مستقبل البرنامج النووي الإيراني في ظل دبلوماسية ترامب القسرية

https://rasanah-iiis.org/?p=37443

للباحثين

د. محمود حمدي أبو القاسم
باحث بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)

سعود السلمي
باحث متدرب بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)


أنهت الولايات المتحدة وإيران الجولة الثانية من المفاوضات غير المباشرة بشأن القضية النووية في العاصمة الإيطالية روما في 19 أبريل 2025، وسط أجواء من التفاؤل، إذ صرح وزير الخارجية العُماني، الذي يلعب دور الوسيط بين الجانبين الأمريكي والإيراني، بأن المرحلة التالية تهدف إلى إبرام “اتفاق عادل ودائم وملزم يضمن خلوّ إيران تمامًا من الأسلحة النووية ورفع العقوبات، ويحافظ على قدرتها على تطوير الطاقة النووية السلمية”، ومن المقرر أن يبدأ الطرفان محادثات على مستوى الخبراء، وذلك من أجل نزع فتيل الأزمة المشتعلة بين الجانبين بسبب الخلافات حول البرنامج النووي الإيراني.

ومن المعلوم أن الأمور قد ازدادت تعقيدًا بالنسبة إلى إيران بعدما عاد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025 بنهجه المتشدد تجاه إيران، وبعلاقته العضوية مع إسرائيل، وبرؤية أكثر تشددًا تجاه المنطقة ككل، وبعقوباته القصوى على إيران ليُضاف إلى طهران مزيد من التحديات والضغوط. وجدير بالذكر الإشارة إلى أن ترامب خلال فترة رئاسته الأولى كان قد انسحب من الاتفاق النووي في 2018 باعتباره “أسوأ اتفاق وقَّعت عليه الولايات المتحدة”، وفرض على إيران سياسة الضغوط القصوى على أمل إجبار إيران على توقيع اتفاق جديد بدلًا من اتفاق 2015 الذي وقَّعته إدارة أوباما، لكن الرئيس الأمريكي قد أنهى ولايته الأولى ولم ينجح في تنفيذ وعده، وخلفه الرئيس جو بايدن وفشل هو الآخر في إعادة إحياء الاتفاق أو الوصول إلى اتفاق جديد من خلال الدبلوماسية.

لكن مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض مرة ثانية في مطلع عام 2025، أتيحت الفرصة للرئيس الأمريكي لاستكمال العمل الذي بدأه ولم يُنهِه. لذلك، بعد عودته إلى البيت الأبيض، كان أوّل قراراته استعادة الضغوط القصوى على إيران، وتوجيه رسالة إلى المرشد على خامنئي منحه خلالها مهلة مدتها شهران لتوقيع اتفاق جديد، أو اللجوء إلى مواجهة حملة عسكرية غير مسبوقة، وهو الضغط الذي اضطر المرشد بناءً على نصائح وضغوط داخلية إلى الاستجابة له بالموافقة على التفاهم بعدما كان يرفض التفاوض تحت الضغط والتهديد.

الأسوأ من ذلك بالنسبة إلى إيران أن هذه المحادثات جاءت في وقت تواجه فيه طهران تحديات جسيمة، إذ دخلت في أول مواجهة واسعة النطاق ومباشرة مع إسرائيل، بعد السابع من أكتوبر 2024،  وتكبدت على خلفية هذه المواجهة خسارة فادحة. هذه الخسارة لم تشمل فقدان محورها الإقليمي فاعليته وقدرته على التأثير وحسب، بل إنها طالت سيادة إيران وهددت أمنها القومي واستهدفت قدراتها الإستراتيجية، الأمر الذي وضعها في الزاوية، لدرجة أن النظام استقبل الهجمات الإسرائيلية الأخيرة لأراضيه في أكتوبر 2024 دون ردّ، ناهيك بالأزمة الاقتصادية الحادة والأوضاع الداخلية المتدهورة نتيجة العقوبات.

في ظل هذه الظروف يثار التساؤل حول مستقبل برنامج إيران النووي، هل سيكون عرضة للتفكيك؟ أم ستفشل المفاوضات النووية؟ وهل ستتعرض إيران لهجوم عسكري؟ أم سيوقِّع الجانبان اتفاقًا جديدًا؟ ستحاول هذه الورقة استشراف السيناريوهات المتوقعة بشأن البرنامج النووي الإيراني، وذلك على أساس تأثير عدد من العوامل المؤثرة في المفاوضات الجارية، ومن هذه العوامل نهج إدارة ترامب الصارم، والأوراق الحاسمة لدى الأمريكيين، الأمر الذي يمنحهم قدرة أكبر على التأثير خلال هذه المرحلة في خيارات إيران، وبالمقابل القيود التي تفرض ضرورة الانحناء للعاصفة وتقديم استجابة تتفادى بها العواقب الوخيمة التي قد تطال بقاء النظام، وموازنة ذلك مع التهديدات المتعلقة بمكانتها ونفوذها المرتبطين بالبرنامج النووي، وخطوطها الحمراء في هذه المفاوضات، وكذلك موقف إسرائيل الذي طالما كان عاملًا مهمًّا في التأثير في هذا الملف، لا سيما في ظل العلاقة المتميزة مع إدارة ترامب والدعم اللامحدود لها من الجانب الأمريكي، والموقف الخليجي من هذه القضية، الذي يختلف عن الموقف في عام 2015 عند توقيع الاتفاق النووي مع إيران، فضلًا عن الواقع الدولي والإقليمي بمعطياته المختلفة، الذي يمتلك فيه الطرفان أوراقًا ويواجه ضغوطًا، فضلًا عن حلفاء وخصوم لديهم نفوذهم على مسار المفاوضات.

أولًا: سيناريو تفكيك البرنامج النووي الإيراني

يشير هذا السيناريو إلى احتمال قبول إيران تفكيك برنامجها النووي، عبر المفاوضات أو تحت الضغط الأقصى الذي قد يصل إلى حد التدخل العسكري. وفق هذا السيناريو يُفترض أن تتخلى إيران عن الاحتفاظ بأي قدرات نووية، وتقود الولايات المتحدة بإشراف دولي هذه المهمة على غرار ليبيا، التي فكّك رئيسها الراحل معمر القذافي برنامجها النووي بالكامل في عام 2003 مقابل رفع العقوبات. ويضمن هذا السيناريو إزالة خطر استكمال إيران لمشروعها النووي، ومن ثم عدم إحداث خلل في ميزان القوة الإقليمي، أو امتلاك قوة ردع غير تقليدية في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل.

ومع أن هذا السيناريو لم يكن مطروحًا من قبل على هذا النحو، لكنه أحد التصورات المطروحة بشأن برنامج إيران النووي، وذلك للمعطيات الآتية:

1. توجهات عناصر من إدارة ترامب:

يدعو بعض الأطراف في إدارة ترامب وفي الكونغرس إلى المطالبة بتفكيك البرنامج النووي الإيراني، ومنهم مستشار الأمن القومي مايك والتز الذي دعا إلى “تفكيك” كامل للبرنامج النووي الإيراني، فضلًا عن الأغلبية في الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون الأكثر تشددًا تجاه إيران، والذين يدعمون جهود ترامب لتفكيك البرنامج النووي الإيراني([1]). وبينما يحيط بترامب عديد من الصقور المعادين لإيران، فقد يستغلّ هؤلاء تعرُّض المحادثات لانتكاسة لإقناع الرئيس بعمل عسكري ضد إيران، من أجل تفكيك برنامجها النووي بالقوة. وبالتأكيد لا يمكن غض الطرف عن سلوك ترامب نفسه غير المتوقع، وتصريحاته التي تحمل في طياتها تهديدات لإيران.

2. تمسُّك إسرائيل بتفكيك برنامج إيران النووي:

تميل إسرائيل إلى تفكيك برنامج إيران النووي ولا تفضل أي اتفاق ولو كان أكثر صرامة، وتحاول الضغط على واشنطن لتبنّي هذا السيناريو في أي مفاوضات، ففي آخر زيارة له للبيت الأبيض قبل بدأ جولة مسقط بين الجانبين الأمريكي والإيراني في مسقط، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنه وترامب “متفقان على أن إيران لن تمتلك أسلحةً نووية. يمكن تحقيق ذلك بالاتفاق، ولكن فقط إذا كان الاتفاق على غرار الاتفاق الليبي… الدخول إلى المواقع، وتفجير المنشآت، وتفكيك جميع المُعَدّات، تحت إشرافٍ وتنفيذ أمريكيَّين”. وقد عاد نتنياهو بعد لقاء ترامب لتأكيد أنه لن يقبل إلا بالإنهاء الكامل لأي قدرة نووية إيرانية، وبأنه سيوافق فقط على “الطريقة التي جرى بها الأمر في ليبيا”([2])، وربما يعطي انقلاب نتنياهو على اتفاق الهدنة في غزة ومساندة ترامب لموقفه احتمال تكرار الأمر مع المفاوضات الجارية مع إيران، بحيث يتبنى الجانبان إستراتيجية تفاوضية تقود إلى الفشل المتعمد، وتمهيد الطريق للهجوم العسكري.

3. الجهوزية للعمل العسكري:

تبدي الولايات المتحدة وإسرائيل استعدادهما للعمل العسكري بقوة لتدمير البرنامج النووي الإيراني، وهي عملية قد لا يتوقف تأثيرها عند هذا الحد، بل قد تهدد بقاء النظام. والشاهد في ذلك التعزيزات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط، ومن أهم مظاهرها تسليم واشنطن الكيان الإسرائيلي قنابل خارقة للتحصينات، بالإضافة إلى إجراء واشنطن تمارين جوية مع إسرائيل يمكن قراءتها في إطار استعداد لضربة محتملة إذا رفضت إيران التفاوض، كما نشرت واشنطن قاذفات إستراتيجية من طراز “بي-2” في جزيرة دييغو غارسيا النائية في جنوب المحيط الهندي، ومعروف أن هذه القاذفات لديها القدرة على إطلاق القنابل التي يُعتقد أنها ضرورية لتدمير المنشآت النووية الإيرانية تحت الأرض بشكل فعال، وقد استخدمت واشنطن مؤخرًا هذه القاذفات في استهداف الحوثيين حلفاء إيران في اليمن في تهديد شبه صريح لإيران([3]).

4. أولوية بقاء النظام:

على الرغم من اعتبار الحظر الكامل على أي تخصيب نووي، حتى للأغراض السلمية، خطًّا أحمرَ مطلقًا بالنسبة إلى طهران، لكن ماذا لو كانت ضغوط واشنطن وإسرائيل تفرض على إيران الاختيار بين بقاء النظام أو الاحتفاظ ببرنامجها النووي؟ لا شك أن النظام لن يخجل من تفكيك برنامجه من أجل الحفاظ على نموذج الجمهورية الإسلامية باعتبار ذلك مصلحة مصيرية، كما أن النخبة الحاكمة والحرس الثوري لن يخجلوا كذلك من قبول هذا المقترح من أجل الدفاع عن مصالحهم وهيمنتهم على السلطة، لا سيما أن في ميزان القوة على الأرض فجوة كبيرة، وهناك نهج أمريكي جديد في ظل ترامب يستند إلى القوة ولا يعتدّ بالقواعد والمعايير التي تمكنت إيران في ظلّها من إدارة أزمتها النووية مع المجتمع الدولي. كذلك فإن الولايات المتحدة وإسرائيل تمتلكان أوراق ضغط هائلة على إيران من أجل حملها على قبول مثل هذا الخيار، فعقوبات ترامب القصوى بدأت تؤتي ثمارها على طهران وتنهار العملة الوطنية بصورة غير مسبوقة وتسيطر صورة متشائمة على الأوضاع الاقتصادية في البلاد.

مع كلٍّ، فإنَّ سيناريو التفكيك مستبعد، أولًا لأنه خط أحمر لطهران لن يُتنازل عنه بسهولة، ثانيًا لأن المفاوضات الجارية تشير إلى أنه قد جرى التغاضي عنه وليس أولوية واشنطن الآن، وأخيرًا يبدو اللجوء إلى الخيار العسكري لضرب المنشآت النووية وتفكيك برنامجها آخر الخيارات بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وهي تستخدمه للضغط والحصول على أكبر قدر من المكاسب على طاولة المفاوضات، لأنه في ظل اللجوء إلى الحل العسكري من الوارد أن تردّ إيران فورًا بهجمات إقليمية من جانبها، مما يُفاقِم التوتر في الشرق الأوسط، فضلًا عن أن نجاح العمل العسكري ليس مضمونًا، بل على العكس قد يطلق يد إيران ويسرع جهودها من أجل امتلاك سلاح نووي، وحدوث خلل في ميزان القوة النووية، سيؤدي إلى إشعال سباق تسلُّح، إذ ستسعى جهات إقليمية رئيسية إلى اتباع مسار مماثل لتجنُّب التعرُّض للخطر، الأمر الذي سيفاقم حالة عدم الاستقرار والقلق في منطقة مضطربة أصلًا، وفضلًا عن ذلك فإن هذا الخيار لا يلقى دعمًا أوروبيًّا كافيًا، كما تعارضه الصين وروسيا، وربما بعض دول المنطقة وفي مقدمتهم دول الخليج.

ثانيًا: سيناريو اتجاه إيران لامتلاك سلاح نووي

لكن ماذا لو فشلت المفاوضات الحالية في تحقيق تسوية ملائمة تجري بها السيطرة على البرنامج النووي الإيراني، ولجأت واشنطن إلى مزيد من العقوبات التي تهدد بقاء النظام، أو لجأت واشنطن أو إسرائيل إلى الخيار العسكري وجرى توجيه ضربة إلى المنشآت العسكرية أو استهداف إسقاط النظام؟ قد يكون أحد السيناريوهات هو أن تندفع إيران إلى تخطي العتبة النووية والمخاطرة بامتلاك سلاح نووي باعتباره قوة ردع في مواجهة التحديات المصيرية.

يعزز اتجاه إيران إلى هذا الخيار عدة عوامل، أهمها:

1. المطالب الداخلية وإمكانية تعديل فتوى خامنئي:

ليس من المستبعد أن تلجأ إيران إلى امتلاك سلاح نووي، وذلك من أجل تحقيق توازن ردع مع الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ تتعرض إيران لضغوط غير مسبوقة وتهديدات وجودية تمسُّ أمنها ومصالحها ونفوذها الإقليمي، كما يفرض عليها الخلل في توازن القوة تقديم تنازلات قد تهدد النظام وتمسّ شرعيته وتتعارض مع أيديولوجيته، وقد عبَّرت عن هذا التوجه عناصر مؤثرة من داخل النظام طالبت المرشد مرارًا وتكرارًا خلال الفترة الأخيرة بتغيير عقيدة البلاد النووية، وجاء آخر هذه الإشارات من مستشار المرشد على لاريجاني، الذي قال إنّ «فتوى المرشد تحرّم السلاح النووي، لكن إذا أخطأت أمريكا فقد يُضطر الشعب الإيراني إلى المطالبة بتصنيعه»([4]). ورغم أن إيران تحاول تبرئة ساحتها من خلال فتوى خامنئي بشأن السلاح النووي، لكن في الحقيقة أيديولوجيا إيران مرنة، وليس من الصعب على المرشد أن يغير موقفه، خصوصًا إذا ترسخ لديه الاعتقاد بأن امتلاك سلاح نووي بات أمرًا لا غنى عنه من أجل الحفاظ على الجمهورية “الإسلامية”.

2. المعرفة التقنية واقتراب إيران من العتبة النووية:

إنَّ المعرفة التقنية التي باتت تمتلكها إيران في ما يتعلق بتخصيب اليورانيوم تمنح إيران الفرصة متى اتخذت قراراها بأن تتجه لامتلاك سلاح نووي في غضون فترة قصيرة، فوفقًا لآخر تقرير صدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فبراير 2025، فإنّ مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ارتفع إلى 92.5 كيلوغرام في فبراير 2025، بعدما بلغ 182.2 كيلوغرام في نوفمبر 2024، ممّا يشير إلى تسارع واضح في معدل الإنتاج، كما أشار تقرير سرّيّ للوكالة بأن إيران عملت على تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة داخل منشأة فوردو، وهو ما يعني زيادة كبيرة في إنتاج اليورانيوم العالي التخصيب، وبالتالي تستطيع طهران إنتاج المواد الانشطارية اللازمة لرأس نووي في غضون فترة قصيرة([5]).

3. الخلل في ميزان القوة وحاجة إيران لتحقيق توازن الردع:

تعرَّض محور إيران الإقليمي لهجمة شرسة من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، وانهارت عقيدة الدفاع الأمامي، كما واجهت طهران انكشافًا أمنيًّا واختراقًا غير مسبوق، وجرى تهديد سيادتها واستهداف قدراتها الدفاعية، الأمر الذي أظهر ضعفها أمام خصومها، كما خرج حزب الله وخرجت سوريا وفصائل المقاومة الفلسطينية من معادلة التوازن الإقليمي الخاصة بإيران، ويتعرض الحوثيون لهجمة أمريكية واسعة النطاق. وقد أخلَّت هذه التطورات بقدرات الردع الإيرانية، ويجادل المتشددون في طهران بشكل متزايد بأنهم في حاجة إلى الأسلحة النووية للحفاظ على أمن إيران وسيادتها.

4. اختلاف الظروف عن نموذج ليبيا:

عندما نجحت واشنطن في تفكيك البرنامج النووي الليبي عام 2003، كان ذلك نتيجة لعوامل، أبرزها حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، إذ إنّ كانت الولايات المتحدة تنظر إلى ليبيا بقائدها آنذاك معمر القذافي باعتبارها دولة إرهابية، مستندة إلى دعمها لجماعات مسلحة ومشاركتها في تفجيرات مثل تفجيرات لوكربي عام 1988م. كذلك كانت الحملة ضد العراق وإسقاط صدام حسين قد تركت صداها في المنطقة، لكن بالنسبة إلى إيران فهي ليست ليبيا، ونظامها لديه خبرة طويلة في إدارة خلافاته مع الغرب، ولا تزال طهران تمتلك أوراق ضغط مهمة في مواجهة خصومها، بما في ذلك المعرفة النووية التي راكمتها، بخلاف برنامج ليبيا النووي الذي كان مستوردًا من الخارج، كما أنها ليست مهددة على غرار ليبيا في 2003، ناهيك بأنَّ بين الرئيس جورج بوش الابن ودونالد ترامب اختلافًا واضحًا، إذ إنَّ ترامب حتى الآن يريد التوصل إلى حل وتسوية مع إيران إزاء برنامجها النووي، بدلًا من الصراع والعمل المسلح.

رغم ذلك، لا يزال هذا السيناريو بعيدًا عن الواقع على المدى المنظور، لأنّ سعي إيران لامتلاك سلاح نووي ينطوي على مخاطر كبيرة، إذ ستؤدي هذه الخطوة إلى حشد عسكري ضد إيران من قوى مختلفة، في مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا تمتلك إيران القدرة على خوض حرب على أكثر من جبهة، كما أنها سوف تُواجَه بضغوط قد تفضي إلى انهيار النظام ككل، وهي مسألة لها أولوية لدى النخبة الحاكمة على المخاطرة بامتلاك قوة ردع نووية، كما أن إجماعًا دوليًّا واسع النطاق سوف يتشكل ضد إيران، وقد يشمل ذلك -إلى جانب الأطراف الأوروبية- حليفتَيها الصين وروسيا، اللتين لا ترغبان في ظهور قوة نووية في الشرق الأوسط، فضلًا عن تهديد الأمن والاستقرار الإقليمي، بما في ذلك التهديدات المرتبطة بالعمل العسكري الذي قد يجلب الفوضى إلى المنطقة. ولا ننسى كذلك أن خوض غمار هذه التجربة سوف يُلقي بأعباء ثقيلة على إيران، ليس من جهة العزلة والعقوبات الدولية وربما التعرض لهجوم خارجي، ولكن للتكلفة المصاحبة لإنتاج السلاح النووي وما يتطلبه الأمر بعد ذلك من قدرات وإمكانيات لا تزال إيران بعيدة عنها إلى حد كبير.

ثالثًا: سيناريو اتفاق مؤقت يقضي بتجميد تخصيب اليورانيوم

في ما يتعلق بالاتفاق المؤقت فإنه يشير إلى موافقة الجانبين على اتخاذ إجراءات متبادلة، وهذا الاتفاق سيعتمد على تراجع إيران عن إجراءاتها النووية التصعيدية التي بدأتها منذ نهاية عام 2019، بما في ذلك تجميد أو تقليص مخزون إيران من اليورانيوم المنخفض التخصيب، وتفكيك السلاسل التعاقبية من أجهزة الطرد المركزي المتقدّمة، والسماح بعودة المفتشين الدوليين، وعودة كاميرات المراقبة إلى المنشآت النووية، والسماح بوصول المفتشين إلى المواقع المشتبه بها، ويقابل ذلك سماح الولايات المتحدة لإيران بالوصول إلى بعض الأموال المجمّدة في الحسابات وإعادة إصدار إعفاءات لعدد محدود من البلدان لشراء النفط الإيراني، وقد يجري تمديد فاعلية آلية سناب باك خلال فترة تنفيذ هذا الاتفاق، أو بمعنى مختصر إمكانية توقيع اتفاق يضمن التحقق الموثوق في مقابل إلغاء بعض العقوبات([6])، وذلك على غرار اتفاق جنيف الذي وقّعته مجموعة 5+1 وإيران في جنيف بسويسرا في 24 نوفمبر 2013، وبموجبه جرى تجميد قصير المدى للبرنامج النووي الإيراني في مقابل تخفيض للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، فيما عملت الأطراف الموقعة على اتفاق آخر طويل الأجل.

يعزز هذا السيناريو ما يأتي:

1. ضيق الوقت والحاجة إلى بناء الثقة عبر إجراءات متبادلة:

نظرًا إلى ضيق الوقت ورغبة ترامب في الوصول إلى اتفاق في غضون شهرين، وهي فترة غير كافية لصياغة اتفاق نهائي، قد يكون الاتفاق المؤقت خيارًا جديرًا بالنقاش، لا سيما أن مثل هذا الاتفاق يمكن من خلاله سد الثغرات واستكشاف الطريق لمعالجة الخلل وإثبات حسن النيات وبناء الثقة، إذ يمنح الاتفاق خطوة بخطوة الجانبين مكتسبات متبادلة تشجع على المضي قدمًا، فمن جانبٍ هناك حاجة عاجلة لاتفاق مرحلي تُجمِّد إيران من خلاله تخصيب اليورانيوم، فضلًا عن تفاهمات أخرى لعودة الرقابة والتخلص من كميات اليورانيوم المتراكمة ونقل الجديد منها إلى الخارج، ومن جانبٍ آخر مِن المفترض أن تقوم واشنطن بإجراءات تتعلق برفع بعض العقوبات، التي هي الأخرى بحاجة إلى مراجعة تحتاج إلى وقت وربما عملية مؤسسية معقدة. وقد سبق ووقَّعت إيران مع مجموعة 5+1 اتفاقًا مماثلًا، كما خاض الجانبان مفاوضات في 2021 على هذا الأساس، إذ ربطت إيران التراجع عن إجراءاتها النووية مقابل تراجع أمريكي بالتوازي عن العقوبات التي فرضها ترامب بعد عام 2018، وهو الأمر الذي أطال أمد المفاوضات ومرت فترة بايدن بكاملها دون الوصول إلى اتفاق، وهو ما قد تراهن إيران عليه مجددًا لكسب الوقت([7]).

2. خبرة إيران التفاوضية والرغبة في تفادي اتفاق سريع ومجحف:

تمتلك إيران مهارة وخبرة كبيرة في المفاوضات، ولا شك أنها قد ترى أن من مصلحتها الوصول إلى اتفاق مؤقت حاليًّا، وتفادي اتفاق سريع ومعدل أكثر صرامة كما يريد ترامب، إذ يجنب الاتفاق المؤقت إيران تقديم تنازلات تحت وطأة الضغوط بما يقيّد طموحها النووي. ولا شك أن مشاركة عراقجي الذي له باع طويل في المفاوضات النووية السابقة تمنحه ميزة على ويتكوف مبعوث ترامب في سبيل تحقيق هذه الغاية، كما تستطيع إيران التأثير في مسار المفاوضات من خلال نجاحها في إشراك أطراف أخرى في المفاوضات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كروسيا التي طار إليها عراقجي لإطلاعها على مجريات المحادثات وجذب تأييدها ودعمها لموقف إيران، فضلًا عن الصين، وكذلك الأطراف الأوروبية، التي لا تمانع حق إيران في الحفاظ على برنامجها السلمي، بالإضافة إلى الوكالة الدولية التي زارها رئيسها رفائيل غروسي في 16 أبريل 2025، وهو الأمر الذي قد يعزز أوراق إيران على طاولة المفاوضات، مع ما يعنيه ذلك من تعقيد واستغراق في التفاصيل يفرض على الجانب الأمريكي تفاهمات متبادلة مؤقتة.

3. إغراء ترامب بمكاسب تجارية:

قبل بدء المفاوضات غازل المسؤولون الإيرانيون غريزة ترامب وخاطبوا عقليته التجارية، وذلك للتأثير في المفاوضات وفي الموقف الأمريكي، وقد يخفف هذا صرامة الموقف الأمريكي بالوصول إلى اتفاق نهائي. وقد اتضح ذلك من خلال عرض الفرص الهائلة للاستثمار والتجارة مع إيران، فوفق ما صرح به الرئيس بزشكيان، فإنَّ المرشد أعرب عن موافقته على الاستثمار الأمريكي في بلاده، واصفًا طهران بأنها شريك اقتصادي “آمِن”. ويبدو أن هذه المغازلة ارتكزت على فهم عميق لشخصية ترامب وتبدو سياسة مقصودة من جانب طهران لامتصاص غضب ترامب([8])، إذ سبق تصريح المرشد مقال لوزير الخارجية عراقجي في صحيفة “واشنطن بوست”، وصف فيه الاقتصاد الإيراني بأنه “فرصة بتريليون دولار” للشركات الأمريكية([9]).

4. ضَعف تأثير العقوبات والضغوط الأمريكية:

يمنح الاتفاق المؤقت إيران فرصة لالتقاط الأنفاس، وقد تستفيد طهران من إطالة أمد المفاوضات، لا سيما إذا أدّت التفاهمات المؤقتة وإجراءات بناء الثقة إلى خفض التوتر والضغوط. وقد تساعد متغيرات البيئة الدولية والإقليمية إيران في الإفلات من الضغوط والعقوبات الأمريكية وربما التهديدات العسكرية، خصوصًا في ظل الحرب التجارية والصراع الراهن بين القوى الدولية، ففي ظل هذه الظروف قد تفقد العقوبات فاعليتها، لا سيما إذا لم ترتبط بأهداف واقعية، وما يؤكد ذلك وصول صادرات النفط الخام الإيراني إلى مصافي التكرير المستقلة في الصين وقد بلغت مستوى قياسيًّا بلغ 1.91 مليون برميل يوميًّا في مارس 2025، بزيادة 19.5% عن ذروة بلغت 1.6 مليون برميل يوميًّا في فبراير 2025، وذلك على الرغم من عودة العقوبات القصوى على إيران، واستهدافها بالأساس تعطيل التعاون التجاري الطبيعي بين الصين وإيران، وخصوصًا في قطاع الطاقة([10]).

5. فاعلية الدبلوماسية مقارنة بالعمل العسكري:

تمتلك إيران كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب، وقد ركّبت عددًا كبيرًا من أجهزة الطرد المركزي المتطورة في أماكن كثيرة، وقد يصعب تدميرها بالكامل بيقين مطلق من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال الهجوم العسكري، كما أن إيران لديها عديد من الخبراء النوويين الذين يمكن تكليفهم إحياء البرنامج من جديد. وتشير تقديرات الاستخبارات الأمريكية نفسها إلى أن الانتكاسة التي قد يتعرض لها البرنامج نتيجة هجوم عسكري ستكون قصيرة الأجل، ربما بضعة أشهُر فقط. ولوقف برنامج فعليّ باستخدام القوة، ستحتاج الولايات المتحدة إما إلى تكرار الضربات العسكرية بشكل متكرر وإما إلى محاولة تنفيذ حملة لتغيير النظام لكسر هذه الحلقة المفرغة، مع نتائج مدمرة وغير مؤكدة إلى حد كبير. وهناك أيضًا مشكلة الخبرة التكنولوجية الإيرانية، إذ أصبح علماؤها يعرفون الآن مزيدًا عن كيفية صنع الأسلحة النووية مقارنة بما كانوا يعرفونه قبل عشر سنوات([11]).

هذا السيناريو ليس مستبعدًا، وذلك لأن قطار المفاوضات قد بدأ بالفعل على مستوى الخبراء، ولدى كل طرف أوراقه ومطالبه، كما أن هناك استعدادًا متبادلًا لتقديم تنازلات، ومع ذلك لا يمكن التغاضي عن التحديات التي قد تعرقل المفاوضات، لا سيما احتمال تمسُّك إيران بالإفراج عن أموالها المجمدة، ورفع الحرس الثوري من قائمة العقوبات، وضمانات بعدم الانسحاب الأمريكي من أي اتفاق مستقبليّ، أو ربما مطالبة الولايات المتحدة بتوسيع المفاوضات لتشمل السلوك الإقليمي والبرنامج الصاروخي.

رابعًا: سيناريو اتفاق أكثر صرامة يحفظ لإيران برنامجها السلمي

ويُقصد بهذا السيناريو أن يوقّع الجانبان اتفاقًا شاملًا جديدًا، بموجبه تحتفظ إيران ببرنامج سلميّ لكنه قد يشمل عدم وجود بنود انتهاء، ومراقبة أكثر موثوقية، وبشكل خاص التحقق من برنامج التخصيب، وعلى أقصى التقديرات قد يُطلب من إيران الانضمام إلى “اتفاقية 123″، التي تنظّم التعاون النووي السلمي بين الولايات المتحدة والدول الأخرى ضمن إطار قانون الطاقة الذرية الأمريكي([12]).

يحفّز هذا السيناريو ما يأتي:

1. وعد ترامب ونهجه الصارم:

يبدو ترامب في موقف أقوى ولديه أوراق ضغط كبيرة على إيران، وقد لا يُرضي غرورَه اتفاق مؤقت على غرار الاتفاق الذي وُقّع في فترة أوباما أو المحادثات التي جرت في فترة بايدن، خصوصًا أن ترامب أكد أنه يريد “اتفاقًا نوويًّا إيرانيًّا أقوى” من الاتفاق الذي انسحب منه في عام 2018([13])، وكذلك مع رغبته في الوصول إلى صفقة قريبة يدعم بها شعبيته ويُرضي بها غروره، لا سيما أن نهجه للسلام من خلال القوة في حرب أوكرانيا أو حرب غزة لم يثمر بعد، وقد يجد في اتفاق مع إيران دفعة لهذا النهج المتعثر. وينتبه ترامب إلى احتمال تلاعب طهران بالوقت، لهذا علَّق على عقد جولة جديدة من المحادثات في غضون أسبوع بقوله: “إنها فترة طويلة، لذلك أعتقد أنهم قد يستفيدون منا”، لهذا أبقى تهديده بالخيار العسكري لإبقاء إيران تحت الضغط، إذ حذّر ترامب من أنه قد يلجأ إلى توجيه ضربات عسكرية إلى المواقع النووية الإيرانية في حال عدم التوصل إلى اتفاق([14]).

2. حصر المفاوضات في القضية النووية:

كان شرط إيران وخطّها الأحمر للعودة إلى طاولة المفاوضات هو عدم استعدادها للحوار المباشر مع واشنطن، وكذلك التفاوض حول تفكيك برنامجها النووي أو وضع حدّ لقدراتها على التخصيب، فضلًا عن مناقشة أي قضايا أخرى كبرنامجها الصاروخي أو سلوكها الإقليمي. ويبدو أنّ تفهُّم الولايات المتحدة لذلك قد أسفر عن نجاح المفاوضات الأخيرة، إذ تمحورت المفاوضات حول اتفاق جديد يعالج الخلافات النووية، وقد أكد ذلك مبعوث ترامب للشرق الأوسط الذي يقود المفاوضات مع إيران، ستيف ويتكوف، الذي صرح في 21 مارس 2025 بأن الولايات المتحدة تسعى إلى “برنامج تحقق” لضمان عدم تحويل برنامج الطاقة النووية الإيراني([15]).

وبحسب ما يذهب إليه المحللون فإن إيران، في ظل رئاسة ترامب، “تتمتع بفرصة فريدة للتوصل إلى اتفاق دائم مع الولايات المتحدة، وإمكانية حل الخلافات بصورة جذرية، إذ إنّ نفوذ ترامب على إسرائيل والحزب الجمهوري، الذي لطالما عارض الاتفاق مع إيران، سيعطي أي اتفاق محتمل وزنًا أكبر، وهو ما قد تعتبره إيران فرصة للخروج من أزماتها المعقدة منذ ما يزيد على أربعة عقود”([16]).

3. مؤشرات قبول إيران لاتفاق معدل:

بينما أكدت طهران رفضها القاطع تفكيك برنامجها السلمي، فإنها في ظل الظروف والضغوط الراهنة، وأولوية النظام في الحفاظ على بقائه، وتجنُّب التدخل العسكري، واحتمال التعرض لانكشاف إستراتيجي واسع النطاق، والرغبة في رفع العقوبات ومنح النظام فرصة لإعادة تأهيل نفسه وقدراته ونفوذه الإقليمي، قد تقبل باتفاق معدل. وخلال المرحلة الراهنة قد يبدو من المنطقي قبول إيران بمزيد من القيود، حيث تعاني البلاد بالفعل من اقتصادٍ مُنهار، وعملةٍ تتدهور مقابل الدولار، ونقصٍ في الغاز والكهرباء والمياه أدى إلى تهديد خطوط الإنتاج وإغلاق المدارس في بعض الأقاليم. وهذه الأزمة مرشحة لمزيد من التفاقم مع تشديد العقوبات، كما أن فوائد اتفاق مؤقت لا يحرم إيران حقها في برنامج نووي سلمي حتى مع توسيعه وصرامته، مقابل رفع العقوبات وتمكين إيران من تجديد شرعية النظام داخليًّا والتموضع خارجيًّا، تُعَدّ مكسبًا كبيرًا لإيران. ولا بدّ أن النظام قد انتبه إلى أن الانخراط والتفاهم قد انعكست تأثيراتهما الفورية على السوق، إذ ارتفع الريال الإيراني بنسبة 10% مقابل الدولار الأمريكي في السوق المفتوحة، وارتفعت أسهم عديد من الشركات([17]).

4. تراجع الأطراف المتشددة عن مواقفها:

قَبِلَ المرشد المفاوضات تحت الضغط، وفي هذا الصدد يشار إلى ما ذكرته صحيفة “نيويورك تايمز” في 11 أبريل بأن “المرشد الأعلى” لإيران قَبِل إجراء محادثات مع الولايات المتحدة لأن “كبار المسؤولين” أخبروه أنه “بخلاف ذلك يمكن الإطاحة بحكم الجمهورية الإسلامية”. بمعنى أنه قد يكون هناك “تهديد وجودي للنظام”([18])، وعلى نفس المنوال قد يقبل المرشد باتفاق جديد بشروط أكثر صرامة، وقد لا يجد مثل هذا الاتفاق معارضة من الأطراف المتشددة، بما في ذلك الحرس الثوري، الذي يبدو أنه يمهد الرأي العام في الداخل لتنازلات محتملة على طاولة المفاوضات، إذ أكدت الصحف المحسوبة على الحرس وعلى التيار المتشدد رسالة واضحة بأن إيران قد تقبل بتقييد تخصيب اليورانيوم إذا قوبل ذلك تخفيف للعقوبات([19]). وقد أكد عديد من المسؤولين خلال الفترة الأخيرة رسالة واحدة مضمونها أن إيران ليس لديها أي نية لامتلاك سلاح نووي، وأنها تقبل بأي إجراءات تؤكد وتضمن ذلك، إذ أعلن الرئيس مسعود بزشكيان أن طهران مستعدة للسماح بـ”التحقق ولو ألف مرة” من برنامجها النووي، دليلًا على أنها لا تسعى لامتلاك أسلحة نووية. وبالأساس سبق ووافقت إيران على الحد من قدراتها فضلًا عن عمليات التفتيش الصارمة، ما يعني احتمال عدم الاعتراض على اتفاق أكثر صرامة، خصوصًا أن عراقجي يقول إنّ العودة إلى اتفاق 2015 لم يعُد ممكنًا([20]).

5. تحوُّل موقف دول الخليج وحدود تأثير إسرائيل:

يختلف موقف دول الخليج الراهن عن موقفها خلال الاتفاق النووي في 2015، إذ غيّرت المصالحة مع إيران ديناميات العلاقات، وقادت إلى تفاهمات مهمة تتعلق بالأمن والاستقرار الإقليمي، ولا ترغب دول الخليج مجددًا في الانسياق خلف حملة عسكرية قد تضر بالأمن والاستقرار الإقليمي، ومن ثم توجد مصلحة خليجية في توقيع اتفاق جديد مع إيران، لا سيما أن دول الخليج من حيث المبدأ لا تعارض استفادة إيران من الطاقة النووية في الأغراض السلمية، بل إن دول الخليج نفسها تتطلع إلى الاستفادة من الطاقة والتقنية النووية المدنية السلمية([21]).

لكن على صعيدٍ مقابل، رغم أن هذا السيناريو غير مقبول من إسرائيل لأنه لا يزيل الشك بشأن قدرات إيران النووية في المستقبل ويهدد تفوُّق إسرائيل النووي على القوى الإقليمية، فإنّ تحركات إسرائيل في هذا الملف محددة بالموقف الأمريكي، إذ إنّ إسرائيل ليس لديها القدرة على اتخاذ قرار بالهجوم على المنشآت النووية أو على إيران دون مشاركة أمريكية، كما أنها لا يمكنها أن تتحمل نتائج مثل هذا الهجوم في حال التحرك بصورة منفردة، وإذا ما توصلت الولايات المتحدة وإيران إلى اتفاق جديد فليس بوسعها أن تعارض ترامب، لحاجتها إلى دعمه غير المسبوق في قضايا إستراتيجية أخرى، بما في ذلك خططها بشأن الأراضي المحتلة وتحركاتها في المنطقة وفتح باب التطبيع من جديد مع مزيد من القوى الإقليمية.

6. الدعم الدولي لاتفاق جديد:

تلاشت التصورات الأوروبية حول فاعلية الاتفاق النووي 2015 باعتباره نموذجًا فعالًا للسيطرة على الانتشار النووي، ولا تزال تمتلك الترويكا الأوروبية سلطة للتأثير في مسار المفاوضات، إذ يمكنها حتى مطلع عام 2026 استخدام آلية سناب باك لاستعادة العقوبات الدولية، الأمر الذي يضاعف الضغوط على إيران. وبالفعل هددت كل من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا طهران باستخدام هذه الآلية بحلول يونيو 2025 إذا لم يجرِ توقيع اتفاق جديد.  من جهة أخرى فإن الصين وروسيا لا تدعمان تفكيك برنامج إيران النووي، كما أنهما لا تزالان، رغم خلافاتهما مع ترامب، حريصتان على السيطرة على برنامج إيران النووي، وتجنب الصراع العسكري. ويتماشى هذا مع المصلحة الإستراتيجية للبلدين في الحد من الانتشار النووي في الشرق الأوسط، ومن ثم فإنهما لن يعرقلا أي مفاوضات تقود إلى تفاهمات أمريكية إيرانية بموجبها تجري السيطرة على برنامج إيران النووي باعتبارها ضرورة تخدم مصالحهما في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه يدعم الطرفان رفع العقوبات على إيران وإزالة التهديدات التي قد تفقدهما شريكًا إستراتيجيًّا مهمًّا، فإيران كانت ولا تزال نافذة مهمّة لنفوذ القوتين العظميين في المنطقة([22]).

خلاصة

في ظل أجواء من انعدام الثقة عاد الطرفان الأمريكي والإيراني إلى طاولة المفاوضات من أجل اختبار إمكانية التفاهم والانخراط ومعالجة واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وتأثيرًا في العلاقة بين الطرفين، وهي القضية النووية. من جانب إيران رغم صعوبة موقفها والضغوط الهائلة التي تتعرض لها، فإنها لا تزال تمتلك ورقة شديدة الأهمية وهي المعرفة والخبرة النووية التي أحرزتهما خلال السنوات الأخيرة، واقترابها من العتبة النووية، فضلًا عن إمكانية إرباك المشهد الإقليمي في حال تعرضت لهجوم عسكري. أمّا من جانب الولايات المتحدة فإنها تشارك في المفاوضات من موقع قوة، ولديها قدرة أكبر للتأثير في مسار المفاوضات، وربما انتزاع مكاسب مهمة تخص البرنامج النووي الإيراني، لكن سقف هذه المكاسب هو تمسُّك إيران بحقها في تخصيب اليورانيوم على أراضيها، لذلك فإنَّ الولايات المتحدة لديها فرصة من أجل إجبار إيران على قبول اتفاق أطول وأقوي، وهذا الخيار رغم أنه لا يحقق كامل وعود ترامب عندما انسحب من الاتفاق النووي في 2018، لكنه خيار آمِن وأقل تكلفة ويحقق حدًّا معقولًا من المطالب الأمريكية، ويمكن أن تقبل به إيران، وذلك دون الحاجة إلى ضغوط قد تفقد تأثيرها مع الوقت، أو مغامرة عسكرية قد تجرّ واشنطن إلى حرب لن يدعمها الحلفاء الخليجيون، وقد لا تحيّد قدرات إيران النووية بصورة مطلقة، بل قد تدفعها إلى البحث عن وسيلة لامتلاك سلاح نووي لمعالجة الخلل في التوازن، لكن رغم أن هذا السيناريو هو الأكثر واقعية فإنّه في عالم ترامب لا يُستبعَد أن يقفز سيناريو غير متوقع إلى الواجهة بين عشية وضحاها.


([1]) الشرق الأوسط، مخاوف إسرائيلية وأمريكية: هل ستستغل إيران محادثات النووي لصالحها؟، (12 أبريل 2025)، تاريخ الاطلاع، 16 أبريل 2025، https://2u.pw/PWpyM

([2]) Lazar Berman, Netanyahu says Iran deal will only work if nuclear facilities blown up, otherwise military force needed, (8 April 2025), accessed 16 April 2025. https://2u.pw/LXn03

([3]) amwaj.media, Inside story: Iran, US move towards ‘indirect talks’ as letters exchanged, (Apr. 7, 2025), accessed April 5, 2025. https://2u.pw/HxwJN

([4]) الشرق الأوسط، لاريجاني يحذّر من دفع إيران لإنتاج سلاح نووي، (31 مارس 2025)، تاريخ الاطلاع 16 أبريل 2025، https://2u.pw/jB1tV

([5]) Rosaleen Carroll, IAEA’s Grossi to visit Tehran ahead of second round of US-Iran nuclear talks, al-monitor, (Apr 14, 2025), accessed 17 April 2025. https://tinyurl.com/2db7abgr

([6]) ارزیابی متقابل یا گامی به سوی توافق موقت؟، صحيفة مردم سالاري، (17 آوریل 2025)، تاريخ الاطلاع: 20 أبريل 2025، https://goo.su/li9ajj

([7]) موقع أمواج، حصري: عراقجي وويتكوف يقودان محادثات “غير مباشرة” بين إيران والولايات المتحدة في عُمان، (8 أبريل 2025)، تاريخ الاطلاع: 16 أبريل 2025، https://2u.pw/2ZwSf

([8]) موقع أمواج، في تحول مفاجئ، خامنئي لا يمانع دخول مستثمرين أمريكيين إلى السوق الإيرانية، (Apr. 10, 2025)، تاريخ الاطلاع: 16 أبريل 2025، https://2u.pw/WO41W

([9]) Seyed Abbas Araghchi, Iran’s foreign minister: The ball is in America’s court, Washington post, (April 8, 2025), accessed 15 April 2025. https://2u.pw/qxvSB

([10]) Adam Lucente, Iran oil exports to China soar in March to 1.9M bpd despite US sanctions, (Apr 10, 2025), accessed 16 April 2025. https://2u.pw/3L4LJ

([11])Comfort Ero, The Case for a “Trump to Tehran” Strategy, foreign affairs (April 11, 2025), accessed 15 April 2025. https://2u.pw/UjkX5

([12])Dennis Ross, The United States Needs a Better Strategy to Deter Iran, Dennis Ross, (July 6, 2022), accessed 15 April 2025. https://2u.pw/iwSeR

([13]) Nadeen Ebrahim, An emboldened US and a weakened Iran will hold nuclear talks. Is there space for a deal?, CNN, (April 9, 2025), accessed 17 April 2025. https://tinyurl.com/2337exv5

([14]) سي إن إن، ترامب عن إيران: اعتادت التعامل مع أغبياء في أمريكا خلال المفاوضات، ( 15 أبريل 2025)، تاريخ الاطلاع: 17 أبريل 2025. https://tinyurl.com/295dhzr6

([15]) موقع أمواج، حصري: عراقجي وويتكوف يقودان محادثات “غير مباشرة” بين إيران والولايات المتحدة في عُمان، مرجع سابق.

([16]) Farnaz Fassihi, Why Iran’s Supreme Leader Came Around to Nuclear Talks with the U.S., The New York Times, (April 11, 2025), accessed 15 April 2025. https://2u.pw/LxNaj

([17]) Amwaj media, Usually divided Iranian media expresses backing for talks with US, (Apr. 14, 2025), accessed 15 April 2025.https://2u.pw/S3O1O

([18]) Farnaz Fassihi, Why Iran’s Supreme Leader Came Around to Nuclear Talks with the U.S., Ibid.

([19]) جوان أنلاين، غلامرضا صادقیان: عراقچی تا کجا‌ها می‌رود؟!، (۱۹ فروردين ۱۴۰۴) تاريخ الاطلاع 15 أبريل 2025. https://2u.pw/o4li8

([20])ا صحيفة المدينة، الرئيس الإيراني: لا نسعى لقنبلة نووية ولا ننوي امتلاكها في الحاضر والمستقبل، (10 أبريل 2025)، تاريخ الاطلاع: 15 أبريل 2025. https://2u.pw/THhtu

([21]) بي بي سي عربي، الاتفاق النووي المتوقع بين واشنطن والرياض: “خطوة نحو مستقبل الطاقة، (15 أبريل 2025)، تاريخ الاطلاع: 20 أبريل 2025. https://tinyurl.com/2cg5357f

([22]) Adam Lucente, , Iran oil exports to China, Ibid.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير