية هو أنها باتت تتصرف بمنطق الدولة الإمبراطورية، وهو ما صرَّح به علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني في مارس 2015م قائلًا إن «إيران أصبحت إمبراطوريةً كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليًا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا، وهو بيتنا اليوم كما في الماضي…»، فسعي إيران لاستعادة أمجادها الإمبراطورية الفارسية الساسانية دفعها لإعادة مفهوم أمنها القومي انطلاقًا من الخليج ليصل إلى البحر الأحمر والبحر المتوسط، عبر السيطرة على أربع عواصم عربية هي: بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء([6]).
لم يقتصر الخطر العسكري الإيراني على النزعة التوسعية والمطالبات اللا مشروعة بأقاليم وحقول نفطية عربية، بل تعداه إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير من خلال اعتماد إستراتيجية تجنيد الميليشيات العسكرية وإمدادها بمختلف الأسلحة النوعية والصواريخ، ما سيضر باستقرار وأمن منطقة الشرق الأوسط برمَّته، إذ أشار تقرير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات أن طهران تُنفق سنويًا أكثر من 16 مليار دولار لدعم الأنظمة والميليشيات الموالية لها، ويحصل النظام السوري على النصيب الأكبر من ذلك([7])، كما أكد خبراءٌ دوليون في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أن إيران تنفق ما يقارب المليار دولار سنويًا لدعم الإرهاب في الشرق الأوسط([8]).
2. إثارة النعرات المذهبية وتهديد أمن المجتمعات في دول الجوار
لا يقل التهديد الاجتماعي أهميةً عن التهديد العسكري، لأنه يمس بكيان وحاضر ومستقبل الشعوب العربية، بما يشكِّله من خطرٍ على التجانس الاجتماعي وعلى منظومة الأفكار والقيم، فالخطر العسكري على جسامته وأهميته يمكن احتواؤه أو تخفيف حدِّته بمبادرةٍ أمنية مُحكمة، أما الأمن الاجتماعي فيصعُب تدارُكه إن استحكم بدعائم البناء الاجتماعي وقيمِه ومؤسساته، وهو ما تُراهن عليه إيران من خلال توظيف مفهوم القوة الناعمة مجسَدةً في الإعلام والمذهبية واستخدام رؤوس المال والشعارات المؤثرة على سيكولوجية الجمهور العربي الذي يعاني الإحباط، خاصةً في الدول التي تعاني مشاكلَ تنموية، الأمر الذي يجعل هذا الجمهور ينساقُ وراء شعارات الثورة ونُصرة المستضعفين وتحرير القدس، وهو ما يكون سببًا في تفكيك وحدة المجتمع وإثارة الفتنة والطائفية والمذهبية، ويزيد من عبء هذه الدول ويفاقم أزماتها الحادة.
3. تصدير الثورة وإضعاف الحكومات والدول
ويُقصد به التهديدُ السياسي، وهو كل ما يُهدد الأمن السياسي لنُظُم الحكم العربية وفلسفة الحُكم فيها، وهو بذلك أكثر التهديدات جسامةً نظرًا لحجم ومستوى التحولات الناجِمة عنه، وفي هذا السياق يُعتبر مبدأُ تصدير الثورة الإيرانية أهم خطرٍ سياسيٍ صريحٍ وواضح على أمن الأنظمة السياسية الخليجية، فمشروع الإمبراطورية الإيرانية يقوم على مفهوم تصدير نظرية ولاية الفقيه، بصيغته الأُممية تحت شعار الدولة الإسلامية العالمية، والتي تمرُ بثلات مراحل هي:
أ.المرحلة الخضراء: والتي يتم فيها التوسع في البداية نحو العراق ودول الخليج باعتبارها بوابة الانطلاق، وصولًا إلى الامتداد الجغرافي من إندونيسيا إلى المغرب.
ب.المرحلة الحمراء: حيث تخوض ولاية الفقيه معركتها في هذه المرحلة مع النُظُم الماركسية والاشتراكية.
ج. المرحلة السوداء: وهي آخر معارك ولاية الفقيه، تشمل في مرحلتها الأولى أوروبا الغربية، وتمتد فيما بعد للإطاحة بعاصمة الولايات المتحدة الأمريكية لتقام بعد ذلك ولاية الفقيه الكونية تحت قيادة المرشد الإيراني الذي يضطلعُ بمهام الأنبياء والرُسل في تحقيق العدل والسلام الإنساني([9]).
لقد كشف الموقف الإيراني المفاجئ من ثورات ما يسمى بـ«الربيع العربي» عن مدى الخطر السياسي لإيران حينما وصفتها بأنها امتدادٌ للثورة الإيرانية، وأنها صحوةٌ إسلامية في المنطقة، كما أطلق عليها المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، وذلك في محاولةٍ لتوظيفها للترّويج لنموذجها الثوري، بل إنها سعت جاهدةً إلى تحريض الجماعات الشيعية الموالية لها في مملكة البحرين إلى الثورة ضد النظام([10]). وعلى المستوى ذاته تنتهجُ إيران سياسةَ جسِّ النبض في كلٍ من الكويت والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لبحث إمكانية إشعال فتيل التمرُّد في هذه الدول وتكرار الحدث اللبناني في ثمانينيات القرن الماضي([11]).
4. الاختراقات الاستخباراتية وشن الهجمات السيبرانية
إن السعي لامتلاك المعلومة هو أساس بناء الإستراتيجيات الناجحة، وهو ما يفسّر الشغفَ الإيراني لتكثيف شبكات وخلايا التجسس والاستخبارات في مسعى الحصولِ على معلوماتٍ عسكرية واقتصادية، وملفاتٍ ومعلوماتٍ دقيقة عن الصفقات والقدرات العسكرية والاتفاقيات السرية والمنشآت العسكرية الأمريكية بالمنطقة؛ وفي مفارقةٍ عجيبة وعلى غير عادة الدول المتطورة التي تدير شبكاتٍ للتجسس عبر العالم، تجاهرُ إيران علنًا بإشرافها الرسمي والمخابراتي على شبكة تجسسٍ واسعة تشمل دول الخليج والعديد من الدول العربية، وبأنها على اطلاعٍ تام على مختلف المخططات والبرامج العسكرية والاقتصادية والسياسية لدول المنطقة، وهو ما يُعتبر انتهاكًا سافرًا لسيادة الدول وأمنها المعلوماتي، وتأتي الكويت على رأس الدول الأكثر اختراقًا من قِبل الاستخبارات الإيرانية، حيث تم الإعلان في سبتمبر 2012م عن تفكِيك أكبر تشكيلٍ جاسوسي عرفته الكويت يضم 39 ضابطًا من الحرس الثوري، و58 عضوًا من رتبٍ مختلفة، كما تم ضبط أجهزة تنصتٍ وتجسس متطورة، إضافةً إلى أسلحة وقنابل إيرانية الصُنع، وفي 2015م، تم كذلك الكشفُ عن خليةٍ أخرى عُرفت باسم بـ«خلية العَبدلي»، وقد زُوِّدت هي الأخرى بأحدث المعدات للتواصل مع الاستخبارات الإيرانية، مدعومةً بتسليحٍ عالي الجودة من أسلحةٍ خفيفة ومتفجرات([12]).
لقد أصبحت المحاكمات المتعلقة بتفكِيك شبكات التجسس والتخابر لمصلحة الحرس الثوري الإيراني في منطقة الخليج أمرًا مألوفًا جدًا، الوضع الذي يُشير إلى كثافة العمل الاستخباراتي الإيراني، ومدى التهديد الذي باتت تُشكِّلهُ إيران بنزعتها التوسعية الشرسة، وبالتدخل في الشؤون الداخلية للدول وتمويل الإرهاب والإخلال بأمن المنطقة واستقرارها.
5. تهديد حرية الملاحة الدولية وضرب حركة التجارة
يشكل البعد الإستراتيجي للمنطقة بممراتها ومضايقها البحرية أحد أهم أوراق المساومة والضغط لدى صانع القرار الإيراني، فكلَّما تعرَّضت إيران لضغوطٍ سياسية أو عقوباتٍ اقتصادية تُهدد مباشرةً وبشكلٍ صريح بعرقلةِ حركة الملاحة في الممرات والمضايق، وهو ما يعتبر انتهاكًا صارخًا لمبادئ القانون الدولي، لا سيما «اتفاقية مونتيغوباي» في عام 1982م التي فَصلت في حرية الملاحة عبر المضايق الدولية من خلال الإشارة إلى المرور العابر باعتباره حقًا دوليًا لا يجوز انتهاكُه([13]).
يُدرك صُنّاع القرار الإيرانيون جيدًا تبعات القيام باستهداف السفن التجارية والعسكرية عبر المضايق، ويعلمون جيدًا ردةَ فِعل المجتمع الدولي إزاء الانتهاك العلني والعمدي لحرية الملاحة في المنطقة، واعتبارًا لذلك لجأت إيران إلى انتهاج إستراتيجية دعم الميليشيات المسلحة من أجل تأجيج النزاعات في المنطقة واستهداف السفن وناقلات النفط في البحر الأحمر ومياه الخليج، في تهديدٍ وخطرٍ كبيرين على حرية الملاحة في المنطقة، وهي الإستراتيجية التي تضمن لإيران ممارسةَ ضغوطها على المنطقة دون تبعاتٍ جنائية، لأن الأحدات أثبتث صعوبة إثبات التُهم في أنشطةٍ تخريبية وإرهابية من هذا النوع، خاصةً في ظل بيئةٍ إقليميةٍ تشهدُ نشاطًا عاليًا لحركاتٍ إرهابية وميليشياتٍ عسكريةٍ مختلفة.
لا شك يكلِّف الخطر الإيراني دولَ الخليج خسائرَ ماديةً جسيمة، وأعباءً ماليةً ضخمة جرَّاء سباق التسلُّح الذي تشهده المنطقة، وهو ما أسفرَ عن تراجعٍ واضح في معدلات النمو الاقتصادي لدول المنطقة، يضافُ إليها أعباءُ الصراعات المسلحة في المنطقة، والحربُ بالوكالة، فضلًا عن مخاطر أخرى تتعلقُ بإضعاف وزعزعة مناخ الاستثمار في المنطقة جرَّاء النشاط المكثف للميليشيات العسكرية المدعومةِ من إيران، والتي كان آخر فصول نشاطها استهدافُ منشأة نفطية في بقيق بالسعودية في سبتمبر 2019م.
6. دعم الميليشيات وتصدير الأسلحة
لقد اشترط مجلس الأمن في موافقته على الاتفاق النووي المُبرم بين إيران والدول الغربية في 2015م، حظرًا شاملًا على أي إمدادٍ أو بيعٍ أو نقلٍ للسلاح بشتى أنواعه الخفيف والثقيل خارج الحدود الإيرانية دونَ موافقةٍ من مجلس الأمن، وصَدَر بشأن ذلك قرارٌ خاصٌ بإيران يحمل الرقم 2231 في 2015م، وعلى الرغم من ذلك تواصلُ إيران إمداداتها العسكرية لأكثر من جبهة في المنطقة في انتهاكٍ صارخٍ لقرارات مجلس الأمن.
لم تكتفِ إيران بانتهاك القرارات الأُممية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك من خلال علاقتها المباشرة بدعم وتمويل الإرهاب، والإشراف على العديد من الميليشيات والأذرُع المسلحة والتنظيمات الإرهابية الخطيرة في المنطقة، مثل ميليشيات الحوثي في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وحزب الله في لبنان، وسرايا الأشتر في البحرين، وبعض التنظيمات المسلحة في فلسطين([14])، وهو ما ينافي القانون الدولي والأعراف والاتفاقيات المتعلقة بمكافحة الإرهاب، والتي لا تزال إيران ترفُض الانضمام إليها.
لقد كشف تقرير وزارة الخزانة الأمريكية الصادر في 2018م، حجمَ الخطر الإيراني في الشرق الأوسط، حيث اتُهمت إيران مباشرةً بسوء استغلال النظام المالي العالمي لدعم وتمويل الإرهاب، وانتهاك حقوق الإنسان ودعم النظام السوري، واستغلال الشحن التجاري لأغراضٍ غير مشروعة، وإخفاء التعاملات واستخدام المعادن النفيسة في المعاملات المشبوهة وغير الشرعية([15])، هذا في الوقت الذي يسوّق فيه النظام الإيراني إلى مزاعم الاقتصاد المقاوم، كتبريرٍ وتبييضٍ للتعاملات غير المشروعة التي يقوم بها، والتي سمحت له بإنقاذ جزءٍ من اقتصاده المتدهور جرَّاء العقوبات الدولية المفروضة عليه([16]).
ثالثًا: إخفاق الأُطر الأمنية التقليدية ومنظومة الأمن القومي العربي
شكَّكَ العديد من المفكرين السياسيين والأمنيين، وعلى رأسهم أمين هويدي منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين في مسألة وجود أمنٍ قوميٍ عربي، بحُجة أن الأمر أبعدُ ما يرتبط بفكرةٍ أو طموحٍ قومي، بل يتعداه إلى مشروعٍ مجسدٍ قائمٍ على قناعاتٍ وإراداتٍ سياسيةٍ حقيقية، أما بالنسبة لمن دافعوا عن المشروع فهم أيضًا لم يكن بالأمر المفاجئ لديهم عجزُ هذا النظام الأمني العربي عن صدِّ ومواجهة الخطر الإيراني المتنامي في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، والمؤسسات المنبثقة عن هذا النظام بدت هشة على مستوى الأفكار والآليات التنفيذية، سواء المجالس الجهوية، أو المَظلة الكُبرى الراعية لهذا الأمن ممثلةً في جامعة الدول العربية([17])، فجميعها لديها عجزًا واضحًا في آلية التكيُّف مع التحديات والرهانات المعاصرة، وفشلًا في تجميع الإرادات القُطرية لتشكيلِ إرادةٍ قوميةٍ عربية لمواجهة التحديات والتهديدات ومناقشة القضايا بشكلٍ يحقُق استجابةً تليقُ وتتناسب مع حجم المخاطر الأمنية المعاصرة، وعلى رأسها الخطر الإيراني في منطقة الخليج.
إن سببَ فشل مظلة الأمن القومي العربي لا يرجع إلى نقص الهياكل أو النصوص التنظيمية في ميثاق جامعة الدول العربية، لأن معاهدةَ الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي العربي تأسّست في 1950م، ودخلت حيزَ التنفيذ في 1952م، وأنشأت المعاهدةُ منظمتين مهمتين من حيث التسمية هما؛ مجلس الدفاع المشترك، والمجلس الاقتصادي الذي عُدِّل إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في 1980م([18]). لكن واقع الأمن الإقليمي العربي كان بعيدًا كُلَّ البُعد عن دفاعٍ مشترك أو حتى استقرارٍ وأمنٍ إقليمي، فقد شكَّلت الجيوش العربية فيما بينها مصدرَ تهديدٍ إقليمي، وتميزت الإستراتيجيات بالتضارب والاختلاف الشديدين لدرجة الفوضى.
إن مسألة العجز الوظيفي لمظلة الأمن القومي العربي لا تفسَّر بالمقاربات القانونية المؤسّسية بقدر ما تفسَّر بمقاربةٍ سلوكيةٍ وظيفية، لأن ما يفترض أن تكون مظلة للأمن القومي العربي، تجاهلت لعقودٍ مضت قواعدَ العمل الجماعي الضامنة لأدائها الوظيفي، وتميّزَ أداؤها لعقودٍ من الزمن بخصائص هي:
- عدم الاتفاق على وحدة المصالح ومصادر التهديد، الأمر الذي صَعَّب من مهمة ضبط أولويات الأجندة الأمنية العربية.
- ضعف الإرادة القومية مقارنةً مع الإرادات القُطرية.
- انتقال مستوى الخلاف في الرأي إلى مستوى القطيعة والعِداء، وهو ما أثّر على فاعِلية المبادرات والتوصيات.
- 4. غياب خارطةٍ سياسيةٍ وأمنية لتوزيع الأدوار الإقليمية.
- على الرغم من وجود المنبهات الأمنية (الاستيطان الإسرائيلي، الخطر الإيراني، الحركات الإسلامية المتطرفة، الإرهاب، الركود الاقتصادي، التدخل التركي، الجريمة المنظمة…) إلَّا أن وتيرةَ العمل والاتصال البيني بقيت بعيدةً جدًا عن مسايرة حجم التهديدات الأمنية الإقليمية فيما يتعلقُ بتحديد الأهداف وصياغة الإستراتيجيات.
- غياب الوعي النخبوي، وضعفٌ شديد في إدارة الأزمات الإقليمية.
- التنافس على الزعامة، وخوف الدول الصغيرة من الدول الكبرى([19]).
إنَّ منطِق التهديدات في العلاقات الدولية يقوم على عدم صلاحية الأُطر والترتيبات الأمنية التقليدية في مواجهة التهديدات الجديدة ما لم تُكَيّف وظائف هذه الأبنية والمؤسسات التقليدية مع طبيعة الظروف والمتغيرات المستجدة، وهو ما نجَح فيه حلف الناتو مثلًا بعد نهاية الحرب الباردة وتحويل مهامِّه إلى حماية مصالح أعضائه ورعاية حقوق الإنسان والأمن والسلام الدوليين، بعدما كان موجهًا لصدِّ الخطر السوفيتي وحِلف وارسو، هذه القدرة في التكيف لم تتوفّر في مظلةِ الأمن القومي العربي لمواجهة التهديدات والمخاطر الإقليمية الجديدة، الأمر الذي فرضَ ضرورة البحث عن مقارباتٍ ومبادراتٍ أمنيةٍ جديدة أكثرَ فاعلية في التصدي للتهديدات المعاصرة، وعلى رأسها التهديدُ الإيراني المتنامي في المنطقة.
وباستثناء نجاح قواتِ درع الجزيرة في إيقاف التهديدات الإيرانية لاستقرار البحرين في 2011م، الأمر الذي جسَّد نجاحًا مهمًا لمفهوم الدفاع المشترك لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بقيادةٍ سعودية، فإن تطورات الأحداث فيما بعد أظهرت وجود إشكالياتٍ وتحدياتٍ أمنية بات يفرضها الوجود الإيراني في المنطقة، الأمر الذي استدعى تعاطيًا أمنيًا أوسعَ نطاقًا وبمنظورٍ وأبعادٍ جديدةٍ ومختلفة.
رابعًا: المقاربات الإقليمية البديلة لمواجهة خطر إيران
وأهم هذه المبادرات هي كالآتي:
1. الناتو الخليجي
يرجع تاريخ هذا المشروع الأمني إلى نهاية عام 2013م، حيث اقترحت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مشروعًا للدِّفاع المشترك يضمُ مجلس التعاون والأردن والمغرب، وذلك تحت قيادةٍ سعودية. هَدفَ المشروعُ إلى إنشاء هيكلٍ أمنيٍ إقليمي لمواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة، خاصةً بعد ثورات ما يسمى بـ «الربيع العربي» وانفلات الوضع الأمني، وتنامي الخطر الإيراني في اليمن وسوريا، وزيادة التهديدات اللا مُتماثلة، كزيادةِ حِدة الاتجار غير الشرعي للسّلاح عبر الحدود التي لم تصبح آمنة، وزيادةِ حِدة الحركات الإسلامية المتطرفة والمسلحة.
على الرغم من التوقيت المهم للمبادرة، إلَّا أن المشروع لم يحقق أيَّ تقدمٍ يُذكَر؛ نظرًا إلى شدة تعقيد الملفات الأولية المطروحة للنّقاش، وحِدة الانقسام في المواقف، خاصةً فيما يتعلَّق بموقف دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من التهديد الإيراني للمنطقة، إذ في الوقت الذي تعتبرُ السعوديةُ والإمارات إيرانَ مصدرَ الخطر والتهديد الرئيس في الخليج والشرق الأوسط، تمتنعُ عمان وقطر عن الخوضِ في أي تحالفٍ موجَّهٍ ضدَّ إيران، إضافةً إلى ذلك أظهرت توجهاتُ السياسةِ الخارجية لأعضاء هذا المشروع تباينًا واضحًا بشأنِ الموقف من جماعة الإخوان المسلمين، والتي تُصنّفها السعودية والإمارات في خانة مصادر التهديد الأمني، في حين لا تراها دولٌ أخرى كذلك، وصولًا إلى اختلاف المواقف بشأن القضية السورية، وعدم التحمُّس المغربي والأردني للمبادرة، علاوةً عن غياب أرضيةٍ للعمل المشترك، واختلاف العقيدة العسكرية لدول هذا المشروع الأمني([20]).
2. تحالف دعم الشرعية في اليمن
تأسس التحالف في مارس 2015م، وشكَّل نقلةً نوعيةً في توجهات السياسة الخارجية لدول الخليج، حيثُ شنَّ التحالف حملةً عسكرية قادتها المملكة العربية السعودية بمشاركة ودعم أكثر من عشر دولٍ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وترجع أسباب التحالف إلى التواجد الإيراني المُقلق في اليمن، والذي زادت حدَّته بعد ضعف الحكومة المركزية في صنعاء منذ 2011م، لتستغل إيران الوضع بما تمثله اليمن من فرصةٍ سهلةِ المنال ومنخفضةِ التكاليف مقارنةً بلبنان والعراق في مسعى الانتشارِ والضغطِ على المملكة العربية السعودية تحديدًا([21]).
لقد أسهمت كثافة الأحداث والتهديدات إلى تحولٍ كبير في توجهات السياسة الخارجية السعودية، كما زاد الوضع من قناعتها بضرورة التدخل العسكري الحاسم للحدِّ من التنامي الخطير لجماعة الحوثيين المتمردة، والتي باتت خطرًا إقليميًا حقيقيًا بعد تهديدها لحركةِ الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب([22]).
استهل التحالف تدخُله العسكري في اليمن بتاريخ 25 مارس 2015م في أولى عملياته التي سُميت بـ«عاصفة الحزم»، وذلك بمشاركة طائراتٍ مقاتلة من مصر والمغرب والأردن والسودان والإمارات العربية المتحدة والكويت والبحرين وقطر التي اسْتُبعِدت لاحقًا في 2017م، كما ساهمت الصومال من خلال فتح مجالها الجوي ومياهها الإقليمية ووضع قواعدها العسكرية تحت تصرف التحالف، من جهتها شاركت باكستان بتوفير سفنٍ حربية لمساعدة التحالف في تشديد الحظر على الأسلحة الموجهة إلى الحوثيين، واستفادَ التحالفُ من دعمٍ لوجستيٍ مُهم من الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الموافقة على بيع الأسلحة والمساعدة الاستخباراتية، وتزويد الطائرات المقاتلة جوًا بالوقود، والمساهمة المباشرة في مركز القيادة والسيطرة المسؤول عن الضربات الجوية([23]).
انتهج التحالف إستراتيجيةَ المراحل في تدخّلاته العسكرية باليمن من أجل التقييم المرحلي والتكيف مع المستجدات، حيث تم الإعلان في 21 أبريل 2015م عن الشروع في عمليةٍ ثانية سُميت بـ «إعادة الأمل»، ووضع التحالف ضمن أولوياته في هذه الحملة حمايةَ المدنيين ووقفَ زحف الحوثيين، وشلِّ حركتهم من خلال استهداف مطار صنعاء، وفي 14 يوليو 2015م شَرَع التحالف في ثالث عمليّاته تحت مسمى «السهم الذهبي» والتي كانت بالأساس عمليةً برية تحت غطاءٍ جويٍ وبحري، شاركت فيها قواتٌ يمنية تم تدريبها في السعودية، انطلقت العملية من عدن بمئات المدرَّعات والدبابات السعودية والإماراتية، واستطاعت إخراجَ الحوثيين من عدن وأجزاءٍ واسعة من المحافظات الجنوبية في الوقت الذي تقدَّمت فيه قواتٌ أخرى انطلاقًا من السعودية شمالًا لاستعادة السيطرة على محافظتي مأرب والجوف([24]). تمثَّلت أهداف التحالف المعلنة في إخماد التمرُّد الحوثي وعودة الشرعية اليمنية ممثلة في الرئيس عبد ربه منصور هادي، وبناءً على ذلك قام التحالف بتزويد المقاتلين اليمنيين المؤيدين لهادي بالسلاح والعتاد العسكري اللازم، كما استفاد المئاتُ من المقاتلين اليمنيين من التدريبِ العسكري الضروري على صنوفِ الأسلحة والمعدات الحديثة.
3.القوة العربية المشتركة
ظهرت هذه المبادرة في أبريل 2015م، ضمن مخرجات القمة العربية السادسة والعشرين التي انعقدت بشرم الشيخ، حيث وبالنظر إلى توقيت وملابسات إعلانها فإن المبادرة اعتُبرت خطوةً مهمة في مسعى تأسيس قوةٍ عربيةٍ مشتركة لمواجهة التهديدات الإقليمية، وعلى رأسها الإرهاب والخطر الإيراني المتنامي في المنطقة.
تم الاتفاق بين أطراف المبادرة على تشكيل قوةٍ عسكريةٍ عاليةِ الجودة مكونة من أربعين ألف جنديٍ من نُخبة القوَّات الخاصة في مصر والأردن والسودان والمغرب ودول الخليج، وقوة جوية مكونة من ألف عنصر، وقوة بحرية من خمسة آلاف جندي، بالإضافة إلى 35 ألف جنديٍ من القوَّات البرية، على أن تتكفَّل المملكة العربية السعودية بالأعباء المالية وتكاليف التسلُّح والعتاد، فيما تتولى مصر دعم التحالف بمعظم المقاتلين، وجاءَ في فحوى المبادرة أن يكون مقرُّ هذه القوة في القاهرة تحت قيادةٍ سعودية، مع إمكانية التناوب المصري السعودي على الرئاسة لاحقًا، إلَّا أن المبادرة كعديدٍ من الترتيبات السابقة لم ترَ النور؛ بسبب عدم التزام الأطراف، وضعف الإرادة السياسية، وتضارُب الرؤى، واختلاف التصوّرات المتعلقة بمصادر التهديد لدى أطراف المبادرة([25]).
خامسًا: المقاربات الأمنية ذات الطابع الدولي لمواجهة خطر إيران
ويمكن الإشارة إلى أهمّها على النحو الآتي:
1. التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب
نشأ التحالفُ في ديسمبر 2015م بمبادرةٍ من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ويضمُ التحالف 41 دولةً إسلامية، وقد عقَدَ أولى اجتماعاته بالرياض في مارس 2016م، ويهدف إلى تنسيق الجهود ضد التطرّف والإرهاب في سوريا والعراق وليبيا ومصر وأفغانستان؛ ويقوم التحالف على تنسيق الجهود الفكرية والإعلامية والعسكرية لمكافحة الإرهاب وأنماط تمويله، وهو يعتمد في توجّهاته وأُطروحاته على نفس إستراتيجية الأُمم المتحدة لمكافحة الإرهاب([26]).
2. تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي
يُعرف التحالف اختصارًا بكلمة «ميسا» MESA ويسمى رمزيًا بالناتو العربي، ترجعُ فكرته العملية إلى قمة الرياض سنة 2017م([27])، حيث اتفق أطرافُ القمة على ضرورةِ عقدِ اجتماعٍ سنوي بقصدِ تنسيق الجهود ورفع مستوى التعاون الأمني والطاقوي لمواجهة التهديدات الأمنية، وتعزيز التعاون الاقتصادي([28]).
أما عن الجذور الفكرية لمشروع الناتو العربي فتعود إلى المفكر الأمني مايكل فلاين-Michael Flynn والمؤرخ مايكل ليدن- Michael Ledeen في كتابهما المُعنون بـ «ميدان القتال: كيف ننتصر في الحرب العالمية ضد الإسلام الراديكالي وحلفائه» والصادر في يوليو 2016م، حيث يعرِضُ الكتاب بدقةٍ وتفصيلٍ كبيرين في صفحاته الـ 208 مدى الخطر الإيراني في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط عمومًا، وبناءً على ذلك يرى فلاين أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستطيع لوحدِها التصدّي لخطر وتهديد إيران في المدى القريب، وهو ما يستوجِبُ تأسيس حلفٍ إقليمي تحت إشرافٍ أمريكي يضمُ كلًا من دول مجلس التعاون والأردن ومصر، تحت مسمى «حلف الخليج العربي والبحر الأحمر».
بعد أفكار فلاين والمبادرة السعودية سنة 2017م، شكَّلت فعاليات التدريب المشترك «درع العرب» التي استضافتها مصر في الفترة الممتدة بين 03-06 نوفمبر 2018م خطوةً مهمة في مسعى تعزيز العلاقة بين كلٍ من دول مجلس التعاون ومصر والأردن، وحضور كلٍ من المغرب ولبنان كمراقبين، وقد جرت فعاليات التدريب بالقاعدة العسكرية «محمد نجيب» في الواجهة المتوسطية لمصر، بحضور عناصرَ من القوات البحرية والبرية والجوية، والقوات الخاصة للدول المشاركة.
سعت الخارجية الأمريكية في الاجتماع الثاني في 2018م، إلى تكثيف الاتصالات والزيارات الدبلوماسية بهدف التهيئة لقمةٍ تضمُ دولَ الخليج والولايات المتحدة ومصر والأردن في يناير 2019م، إلَّا أن مساعيَ وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، ومساعده لشؤون الشرق الأوسط تيموثي ليندركينغ لم تُكلَّل بالنجاح، وزاد الأمر تعقيدًا بعد التراجع المصري والتردُد الأردني، وتصدُع الصف الخليجي، وعدم التحمُّس العماني لهذا الحِلف بحجةِ أنه موجهٌ بالأساس ضدَّ إيران.
3. الشراكة الإستراتيجية بين حلف الناتو ودول الخليج العربي (مبادرة إسطنبول)
بعد نهاية الحرب الباردة بدأ حلف شمال الأطلسي يتكيّفُ مع المتغيرات الدولية، بالانتقال من تنظيمٍ عسكري صِرف مَهمتُه الدفاع عن غرب أوروبا ومنطقة شمال الأطلسي إلى قوةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ عالمية مَهمّتُها تحقيقُ هيمنةِ قوى العالم الرأسمالي الغربي، تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى ضوء هذا التحول تغيرت طبيعة المخاطر والتهديدات ومعها الخُطط والإستراتيجيات([29]).
إن سياسة التكيف التي بات حلف شمال الأطلسي ينتهجُها مع البيئة الأمنية الجديدة في العالم، جعلت الشرق الأوسط يندرجُ ضمن نطاقاتِ اهتماماته وتدخّلاته المستقبلية، خاصةً وأن هذا الحلف أصبحَ بعد قمة واشنطن 1999م، ينشطُ وفقَ نهجٍ إستراتيجيٍ جديد يقوم على التحول من مهمة الدفاع عن جغرافية الحِلف إلى الدفاع عن مصالح شركاء الحِلف وأعضائه عبر العالم، وعدم ارتباط تحركات الحِلف وتدخّلاته بقرارات مجلس الأمن الدولي([30]).
ترجع بدايات الحوار الخليجي-الأطلسي إلى ندوة الدوحة في أبريل 2004م، تحت عنوان «تحولات الناتو وأمن الخليج»، ثم تلتها الندوة التي عقدها قسم الدبلوماسية العامة بالناتو في روما في مارس 2005م، تحت عنوان «الناتو وإقليم الشرق الأوسط الموسَّع»، ثم الندوة المنعقدة في الدوحة في نوفمبر 2005م، تحت عنوان «الناتو والشرق الأوسط الكبير»، على أن أهم الندوات على الإطلاق كانت ندوة إسطنبول في يونيو 2004م، والتي تُعتبرُ الركيزةَ الأساسية لبرنامج التعاون بين الناتو ودول الخليج، كانت المبادرة موجهةً ظاهريًا وإعلاميًا لكل دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلَّا أن عنوانها الفِعلي كان دولَ مجلس التعاون، كما جاءَ في أدبيات وخِطابات مهندسي المبادرة.
أهداف المبادرة تنطلق من أنَّ أمن الخليج وإن كان مسؤوليةَ دولهِ فهو أيضًا مسؤوليةُ الدول الكبرى([31])، وبحسب النائب الأول لـوزير الخارجيـة القطـري محمـد بن عبـداالله الرميحي «فإن مبادرة إسطنبول تهدف لتأسيس الشراكة الإستراتيجية بين دول الخليج وحِلف الناتو، أما عن القضايا والتحديات، فلخَّصها الرميحي في الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل، والدولِ المارقة، والاتجار بالبشر، وتجارة المخدِّرات، والقضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي دفع بالسكرتير العام جنس ستلتنبرغ-Jens Stoltenberg للتعليق بشأن القضية الفلسطينية، قائلًا إن «الناتو ليس فاعلًا معنيًا بصفةٍ مباشرة بالصّراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأنها مسألة كبيرة وعميقة تحتاج إلى حلٍ على نطاقٍ دوليٍ أكبر، وليست من مهام الحلف»([32]).
على الرغم من توصل الحلف إلى تدشين أول مركزٍ للحِلف في المنطقة بالكويت في يناير 2017م؛ بهدف تعزيز التعاون والتشاور، ورفع مستوى التنسيق في مجالاتِ حِفظ السلام والأمن والدفاع، ومكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل كما جاء على لِسان أمينه العام، إلَّا أن القوى الرئيسية الفاعلة في الخليج لا تزال تعارضُ المبادرة، لأنها لا تأخذ بالاعتبار مصالحها الأساسية.
4. التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية
يُطلق عليه أيضًا اسم التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية، هو تحالفٌ دولي نشأ في نوفمبر 2019م، ويقعُ مقرُّه في البحرين، ويهدفُ إلى حماية وتأمين الملاحة البحرية من الهجمات والقرصنة في مياه الخليج، مرورًا بمضيق هُرمز نحو بحر عمان ووصولًا إلى باب المندب في البحر الأحمر، والعمل من أجل تعزيز التدفق الحرِّ للتجارة، وردع التهديدات التي تواجه السفن([33])، يتكون التحالف من ست دولٍ إلى جانب الولايات المتحدة، هي: السعودية، والإمارات، والبحرين، وبريطانيا، وأستراليا، وألبانيا([34]).
تعود فكرة تشكيل تحالفٍ عسكريٍ دولي لحماية أمن الملاحة البحرية في مياه الخليج العربي وممراته إلى شهر يوليو 2019م، بعد السُلوك العدواني الإيراني غير المسبوق على ناقلات النفط في مياه الخليج، وذلك على خلفية تشديد العقوبات الأمريكية عليها([35])، حيث تسارعت وتيرة الخلاف والتوتر بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية منذ مايو 2019م، حين قامت الولايات المتحدة بإرسال حاملة طائرات وقاذفات إلى الشرق الأوسط، لتُعلن إيران مباشرةً بعد ذلك الشروعَ في تخفيف بعض القيود المفروضة على برنامجها النووي، قبل أن تتوصل الاستخبارات الأمريكية إلى معلوماتٍ تُفيد بتخطيط إيران لهجماتٍ على حركة الملاحة في الخليج، وهو ما تم فعلًا فيما بعد([36]).
ونظرًا للأهمية الإستراتيجية الكبيرة للمنطقة، شَرَعت الولايات المتحدة الأمريكية في الاتصال والتباحث مع أكثر من ستين دولةً حول العالم من بينها ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، والنرويج، واليابان، وكوريا الجنوبية ودولٌ أخرى؛ للمشاركة في المبادرة ومناقشة آلياتها([37])، لضمان سلامة الملاحة في أحد أهم الممرات البحرية، إذ ما يزيد عن ثُلث النفط المنقول بحرًا في العالم يمرُّ عبرَ مضيق هُرمز الذي هدّدت إيران مرارًا بغلقِه، لكن الجهود الأمريكية لم توفق في استقطاب عددٍ كبيرٍ من الدول لحداثة الفكرة، ولعدم استعدادها للانخراط في أي نزاعٍ مفتوحٍ بالمنطقة.
على الرغم من تحفّظ العديد من الدول بشأن المشروع، إلَّا أنه ونظرًا لجسامة التهديد شَرَع التحالف رسميًا بمهمَّته في 07 نوفمبر 2019م، بقيادةٍ أمريكية في البحرين وعضوية ست دول، وبأهدافٍ واضحةٍ جدًا عبَّرَ عنها قائد القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية في الشرق الأوسط جيم مالوي-Jim Malloy، بقوله إن «الهدف المحوري هو الالتزام بالدِّفاع الجماعي المشترك على الهجمات التي قد تطالُ سُفن أعضاء التحالف، وأن التركيبة العملياتية تقومُ على مبدأ التعامل مع التهديد وليس التهديد»([38]).
وعلى عكس جميع المبادرات والمقاربات الأمنية السابقة يُعتبرُ التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية، المبادرةَ الوحيدة التي تم تجسيدها ميدانيًا من خلال الشروع مباشرةً في مناوراتٍ بحريةٍ دولية مُتعددة الجنسيات (IMX 19) في الفترة الممتدة من 26 أكتوبر إلى 14 نوفمبر 2019م، بمشاركة 56 دولة وست منظماتٍ دولية، وهي بذلك أكبر مناورةٍ بحرية دولية في العالم من حيث عدد المشاركين. انطلقت المناورات بقيادةٍ أمريكية في كلٍ من شمال الخليج العربي، وخليجي عمان والعقبة، وبحر العرب، وسواحل جيبوتي. تعدَّدت تصريحات قيادة التحالف والمواقف الدبلوماسية الدولية بشأن الأهداف الحقيقية للتحالف، إلَّا أنَّ الهدف الرئيسي منه هو وضعُ حدٍ للخطر الإيراني المتنامي بالمنطقة، وهو المدخل لفهم عدم انضمام ألمانيا وفرنسا وقطر وعُمان، والمتغير المفسِّر لانضمام السعودية والإمارات خاصةً بعد تعرُّض منشآت أرامكو النفطية للهجوم في منتصف سبتمبر 2019م في محافظة بقيق وهجرة خريص، والذي تبنَّاه المتمردون اليمنيون بتمويلٍ وتخطيطٍ إيرانيين، لتبقى هذه المقاربة أنجحَ المبادرات وأكثرها فاعليةً في الواقع للحدِ من التنامي الخطير للتهديد الإيراني في المنطقة، خاصةً بعد استهداف المنشآت البترولية السعودية وسُفن الشحن في مياه الخليج([39]).
سادسًا: تقييم المبادرات الأمنية الجديدة في منطقة الخليج العربي
برزت العديدُ من الإشكاليات المرتبطة ببعض المبادرات ذات الطابع الإقليمي أو الدولي التي طرحتها الدول، ويمكن الإشارةُ إلى أهم تِلك الإشكاليات على النحو الآتي:
1. تراجُع مظلة الحماية الأمريكية وعودة التنافس الدولي إلى المنطقة
لم يعد لدى الولايات المتحدة الحماسة نفسها التي كانت في السابق لدعم المبادرات الأمنية وحِفظ التوازُنات في المنطقة، حيث اتجهت الولايات المتحدة نحوَ سحبِ قوّاتها وإعادةِ تمركز بعضها في إطار رؤيةٍ إستراتيجيٍة شاملة لإعادةِ التموضُع على المسرح الدولي، وذلك في إطار سياساتها للتَّوجه شرقًا لمواجهة الخطر الصيني. الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة خلفها ترَك الساحة أمام بعض القوى الدولية المنافسة، وقد استفادت إيران من وجود بعض هذه القوى كروسيا والصين التي تتمتعُ معها بعلاقاتٍ جيدة، وبالتالي فإن الترتيبات الأمنية الجديدة باتت تتعامل مع واقعٍ أكثر تعقيدًا، غاب فيه التأثير الأمريكي والغربي، وفي الوقت نفسه تلعبُ فيه قوى دولية متعددة أدوارًا متنافسة لا تخدم مساعي الاستقرار الذي ترغب به الدول، وأوّلها الصين وروسيا، وهو ما يمثل تحديًا حقيقيًا أمام أي ترتيباتٍ أمنية جديدة.
2. التباين في تحديد مستوى التهديدات الإيرانية
حيث تختلف وجهات نظر الدول المشاركة في هذه المبادرات في تصنيف مستويات التهديدات الإيرانية على المستوى الفردي، وقد انعكس ذلك على فاعليةِ ونجاحِ بعض المبادرات الأمنية، هذا الخلافُ موجودٌ على المستوى الخليجي، على سبيل المثال تقييم قطر وعُمان للتهديدات الإيرانية منخفضٌ مقارنةً بوجهةِ النظر السعودية والإماراتية، كما أن الكويت لها تقديرٌ مختلف لحساسية علاقاتها مع طهران، وربما هذا عطَّل آليةَ مجلس التعاون الأمنية التي طالما كانت نموذجًا إيجابيًا للتعاون والتوافق على مستوى مواجهة التهديدات الأمنية منذ تدشين المجلس، وقد ظَهَر أثرُ ما سبق في عدمِ انضمامِ قطر وعُمان إلى التحالف الدولي لحماية حرِّية الملاحة في الخليج.
وبتقييمٍ آخر للتهديدات الإيرانية تنظرُ دولٌ كمصر والأردن والمغرب، وهي الدولُ العربية الأكثرُ انخراطًا في المبادرات المطروحة إقليميًا ودوليًا للتهديدات الإيرانية من منظورٍ جيو-سياسي، حيث تقعُ هذه الدول بعيدًا عن التهديدات الأمنية والعسكرية المباشرة التي تمثلها إيران، لهذا فإنها أقلُ حماسةً للانخراط في الترتيبات الجديدة.
وعلى المستوى الدولى يُرى التبايُن في العلاقات مع إيران، وفي النظر إلى المخاطر التي تمثلها فإن دولًا مثل ألمانيا وفرنسا لم تنضم إلى التحالف الدولي لحماية الملاحة البحرية في الخليج، وفضَّلت أن تقومَ بمبادراتٍ على المستوى الأوروبي، وذلك على خلفية الخلاف مع الولايات المتحدة حول السياسية الأمريكية تجاهَ إيران.
3. التركيز على مواجهة التهديدات الأمنية
تُركِّز غالبية المبادرات المطروحة على مواجهة التهديدات العسكرية والأمنية، بينما تتجاهلُ مصادرَ التهديد الأخرى، فبعضُ الدول في المنطقة تواجهُ خَطَر تغلّغل إيران وتأثيرها على استقرارها وعلى وحدة أراضيها وسلامة مكوناتها الاجتماعية، كما هو الحال في العراق على سبيل المثال، فيما يقتصرُ الاهتمامُ بالتعامل مع هذه التهديدات من جانب بعض الأطراف المعنية بمواجهةِ خطر إيران كالولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، دونَ تفعيل أيِّ آليةٍ جماعية، تقليدية كانت أو مستجدة لمواجهة هذا الخطر.
لكن عندما تعرَّضت مصالح الدول الكبرى للخطر على خلفية استهداف حرية الملاحة في الخليج وقيام إيران باحتجاز ومهاجمة بعض البوارج، سارعت القوى الكبرى إلى تدشين تحالفٍ أخذ طريقَهُ نحو العمل خلال أسابيع، فيما المنطقة تتأذى وتعُمّها الفوضى وينتشرُ بها الإرهاب وتنهار فيها الدول، بينما تعجز كافة المبادرات عن الحدِّ من سُلوك إيران وتهديداتها المتنوعة الاجتماعية والسياسية والثقافية والسيبرانية.
4. الافتقار إلى التعاون وغياب الرؤية الإستراتيجية الجماعية
على الرَّغم من أهمية وتعدّد المبادرات الأمنية المُنتَهجَة لمواجهة الخطر الإيراني في منطقة الخليج، والتي عبَّرت في مُعظمها عن الحرص السعودي على أمن المنطقة واستقرارها السياسي، إلَّا أنَّ الواقع كَشَف عن مقارباتٍ هشَّة تفتقرُ إلى التعاون الكافي، والرؤية الإستراتيجية الجماعية، كما اتَّسمت المبادرات في مُجملها بعدم التزام الأطراف بالأدوار والوظائف المنوطة بهم لإنجاحها.
تُواجهُ الدولُ العربية ودولُ الخليج على وجه الخُصوص خطرًا إيرانيًا جسيمًا، إلَّا أنَّ أغلَب الترتيبات والمقاربات الأمنية -باستثناء التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية- لم تُحقّق أي تفوقٍ إستراتيجي أو مؤشرٍ على ضمانِ الأمن القومي، فالمبادرات على تعدُّدها تفتقرُ إلى الحماسة اللازمة، والإرادة السياسية الحقيقية التي يجسّدها التزامُ الأطراف بالأدوارِ المنوطة بهم، والتي تَتَناسب عادةً مع حجم الدول ومركزها الإقليمي.
5. تعدُّد الترتيبات الأمنية وتعثُر بعضها
طرحُ مبادراتٍ عديدة خلال فترةٍ قصيرة يُشير إلى أنَّ دولَ المنطقة ما تزال بصدد بلورة رؤيةٍ أمنيةٍ موحدة، وأنها في مرحلةِ اختبارٍ لهذه المبادرات، ورغم أنَّ بعض المبادرات قد نجحت غير أن هناك مبادراتٍ أخرى لم ترَ النور، فعلى سبيل المثال على الرغم من وضوح أهداف التحالفِ الدولي لمحاربةِ الإرهاب، وشرعيته الدولية والإقليمية واتّساع عضويته، إلَّا أنه لم يقُم بالدّور البارز على المستوى الإقليمي، عدا بعض الاجتماعات التي تناولت تطورَ الأوضاع في المنطقة، حيث قُدِّر للتحالف أن يرثَ خلافاتِ المبادرات السابقة.
خاتمة
على الرغم من نجاحِ بعض المبادرات الأمنية مِثل التحالفِ الدولي في مياه الخليج في تحييد خطرِ تعرُّض إيران لحرِّية الملاحة وتهديد ناقِلات النفط، ونجاحِ تحالفِ دعم الشرعية في اليمن جزئيًا في وقفِ تمدُّد جماعة أنصار الله الحوثي وسيطرتها على اليمن، فإن العديدَ من المبادرات الأخرى واجهت صعوباتٍ وتحدِّياتٍ، وبعضها لم يرَ النور، في وقتٍ تتزايدُ مخاطر السُلوك العدواني الإيراني في الخليج العربي، ويتزايد التدخل في مِلفات الشرق الأوسط للدفع بها إلى المزيد من التعقيد، ما يُكلِّف المنطقة خسائرَ مادية وبشرية كبيرة على المنظورين القريب والمتوسط، لهذا فإن الأمرَ يستدعي مراجعةً إستراتيجيةً فورية لتحديد مُتغيرات الكبح للدفع بمبادرةٍ أمنيةٍ إقليمية، وهو ما يُمكن استنتاجُه من أسباب فشل المقاربات السابقة، إذ لا يُمكن لأي إستراتيجيةٍ خليجيةٍ أو عربية مواجهةَ الخطر الإيراني دونَ الفهمِ الحقيقي والعميق لمقاربة الأمن الإيرانية، والعمل بالخطط المضادة من خلال التركيز على العناصر الآتية:
1. إعادةُ مفهوم الأمن الإقليمي بمراجعةِ الأولويات وتوحيدِ المواقف بشأنِ القضايا الحساسة، وعلى رأسها الخطرُ الإيراني في المنطقة.
2. ضرورةُ مراجعة الأدوار الإقليمية للدولِ العربية للعملِ كجبهةٍ واحدة في مواجهة التهديدات الخارجية والتحدِّيات الداخلية، الأمرُ الذي يقتضي مُعالجةَ كلِّ الخلافات الإقليمية.
3. لا يُمكن بناءُ أمنٍ إقليمي، وتوازُنٍ عسكريٍ ناجِح لصدِّ الخطر الإيراني دونَ حضورٍ عسكريٍ وأمني للقوى الغربية ذات المصلحة الإستراتيجية في المنطقة، وخاصةً الولايات المتحدة وبريطانيا.
4. الأخطارُ الأمنية لا تُعالجُ دائمًا بسياسةِ الأحلاف، وإنما يُمكن اعتمادُ النظرية الوظيفية الجديدة في التكامُل الدولي، كما صاغَها أرنست هاس كمقاربةٍ لحشدِ المواقف العربية في مشروعٍ مُربحٍ للأطراف، يُمكن تطويره لاحقًا لمبادرةٍ أمنيةٍ قوية.
[1]– Firas Elias, op.cit., pp.114-115.
[2]– Ibid, p.116.
3- عبد الله فهد النفيسي، إيران والخليج، ديالكتيك الدمج والنبذ، ( الكويت: دار قرطاس للنشر، 1999م)، ص 12.
[4]– Firas Elias, «The Future of Iran’s influence in the middle East», Bolgesel Arastirmalar Dergisi, (Ankara: Ankara Kriz ve Siyaset Araştırmaları Merkezi -Ankasam, Vol.1, N°.2, October 2017), p. 111.
[5]– درع الوطن، إيران مصدر التهديد الرئيسي للأمن الخليجي والعربي، (01 يونيو 2019م)، تاريخ الاطلاع: 18 أبريل 2020م، https://bit.ly/2CbmECe
[6]– العربية نت، «إيران: أصبحنا امبراطورية عاصمتنا بغداد»، (08 مارس 2015م)، تاريخ الاطلاع: 18 أبريل 2020م،
[7]– سكاي نيوز عربية، تقرير.. أموال إيران المسمومة لوكلائها في المنطقة، ( 02 يناير 2018م)، تاريخ الاطلاع: 18 أبريل 2020م،
https://bit.ly/30SmBpp
[8]– العين الإخبارية، محمد ماهر، معهد أمريكي: إيران تنفق مليار دولار سنويًا لدعم الإرهاب بالشرق الأوسط، (18 نوفمبر 2018م)، تاريخ الاطلاع: 18 أبريل 2020م، https://bit.ly/36boT3q
[9]– Firas Elias, op.cit., p.104
–[10]درع الوطن، إيران مصدر التهديد الرئيسي للأمن الخليجي والعربي، مرجع سبق ذكره.
–[11] ميتشل بيلفر وخالد الشيخ، حرب إيران السرية على مملكة البحرين، سرايا الأشتر والجناح العسكري لحزب الله في البحرين، ترجمة عهود الشريع وسعود فهد، (الرياض: سلسلة دراسات صادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، يناير 2019م)، ص9-11.
–[12] درع الوطن، إيران مصدر التهديد الرئيسي للأمن الخليجي والعربي، مرجع سبق ذكره.
[13]– عامر ماجد ورنا عبود، «نظام المرور العابر في المضايق الدولية»، مجلة جامعة الشارقة للعلوم القانونية، (الشارقة: كلية الحقوق، جامعة الشارقة، المجلد 16، العدد 1، يونيو 2019م)، ص.64-66.
[14]– سكاي نيوز عربية، تقرير.. أموال إيران المسمومة لوكلائها في المنطقة، مرجع سبق ذكره.
[15]– U.S. Department of the Treasury, Office of Public Affairs, U.S. Government Fully Re-Imposes Sanctions on the Iranian Regime as Part of Unprecedented U.S. Economic Pressure Campaign, Press Releases (November 5, 2018), accessed on: 19 Mai 2020. https://bit.ly/2WG6yZk
–[16] للاطلاع أكثر على مفهوم الاقتصاد المقاوم انظر: عبد الرحمن فريحة، فهيم رميلي، «الخصائص الاقتصادية لإيران، الاقتصاد الإيراني بين العقوبات الخارجية والمقاومة الداخلية»، مجلة مدارات إيرانية، (برلين: المركز الديمقراطي العربي، المجلد 2، العدد 5، سبتمبر 2019م)، ص.32.
[17]– أمين هويدي، أزمة الأمن القومي العربي: لمن تدق الأجراس؟، (القاهرة: دار الشروق، 1991م)، ص 6.
[18]– جامعة الدول العربية، عيد تأسيس جامعة الدول العربية 75، تاريخ الاطلاع: 12 أبريل 2020م، https://bit.ly/2yBlzSs
[19]– أمين الهويدي، مرجع سبق ذكره، ص 24.
[20]– محمود جمال، الناتو العربي تحالفات هشة وتحديات مؤثرة، (إسطنبول: المعهد المصري للدراسات، نوفمبر 2018م)، ص 2.
–[21] ماجد المذحجي، أسيل سيد أحمد، فارع المسلمي، «أدوار الفاعلين الإقليميين في اليمن وفرص صناعة السلام»، ورقة سياسات، (صنعاء: مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية، عدد1، يونيو 2015م)، ص.3.
[22]– درع الوطن، إيران مصدر التهديد الرئيسي للأمن الخليجي والعربي، مرجع سبق ذكره.
[23]– ألكسندر مترسكي، الحرب الأهلية في اليمن: صراع معقد وآفاق متباينة، سلسلة تقييم حالة، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سبتمبر 2015م)، ص3.
[24] Michael Knights & Alex Almeida, «The Saudi-UAE war effort in Yemen (part 1), Operation golden arrow in Aden, Policy Watch, N°2464, 10 August 2015. https://bit.ly/2ACPf3e
[25]– محمود جمال، مرجع سبق ذكره، ص 4.
[26]– محمد بن سعيد المغيدي، «انطلاقة فريدة بإستراتيجية جديدة»، التحالف، (الرياض: التحالف العسكري لمحاربة الإرهاب، العدد 2، فبراير 2020م)، ص 5.
–[27] قمة الرياض 2017م هي سلسلة من ثلاثة مؤتمرات عُقدت بين 20 و 21 مايو 2017م بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكي إلى المملكة العربية السعودية، وتضمنت القمة اجتماعًا ثنائيًا بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية واجتماعين آخرين، أحدهما مع دول مجلس التعاون الخليجي والآخر مع الدول العربية والإسلامية.
[28]– محمود جمال، مرجع سبق ذكره، ص.7.
[29]– محمد حسون، «استراتيجية حلف الناتو الشرق أوسطية بعد انتهاء الحرب الباردة»، مجلة العلوم الاقتصادية والقانونية، (دمشق: جامعة دمشق، المجلد 24، العدد الأول، 2008م)، ص 501.
[30]– Barthélémy Courmont & Susanne Nies, Elargissement des missions de l’OTAN et construction de l’espace de sécurité européen dans ses dimensions interne et externe: rationalisation, empiètement ou chevauchement?, (Paris: Institut de Relations Internationales et Stratégiques IRIS, 2004), p.54.
[31]– صحيفة الشرق، محمد بن مبارك الخليفي، «الترتيبات الأمنية بالخليج ضرورة لحماية المنطقة من الانحدار تحت وطأة الإرهاب»،) 27 نوفمبر 2005م)، تاريخ الاطلاع: 19 مايو 2020م، https://bit.ly/2WFSM8V
[32]– مصطفى علوي سيف، إستراتيجية حلف مال الأطلسي تجاه منطقة الخليج العربي، إستراتيجية (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات الإستراتيجية، العدد 129، 2008م)، ص 56.
[33]– أحمد هاشم، سياسة التحالف الدولي لحماية الملاحة.. تشكيل بحري لردع تهديدات إيران، العين الإخبارية، (18 سبتمبر 2019م)، تاريخ الاطلاع: 12 أبريل 2020م، https://bit.ly/3cevX0S
[34]– Claire Mills, «Operation Kipion: Royal Navy assets in the Persian Gulf» Commons Library Briefing, (London: House of Commons Library, N° 8628, 6 Jan 2020), p.3.
[35]– العين الإخبارية، تحالف حماية الملاحة في الخليج يبدأ مهامه من البحرين، (07 نوفمبر 2019م)، تاريخ الاطلاع: 07 أبريل 2020م، https://bit.ly/3dZCIW9
–[36] مونت كارلو الدولية، بداية عمل التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة لحماية الملاحة في الخليج، (07 نوفمبر 2019م)، تاريخ الاطلاع: 07 أبريل 2020م، https://bit.ly/2XdFHo5
[37]– العين الإخبارية، تحالف حماية الملاحة في الخليج يبدأ مهامه من البحرين، مرجع سبق ذكره.
[38]– سكاي نيوز عربية، إنفوغرافيك.. ما أهداف التحالف الدولي لحماية الملاحة؟، (20 سبتمبر 2019م)، تاريخ الاطلاع: 07 أبريل 2020م، https://bit.ly/34hyFQF
[39]– Weekly Maritime Report, Castor Vali, (U.K: Global Risk Management, Dec 2019), p.5