تُعَدّ الانتفاضة التي شهدتها إيران في ديسمبر العام الماضي الأهم من بين الاضطرابات التي مرت عليها منذ عام 2009، والتي كانت تُعرف باسم «الثورة الخضراء»، كما أن ثورة ديسمبر حملت ملامح مغايرة عن تلك الخضراء من نواحٍ عدة، أبرزها أن مدينة مشهد كانت هي نواتها الاحتجاجية لتتمدّد إلى باقي المدن الصغيرة، بعكس مظاهرات 2009 التي انطلقت من العاصمة طهران بقيادة المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي احتجاجًا على نتائج الانتخابات الرئاسية آنذاك، بعد أن ساد اعتقاد بأن منافس موسوي (محمود أحمدي نجاد) قد زوّر الانتخابات بالتواطؤ مع المرشد الأعلى علي خامنئي والحرس الثوري. لقد كانت الاحتجاجات الأخيرة بعيدة تمامًا عن الإصلاحيين ولا عَلاقة لهم بها، ولم يأتِ المتظاهرون على ذكر موسوي القابع تحت الإقامة الجبرية منذ سبع سنوات، وانطلقت بشكل عفوي دون شخصيات قيادية وانتشرت على نطاق جغرافي واسع لتعكس وبشكل واضح المعارضة غير المسبوقة للنظام منذ تأسيس الجمهورية الإيرانية عام 1979، كما أن غالبية المتظاهرين كانوا من طبقة الفقراء والطبقة المتوسطة والطبقة العاملة في إيران وهي ظاهريًّا بمثابة القاعدة للنظام. كما هتف كثيرون «الموت لخامنئي» داعين إلى إسقاط النظام الثيوقراطي المستبد، وهاجموا عددًا من مراكز الشرطة وغيرها من الممتلكات العامة. والسمة الأهم لهذه الاحتجاجات أنها لم تكن ضد قائد أو تيار بعينه، بل تجاه النظام بأكمله. وقد أدان الإصلاحيون، الحريصون على الحفاظ على النظام الإيراني، الاحتجاجات بشدة ونأوا بأنفسهم عن المطالبة بإسقاط النظام. ورغم أن هذه الانتفاضة لم تؤدِّ إلى إسقاط النظام، ومن الممكن أيضًا أن تبقى السلطة بيد الملالي لسنوات قادمة، فإن الاحتجاجات المستمرة التي تندلع بين الفينة والأخرى والتي تطالب بإنهاء الحجاب الإلزامي للمرأة الإيرانية قد أضعفت إلى حد كبير من الجمهورية الإيرانية وهددت بقاءها. وأتاحت في الوقت نفسه فرصة للرئيس حسن روحاني وتياره الإصلاحي لإجراء الإصلاحات التي بات من الضروري اتخاذها. والسؤال هنا: هل سيكون روحاني ومؤيدوه مستعدّين أو قادرين على مواجهة هذا التحدي؟
يأس يشعر به الملايين.. وسيناريوهات محتملة:
عندما كان روحاني مرشحًا للرئاسة وعد بالتغلب على المِحَن التي تواجهها إيران عن طريق حل الأزمة النووية وتحسين الاقتصاد والتخفيف من السياسة الاجتماعية القمعية للنظام. وقد تبدو إنجازات روحاني الاقتصادية جيدة على الورق بسبب ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي الإيراني في أعقاب الاتفاق النووي، إلا أن الانتفاضة قد كشفت عن اليأس الذي يشعر به الملايين من الإيرانيين، إذ تسبب الفساد وسوء الإدارة والعقوبات المفروضة على إيران في خلق أزمة اقتصادية لم يسبق لها مثيل، ووفقًا لإحصاءات الحكومة الإيرانية الرسمية يعيش ما يقرب من ثلث الإيرانيين تحت خط الفقر، على الرغم من أن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن العدد يتجاوز ذلك بكثير. ورغم مواصلة المجتمع الإيراني لطريقه نحو التحرر، فإنه يبدو أن انتهاكات حقوق الإنسان قد ازدادت في عهد روحاني، وأن الإنجاز المميز للرئيس روحاني (الاتفاق النووي) بات معرضًا للخطر في حال نفذ الرئيس ترامب تهديداته بالانسحاب منه في حال لم يتم «تعديله». وقد يدرك روحاني أن إيران بحاجة ماسّة إلى إصلاحات كبيرة، ولكن قدرته على إحداث تغيير حقيقي يعرقلها -إن لم يمنعها تمامًا- وجود خامنئي والمؤسسات الإيرانية غير المنتخبة والرجعية، بما فيها مجلس صيانة الدستور وعديد من المؤسسات شبه الحكومية وكذلك قوّات الأمن بما فيها قوّات الحرس الثوري. وكما أن روحاني حذِر بطبيعته، ولا يرغب في إسقاط النظام الثوري الذي لا يزال متمسكًا به بشدة، فإنه يجب أن يدرك أن الجمهورية الإيرانية تواجه فشلًا منهجيًّا على جميع المستويات. فقد أفلست أكثر من اثنتي عشرة مؤسسة مالية، وأُغلقت مئات المصانع أو ظلت عاطلة عن العمل، كما بات مئات الآلاف إن لم يكن الملايين من العمال الإيرانيين دون أجور، وانخفضت قيمة العملة الإيرانية إلى أدنى مستوى. عدا عن أن إيران تواجه أزمة نقص مياه حادة ناجمة عن تغير المناخ وسياسات الحكومة، وتواجه أسوأ أنواع التلوث على سطح الأرض، وتعاني أيضًا من زلازل دورية كشفت عن عجز النظام أو عدم رغبته في رعاية مواطنيه. وبينما يواجه النظام غضب المتظاهرين، وفي ظل انعدام وجود معارضة سياسية متماسكة، فقد تحاول بعض الحركات والمنظمات إسقاط الجمهورية الإيرانية إلى الأبد. وبدراسة الوضع الإيراني الحالي فإن هناك عدة سيناريوهات محتملة قد تحدث في المستقبل. ومن المستحيل تحديد السيناريو الذي سيقع، إلا أن بعض هذه السيناريوهات أكثر احتمالًا من غيرها نظرًا لوضع إيران الهش.
مأزق المرشد القادم:
إن خامنئي هو المرشد الأعلى لجمهورية إيران منذ عام 1989، إذ تولى في ذلك الوقت سلطة الدولة كزعيم ديني وسياسي وعسكري في إيران. ومع بلوغه الـ78 من عمره يجد خامنئي نفسه أمام تحديات متزايدة. فقد تبدو الجمهورية الإيرانية قوية في أنحاء الشرق الأوسط، لكنها أصبحت أضعف في الداخل. كما فقد خامنئي شرعيته المحلية المتبقية بعد تدخله المباشر في الانتخابات الرئاسية عام 2009. ولم يعُد التيار الإصلاحي -الموجود على هامش النظام- يثق به. ولا يزال ثلاثة من زعمائه الرئيسيين بمن فيهم موسوي وزوجته زهرة رهنورد ومهدي كروبي قيد الإقامة الجبرية بموجب أوامره. حتى أحمدي نجاد -الذي كان يدّعي تأييد خامنئي- أصبح كالشوكة في حلقه. ولعل أكثر الأمور المقلقة لقائد في سِنّ خامنئي هو احتقار معظم الشعب الإيراني له، إذ مزقوا صوره وأشعلوا فيها النيران خلال الانتفاضة الأخيرة وهتفوا «الموت لخامنئي» في جميع أنحاء البلاد. ولا تقتصر سلطة خامنئي على مفهوم ولاية الفقيه، بل على النظام الثوري ككل، والذي أسقط النظام الملكي الإيراني السابق. كما يُنظر إلى خامنئي -كسلفه الشاه- على أنه طاغية إيران وليس حاكمها الشرعي. وقد يبقى في السلطة خلال الاضطرابات الحالية في إيران، لكنه يجب أن يخشى على خليفته. فقد كشفت الانتفاضة هشاشة النظام، ولا يبدو واضحًا أن خليفة خامنئي -أيًّا كان- سيكون قادرًا على الوصول إلى مستوى سلطته أو الحفاظ عليها. فقد أثبت إبراهيم رئيسي افتقاره إلى الشعبية في منافسته الانتخابية ضد روحاني في العام الماضي. وكان رئيسي -الذي يشغل حاليًّا منصب رئيس مؤسسة ضريح الإمام رضا في مشهد- عضوًا في المحكمة المسؤولة عن إعدام ما يقرب من 10 آلاف سجين سياسي في عام 1988. وفي انتخابات عام 2017 حصل على نسبة 38 في المئة من الأصوات. ومن المستبعد جدًّا أن يرضخ الشعب الإيراني أو حتى غالبية الصفوة لقائد آخر مثل خامنئي أو رئيسي، فيما عدا القاعدة الرجعية التي تدعمه، فهي وحدها التي تريد أن يكون نصيب منصب المرشد الأعلى لشخص يشبهه، وهذا ليس لأسباب آيديولوجية أو دينية فحسب، بل لأن خامنئي كان كالصنوبر الذي انساب وأغدق المال على عديد من رجال الدين والحرس الثوري بنظام المحسوبية. ومن الممكن أن يقوم روحاني بالمناورة ليخلف خامنئي، خصوصًا إذا تُوفي المرشد الأعلى قبل انتهاء ولايته الثانية والأخيرة. وسيكون للرئيس -في نهاية المطاف- دور رئيسيّ في قرار خلافة خامنئي. لكن من غير المرجح أن يتسامح مؤيدو خامنئي -وخصوصًا الحرس الثوري- مع زعيم مثل روحاني، خصوصًا أن عليهم أن يتقاسموا كثيرًا من غنائمهم مع تياره. ومن المرجح أيضًا أن يغير روحاني سياسة الجمهورية الإيرانية إلى شكل لا يتماشى مع أهوائهم. وفي ظل غياب مرشح رئاسي يفضله الحرس الثوري فقد يختار الحرس تولي السلطة بأنفسهم والاستغناء التام عن مؤسسة المرشد الأعلى.
عنف الحرس الثوري لم يعُد يجدي:
تنامى الحرس الثوري بشكل كبير تحت قيادة خامنئي الذي استغل نفوذ هاشمي رفسنجاني وسلطته حتى يصبح المرشد الأعلى قبل وفاة الخميني. وقد عوضت عَلاقة خامنئي مع الحرس الثوري عن افتقاره إلى المؤهلات الدينية والكاريزما والفطنة السياسية. وتحت حكم خامنئي أصبح الحرس الثوري الممثل الأول لإيران في المجال الاقتصادي والعسكري والداخلي. كما لعب الحرس الثوري دورًا حاسمًا في السياسة الإيرانية من خلال التدخل في انتخابات عامَي 2005 و2009 وتنصيب نفسه كوصيّ على مبادئ النظام السياسي والآيديولوجي. ويتولى الحرس أيضًا قيادة السياسة الإقليمية لإيران، وهو المسؤول عن بقاء نظام بشار الأسد في سوريا بفضل جهود قائد قوة القدس (الجنرال قاسم سليماني) والميليشيات الشيعية التابعة لها. وقد لعب الحرس الثوري دورًا هامًّا في ضمان فوز أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية عام 2009، كما لعب دورًا بارعًا في قمع الانتفاضة الأخيرة. وقد يدرك الحرس الثوري أن استخدامهم للعنف الوحشي مع الإيرانيين قد يعرض النظام للخطر، عن طريق إشعال فتيل مزيد من الاحتجاجات أو إثارة العنف على يد معارضيهم. وبالتالي فقد قامت وزارة الداخلية ووزارة الاستخبارات (اللتان تخضعان لسلطة روحاني) بدور قيادي في قمع الانتفاضة، ولم يرسل الحرس الثوري قوّاته إلى الشوارع. ورغم كون الحرس الثوري قوة قمعية فإن قياداته تولي اهتمامًا للمشاعر العامة والواقع السياسي في إيران. وفي أعقاب وفاة خامنئي سيكون الحرس الثوري أحد صناع القرار في إيران. وعلى الرغم من أن مجلس خبراء القيادة -وهو هيئة منتخبة لرجال الدين- يتمتع بالسلطة الدستورية في تعيين الزعيم المقبل، فإن القرار سيُتخذ وراء الستار من قِبل الحرس الثوري. ومن الصعب جدًّا تصوّر وجود قائد لم يوافق عليه الحرس الثوري، وروحاني لن يكون مرشحًا مثاليًّا للقيادة العليا. وبالتالي فإن الحرس الثوري سيختار شخصًا محافظًا تربطه عَلاقات وثيقة بالمؤسسة الأمنية مثل رئيسي. ولكن على الحرس الثوري أيضًا أن يأخذ في اعتباره الحالة غير المستقرة للجمهورية الإيرانية، ومدى إمكانية النظام الذي يدعم وجود الحرس الثوري في أن يستمر تحت قيادة زعيم آخر مثل خامنئي. ولن يكون من الصعب ورود احتمالية أن يتخذ الحرس الثوري إجراءات حاسمة لحماية مصالحه، فقد يميل الحرس إلى تولي السلطة الكاملة في حالة وفاة خامنئي أو حتى في حال اندلاع انتفاضة أو ثورة أخرى، كما يمكنهم أن يستغنوا عن منصب المرشد الأعلى أو أن يختاروا واحدًا أو مجموعة من رجال الدين كرمز لشغل هذا المنصب دون سلطة حقيقية. وفي كلتا الحالتين فإن الحرس الثوري يرتبط بالنظام الحالي ومن غير المرجح أن يمحو الماضي أو أن يحظى بالشعبية فجأة. فإيران ليست بلدًا يعين نفسه على الحكم العسكري، إذ ترسخت القواعد الديمقراطية في مجتمعها، ويتوقع شعبها مزيدًا من الحرية والتمثيل السياسي ومساءلة الحكومة. وسيواجه الحرس الثوري الفاسد أيضًا صعوبة كبيرة في حكم بلد يواجه مشكلات اقتصادية واجتماعية وبيئية هائلة. ومن المرجح أن تترجم سياسة الحرس الثوري الخارجية والعسكرية -التي تتمثل في مواجهة مصالح الولايات المتحدة وتقديم الدعم لحزب الله واستمرار البرنامج النووي- إلى مواجهة واشنطن وبالتالي سيستمر تدهور إيران الاجتماعي والاقتصادي. ثم إن الحرس الثوري قد يتمتع بالقوة ولكن أسلوبه الأساسي (استخدام العنف والقمع) سينفر الشعب الإيراني الغاضب والمضطرب منه.
شعب يتطلع إلى التغيير.. ونظام عاجز عن الإصلاح:
حكم النظام الثيوقراطي إيران لمدة 39 عامًا، ولكنّ بقاءه في السلطة معرض للخطر بسبب فشله المنهجي. واحتمال زوال النظام كبير، فقد أظهرت انتفاضة عام 2017 أن عديدًا من الإيرانيين (بدءًا بالناشطين في مجال حقوق المرأة وانتهاءً بالعمال والمزارعين) لم يعودوا يخشون الوقوف في وجه أسلوب القمع الذي يتبعه النظام. وفي خطابه الأخير إلى خامنئي حث مهدي كروبي المرشد الأعلى على إجراء تغييرات جذرية قبل فوات الأوان، ففي أعقاب انتفاضة عام 2017 بدأ عديد من الإيرانيين -بمن فيهم الإصلاحيون- في التساؤل عما إذا كان النظام قادرًا على اتخاذ إصلاحات جذرية. كما ظهر اتجاه فكري جديد على وسائل التواصل الاجتماعي تحت اسم «براندزام» بالفارسية، بمعنى «أطالب بالإسقاط»، داعيًا إلى قلب النظام تمامًا. إنّ سجل الإصلاحيين غير حافل، ولا يملك روحاني كثيرًا ليقدمه سوى الاتفاق النووي، وبالتالي فمن السهل تصوّر سلسلة من الأحداث المتتالية كالاحتجاجات الشعبية الكبيرة والعصيان المدني والمطالبة بإسقاط النظام بالعنف، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى سقوط النظام وإجراء استفتاء حول قيام نظام سياسي جديد. ويمكن أن يتخذ النظام السياسي الجديد نماذج عديدة، مثل النظام الملكي الدستوري أو نظام الجمهوري العلماني، ويُعتقد أن كلا النموذجين يحظى بدعم شعبيّ كبير في إيران. وكثيرًا ما كان التاريخ الإيراني يخلط التوقعات، لا سيّما توقعات الغرباء. فقد وصف الرئيس السابق جيمي كارتر إيران بأنها «جزيرة من الاستقرار» قبل فترة وجيزة فقط من ثورة 1979، كما يصف الكثير ممن هم داخل إيران وخارجها الجمهورية الإيرانية بأنها حقيقة من حقائق الحياة الباقية. لكن انتفاضة عام 2017 والانقسامات الداخلية بين صفوة النظام وعدم قدرة خامنئي على الحفاظ على نظام سياسي مستقر، تشير إلى احتمالية زوال النظام، الذي إذا سقط فلن يكون سقوط مفاجئًا، فغالبية الشعب الإيراني اليافع بحاجة ماسة إلى التغيير، وقد أظهرت إيران حتى الآن أنها عاجزة عن الإصلاح الأساسي.
مادة مترجمة عن موقع “المجلس الأطلنطي”
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز