فيما تمُرّ منطقة الشرق الأوسط بتحوُّلات جيوسياسية وإستراتيجية، انحدرت خلالها أدوار قُوى إقليمية، وتصاعدت أدوار قُوى إقليمية أخرى منافسة، وسط ضغوط أمريكية-إسرائيلية مكثَّفة على الحكومة العراقية لاحتكار الدولة للسلاح المنفلِت، والابتعاد عن إيران التي مُنِيَت بخسائر تاريخية في الشرق الأوسط، أجرى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان زيارة هامَّة للعراق، قادمًا من الرياض، تحمل دلالات إستراتيجية تجاه مستقبل العلاقات التركية-العراقية، ورغبة أنقرة في القيام بدور جديد فاعِل في العراق، واتّجاهات وملامح التحالفات الإقليمية خلال المرحلة المقبلة. والتقى فيدان خلال الزيارة، ليس فقط بنظيره العراقي فؤاد حسين، وإنَّما بالرئاسات الثلاثة: الدولة، عبداللطيف رشيد، والحكومة، محمد شياّع السوداني، والبرلمان، محمود المشهداني، بما يطرح عددًا من الأسئلة حول الدوافع والأبعاد الإستراتيجية للدولة التركية، في ظل التحوُّلات الإقليمية الراهنة، وملامح التوجُّهات التركية تجاه العراق خلال المرحلة المقبلة، ومواقف التحالفات الشيعية في العراق من التحرُّكات التركية، وحجم المكاسب المُحتمَلة للطرفين من تعزيز التعاون، بدلًا من حالة الفتور في العلاقات، واتّجاهات ومستقبل التوجُّهات التركية تجاه العراق.
أولًا: مشهد إقليمي مواتٍ لتعزيز العلاقات التركية-العراقية
بخلاف سابقتها من زيارات رئاسية ووزارية تركية للعراق خلال المرحلة الماضية، حظِيَت زيارة الوزير التركي الرابعة منذ تولِّيه حقيبة الخارجية، إلى العراق، بأهمِّية بالغة الدِقَّة، لكونها جاءت في توقيتٍ مواتٍ لأنقرة، يسمح بتعاظُم الدور التركي في الشرق الأوسط، عبر شغْل «الفراغات المُحتمَلة»، حيث يتحدَّث الكثير من المراقبين عن أنَّ ملامح «عصرٍ تركي» بدأ يتشكَّل، مقابل أفول العصر الإيراني. وفيما يلي ملامح المشهد، الذي وفَّر فُرصةً تاريخية لأنقرة، ودوافعها لتعزيز دورها في العراق:
1. خفوت نجم قوَّة إقليمية منافسة
كان المشروع الجيوسياسي الإيراني، والذي يُعَدُّ العراق أحد حلقاته المركزية، أبرز التحدِّيات أمام تعزيز الدور التركي الإقليمي، لكون الفضاء الجغرافي العربي، الذي تمكَّنت فيه إيران من فرْض نفوذها خلال المرحلة السابقة، يمثِّل فضاءً جغرافيًا واسعًا للدولتين الإقليميتين المتنافستين، وبالتالي فإنَّ خفوت النجم الإيراني الإقليمي على خلفية الخسائر التاريخية، التي مُنِيَ بها المشروع الجيوسياسي الإيراني خلال الأشهر الماضية في لبنان وسوريا، والأبرز تغيير المعادلات السياسية السورية واللبنانية بأنظمةٍ إمّا مُعادية لإيران مثل الحالة السورية، أو بأنظمة طامحة في عودة الدولة لمحيطها العربي مثل لبنان، تُتيح الفُرصة التاريخية لأنقرة لتعزيز حضورها الإقليمي بشكلٍ عام، وفي العراق بشكلٍ خاص.
2. حالة الارتباك السائدة في العراق
تمُرّ الحكومة العراقية والنظام السياسي الشيعي بشكل عام، بحالةٍ من الضيق السياسي الشديد، ومحدودية الحسابات وتعقُّدها بشكل غير مسبوق، تجعلها أشبه بالذي يسير على الحبال، وفي أمسّ الحاجة لأيّ فاعِل إقليمي أو غير إقليمي يخفِّف من وطأة الأزمة، التي تمُرّ بها. حيث باتت الحسابات أمام الحكومة معقدَّة في مسألة كيفية اتّخاذ قرار مُرضٍ، ما بين مطالب وضغوط أمريكية مكثَّفة لحل الميليشيات واحتكار السلاح، وأنَّ رفضها سيشكِّل تداعيات سلبية على العراق، لا سيّما في ظل اتّجاه إدارة دونالد ترامب نحو اتّخاذ موقف صارم من العراق، ورفعها من الدول المُستثناة من العقوبات المفروضة على إيران، بما يحرمها من الحصول على حِصَّة الكهرباء والغاز الإيرانيين، وما بين تحفُّظ ورفْض التحالفات السياسية، التي أتت بالحكومة العراقية من الأساس. لذلك، تُدرِك تركيا أهمِّية التوقيت والتحرُّك تجاه بغداد، لتعزيز المكانة والدور.
3. موقف عربي مؤيِّد للتحوُّلات في الدول العربية
التقطت تركيا الإشارات الإيجابية للعديد من الدول العربية والخليجية المناهِضة للمشروع الجيوسياسي الإيراني، والداعِمة بشِدَّة للتحوُّلات الإستراتيجية في سوريا ولبنان، وذلك نتيجة حالة الأزمات والصراعات، التي خلَّفها المشروع الإيراني في تلك الدول، ونقلها من طور الدولة إلى طور اللا دولة، ومن حالة الاستقرار إلى حالة الاضطرابات، ومن طور القوَّة والتماسك إلى طور الهشاشة والفشل، بتحكُّم الميليشيات في قراراتها الداخلية والخارجية، وتنفيذها لأجندة خارجية مذهبية لا تراعي مصالح الدول العربية. ومن ثمَّ سارعت بعض الدول العربية والخليجية لدعم التحوُّلات في الدول العربية، بهدف العودة لمرحلة القوَّة والتماسك ولمنطق الدولة ولمحيطها العربي، بما يخدم مصالحها ومصالح شعوبها لا مصالح أجندات خارجية.
4. اتّجاه إقليمي ودولي ضدّ الفواعِل العنيفة من دون الدول
تأتي الزيارة التركية للعراق في توقيت مهمّ للغاية، حيث تتلاقى فيه أهداف الفواعِل العربية والإقليمية والدولية على ضرورة القضاء على الفواعِل العنيفة من دون الدول، باعتبارها المهدِّد الأول والأخير للدول الوطنية في الشرق الأوسط، ولمصالح الدول التي تتشكَّل منها، فضلًا عن مصالح بقية الدول، والعامل الرئيسي في خلْق البيئة والحاضنة لتعدُّد وتفريخ العناصر الإرهابية بأشكالٍ متعدِّدة. ولذلك، تستغلّ تركيا ذلك التوقيت للقضاء على المسلَّحين الأكراد في العراق وسوريا، باعتبارهم مصنَّفين ضمن الفواعِل العنيفة من دون الدول حسب المفهوم التركي. وهي فُرصة تاريخية لتركيا، في ظل ذلك الاتّجاه الدولي الداعم للقضاء على الفواعِل العنيفة. وإن كانت لمفهوم الفواعِل العنيفة تعريفات مختلفة عند الولايات المتحدة وتركيا، فإنه ليس بالضرورة أن يكون هناك ضوء أخضر أمريكي لتركيا في الساحة العراقية، بينما يرتبط الأمر بمصالح تركيا ذاتها في العراق، ومسألة التنافس التركي-الإيراني على الساحة العراقية.
ثانيًا: ملامح التوجُّهات التركية تجاه العراق خلال المرحلة المقبلة
رسمت زيارة الوزير التركي، في ظل الفُرصة المواتية، ملامح التوجُّهات التركية تجاه العراق خلال المرحلة المقبلة، التي تُعَدُّ خارطة طريق نحو شراكة تركية-عراقية شاملة، من شأنها تعزيز الحضور التركي في الساحة العراقية، انطلاقًا من اتفاق الإطار الإستراتيجي الموقَّع بين البلدين ضمن 26 وثيقة (اتفاقيات ومذكِّرات تفاهُم)، في أثناء زيارة الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان للعراق في أبريل 2024م، لذلك تمحورت مساعي هاكان حول عِدَّة أبعاد:
1. تشكيل محور جديد ضدّ التنظيمات الإرهابية
تجمع تركيا والعراق حدود جغرافية مشتركة تُقدَّر بـ367 كم، ويشغل بال صانع القرار التركي خلال المرحلة الراهنة: الهواجس الأمنية بالدرجة الأولى، وتُريد أنقرة القضاء عليها في ظل الفُرصة المواتية لدورٍ تركي أكبر في المنطقة. وكان لافتًا لقاء فيدان مع وزير الدفاع العراقي ثابت العبّاسي على انفراد، الأمر الذي يكشف أولوية الطابع الأمني للزيارة. وتتمثَّل تلك الهواجس في ما تعتبره أنقرة أنشطة إرهابية مستمِرَّة من جهتين رئيسيتين: حزب العُمّال الكردستاني -المصنَّف غربيًّا ضمن التنظيمات الإرهابية والمحظور عراقيًّا- وتنظيم داعش، إذ تعتبرهما تركيا عائقين أمام طموحاتها الإقليمية، واستقرار المعادلة السورية الجديدة. لذلك طلبهاكان فيدان من العراق بوضوح وصراحة التعاون لشَنِّ معركة مشتركة للقضاء على المسلَّحين الأكراد و«داعش»، ويقصد بذلك في العراق وسوريا.
اتّضح المطلب التركي في تشكيل محور رباعي أمني تركي-عراقي-سوري-أردني، للقضاء على التنظيمات الإرهابية، في أثناء لقاء الوزير التركي مع الرئيس العراقي، وفي أثناء حديثه مع نظيره العراقي في المؤتمر الصحفي، عندما قال: «الحزب يستهدف تركيا والعراق وسوريا. ومن أجل مستقبل منطقتنا وازدهار شعوبنا، علينا أن نخوض معركة مشتركة ضدّ الإرهاب»، موضِّحًا: «علينا تدمير داعش وحزب العُمّال الكردستاني، بكُلِّ ما أُوتينا من قوَّة». ورُبَّما يأتي التحالف التركي المنشود على أنقاض التحالف القديم الروسي-الإيراني-السوري-العراقي، كما أوضح فيدان أنَّه نقَلَ توقُّعات بلاده من العراق بشأن تصنيف الحزب «منظَّمة إرهابية» رسميًّا، ما يعني أنَّ تصنيف بغداد للحزب خلال 2024م على أنَّه «منظَّمة محظورة»، لم يعُد يلبِّي الطموحات التركية، بناءً على تحديد الجانبين التركي والعراقي نشاط حزب العُمّال الكردستاني على أنَّه «تهديد مشترك»، في أثناء الاجتماع الثالث للآلية الأمنية رفيعة المستوى بين البلدين، التي انعقدت في مارس 2024م.
تعكس تصريحات فيدان نبرة تركية غير مسبوقة تجاه التهديدات الأمنية لتركيا في العراق وسوريا، رُبَّما تكشف عن ترتيبات عسكرية تركية مُحتمَلة ضدّ الحزب، حال استمرار ما تعتبره أنقرة أنشطة معادية للحزب ضدّ الأمن القومي التركي من ناحية، وما تعتبره دعْمًا لقوّات سوريا الديمقراطية «قسد» ضدّ المعادلة السورية الجديدة من ناحية ثانية، حيث كانت تركيا تشُنّ عمليات عسكرية ضدّ تمركُزات الحزب بشكلٍ منفرد، ما يعكس رغبةً تركية في استقطاب العراق ضمن محورٍ جديد ضدّ التنظيمات الإرهابية، حال مضت تركيا في تنفيذ عملية عسكرية ضدّ المسلَّحين الأكراد في العراق وسوريا، خاصَّةً أنَّ الاتفاقية الأمنية الموقَّعة بين البلدين تعطي مرونة أكبر للقوّات التركية في الانتشار في الأراضي العراقية لملاحقة المسلَّحين الأكراد.
تُدرِك أنقرة أنَّ هناك فُرصة للتعاون مع العراق، لقطع الطريق على أيَّة مساعي أو طموحات إيرانية تتّخِذ من الورقة الكردية، سواءً في العراق أو سوريا، نافذةً للتأثير أو لإفشال المعادلة السورية الجديدة، أو لتحسين شروطها التفاوضية مع الغرب من هذه النافذة. لذلك، يرى عديد من المراقبين أنَّ تركيا تقدِّر أنَّ الأنشطة الأخيرة للحزب في شمال العراق تحظى بدعمٍ إيراني، لذلك تُريد تركيا بالشراكة مع العراق فرْض طوْقٍ على المسلَّحين الأكراد في العراق وسوريا، عبر شراكة قوية مع دمشق وبغداد.
2. العمل على خلْق تقارُب عراقي-سوري
تأتي مسألة خلْق تقارُب بين الجارتين العراقية والسورية، في مقدِّمة اهتمامات أجندة الوزير التركي للعراق، إذ كان تصريحه حول ذلك صريحًا، في أثناء لقائه المسؤولين العراقيين، بقوله إنَّ بلاده «تولي اهتمامًا كبيرًا للتواصل بين الجارتين العراق والسُّلطات الجديدة في سوريا»، وذلك نتيجة المخاوف التركية من اتّخاذ إيران تحالفاتها وميليشياتها في الساحة العراقية كنافذة للتأثير على المعادلة السورية الجديدة لا سيّما على خلفية التصريحات الإيرانية المُقلِقة تجاه سوريا الجديدة، ورغبة أنقرة، الراعي والداعم الرئيسي لسوريا الجديدة، في تخفيف الحساسية الشديدة للنظام السياسي الشيعي في العراق من التحوُّلات الإستراتيجية في سوريا بسقوط حليفٍ إستراتيجي ضمن المحور الإيراني الأوسع. لذلك تريد أنقرة تقارُبًا بين الجارتين العراقية والسورية، لإغلاق الثغرات أمام إيران لحياكة المؤامرات وتدبير المخطَّطات لعدم الاستقرار في سوريا عبر البوابة العراقية من ناحية، وتقديم البديل الإقليمي للعراق في ظل الضغوط المكثَّفة على النفوذ الإيراني بالعراق من ناحية ثانية، إذ تفكِّر تركيا في العمل على ملء الفراغ الإيراني المُحتمَل، حال حدوث تحوُّلات في الساحة العراقية، على خلفية الضغوط الأمريكية المكثَّفة على الحكومة العراقية لحصر السلاح والابتعاد عن المحور الإيراني، وبينها رفْع إدارة الرئيس ترامب العراق من الدول المُستثناة من العقوبات الأمريكية ضدّ إيران.
3. تعزيز الحضور الاقتصادي التركي في العراق
تُدرِك السُّلطات في تركيا مدى الهيمنة الإيرانية على الأنشطة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية العراقية، لذلك ترغب تركيا في تعزيز مصالحها وتنافسها الاقتصادي والتجاري والاستثماري في العراق، الذي يُعَدُّ من أهمِّ شركائها التجاريين بحجم تبادُلٍ تجاري يبلغ 20 مليار دولار. وتطمح تركيا إلى الرقم 20 مليار دولار سنويًّا ضمن اتفاق الإطار الإستراتيجي الموقَّع بين البلدين، إذ تُدرِك انقرة أنَّ الحدّ من الدور الاقتصادي الإيراني في العراق، الذي شكَّل ورقةً ضاغِطة على الحكومات العراقية المتعاقِبة، يُعَدُّ من أهمّ الأهداف التركية لتعزيز أدوات التأثير التركية في الساحة العراقية.
ثالثًا: موقف التحالفات الشيعية تجاه الزيارة التركية
من الطبيعي أن تنظُر تحالفات الإطار التنسيقي المدعومة من إيران بنوعٍ من الشك والريبة إلى التحرُّكات التركية في العراق، لطبيعة العلاقة بين الإطار وإيران. ولذا، تُعرَّف التحرُّكات التركية تجاه العراق على أنَّها مطامع تركية في العراق، وأنَّ التعاطي الإيجابي العراقي مع التوجُّهات التركية من شأنه -حسب التحالفات الشيعية في العراق- شرعنة ما يُسمَّى بالاحتلال التركي للأراضي العراقية. وهُنا لابُدَّ أن نتساءل: ألا يُعَدُّ خلْق إيران لعشرات الميليشيات المسلَّحة في العراق احتلالًا إيرانيًا للأراضي العراقية؟
على ضوء الإستراتيجية الإيرانية في العراق، تُشغِل زيارة فيدان للعراق الجانب الإيراني، باعتبار أنَّ تركيا منافس إقليمي قوي يمتلك أدوات المنافسة الإقليمية، وتمكَّن من إحداث تحوُّلات إستراتيجية في الساحة الإقليمية، لا سيّما في الساحة السورية، التي كانت من أهم حلقات المشروع الجيوسياسي الإيراني. لذلك، رُبَّما ترى إيران والإطار التنسيقي أن زيارة فيدان تؤطِّر لدورٍ تركي جديد في العراق لملء الفراغات التي أحدثتها التحوُّلات الأخيرة في المنطقة. وعلى الرغم من أنَّ تركيا تتمتَّع بعلاقات تجارية واسعة مع بغداد مثل طهران، فإنَّ التيارات الشيعية تنظُر إليها على أنَّها الدولة الوحيدة التي تحتلّ أراضي عراقية، بحُجَّة امتلاكها معسكرات في العراق في بعشيقة وأربيل ودهوك بإقليم كردستان.
يُدرِك المسؤولون الأتراك أنَّ التيّارات الشيعية الداعمة للحكومة العراقية لا تُظهِر رغبة أو جَدِّية لحل المشكلة بين العراق وتركيا، بل بالعكس، تعمل على توظيفها بإيعازٍ إيراني ضدّ تركيا، ضمن إستراتيجية المنافسة الإيرانية للدور التركي في مناطق التنافس الجيوسياسي في الشرق الأوسط وخارجه. ويحظى حزب العُمّال الكردستاني بنفوذٍ واسع داخل منطقة سنجار، المتنازَع عليها بين بغداد وكردستان العراق، ويحظى بعلاقات وثيقة مع فصائل مسلَّحة منضوية تحت لواء الحشد الشعبي المدعوم من إيران، ومع بعض التيّارات السياسية الشيعية، مقارنةً بالعلاقات السيِّئة التي تجمع التحالفات الشيعية بالحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يقوده مسعود بارزاني، بل إنَّ العلاقة بينهما تتّسِم بالطبيعة العدائية الواضحة.
رابعًا: المكاسب والتداعيات المُحتمَلة للتعاون التركي-العراقي
من أبرز المكاسب للطرفين، إبدال الحالة الصراعية السائدة بصيغة «تعاونية» تخدم مصالح الطرفين، لا سيّما أنَّ العراق يحظى بوزن جيو-سياسي وجيو-إستراتيجي في الإستراتيجية التركية، لاعتبارات المكان والزمان والسياسة والاقتصاد، يمكن أن تصُبّ في صالح التخفيف من وطأة الأزمات المعقَّدة، التي يشهدها العراق نتيجة حالة الهيمنة الإيرانية على المعادلة العراقية، خصوصًا في ظل مساعي تركيا الراهنة لإعادة ترتيب علاقاتها وتحالفاتها مع دول المنطقة، مستفيدةً من مكانتها ونفوذها، اللذين اكتسبتهما بعد التحوُّلات الإستراتيجية في سوريا. ومن بين المكاسب المُحتمَلة للجانبين، ما يلي:
1. تحقيق التوازن الجيوسياسي
يستفيد العراق من تقوية علاقاتها بفاعِلٍ إقليمي مؤثِّر بحجم تركيا، في موازنة النفوذ الإيراني الضاغِط بشِدَّة على المعادلة العراقية، بأوراق ضغْطٍ عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية، كما تستفيد تركيا بتعزيز التعاون بدولة مهمَّة مثل العراق في موازنة النفوذ الإيراني في الساحة العراقية، لا سيّما في ظلِّ التنافس الإقليمي المحتدم بين تركيا وإيران على القيادة والريادة الإقليمية، كما ستستفيد تركيا في الحصول على دعْمٍ عراقي في الملفات المشتركة بتعزيز دورها في سوريا وليبيا.
2. تنفيذ المشروعات العابرة للحدود
ثاني مكسب للطرفين يتمثَّل في إتاحة الفُرصة لتنفيذ المشاريع التنموية الإستراتيجية المشتركة، حيث يسهِّل التعاون إمكانية تنفيذ مشروع «طريق التنمية» العابر للحدود، الذي اقترحه السوداني في أثناء اجتماع القمَّة العربية الثانية والثلاثين في جدَّة في مايو 2023م، كشريان اقتصادي لتعزيز المصالح والروابط بين الدول العربية وغير العربية المجاورة للعراق (تركيا والسعودية وإيران وسوريا والأردن والكويت والبحرين وقطر والإمارات وعُمان)، ويقوم على مدِّ طريقين متلازمين: طريق دولي سريع وطريق سِكَّة حديد لنقل البضائع والمسافرين، يبدأ من ميناء الفاو الكبير بالبصرة، ويعبر محافظات عراقية (انظر خريطة رقم 1)، وصولًا إلى تركيا، وفي المستقبل إلى أوروبا. ويُتوقَّع لهذا المشروع -حال تنفيذه- تحويل العراق إلى محطَّة جوهرية للتجارة والنقل بين آسيا وأوروبا، وبيئة جاذِبة للاستثمار، ونقطة التقاء للمصالح، ويخلق حالة من التنوُّع الاقتصادي، ويُفيد منطقة جغرافية واسعة من أوروبا إلى الخليج، بينها تركيا، لا سيّما في ظل استمرارية الحرب الروسية-الأوكرانية، التي عطلت سلاسل التوريد. كما أنَّ تركيا تُعَدُّ من أوائل الدول المستفيدة، لكونها دولة مُصنِّعة بالأساس، ما من شأنه تسويق منتجاتها على نحوٍ يوفِّر لها عوائد مالية هائلة، ويعزِّز موقع تركيا كمركزٍ تجاري إقليمي. لكن هناك تحدِّيات أمام تنفيذه: سياسية (الصراعات السياسية بين الدول المُقترَحة ومدى جهوزيتها واستعدادها للالتزام بتنفيذ المشروع)، واقتصادية (الميزانيات والبنى التحتية المتهالِكة في الدول، التي شهِدَت صراعات، مثل العراق وسوريا وغيرها)، وأمنية (استمرارية الصراعات والاضطرابات الأمنية والتنظيمات الميليشياوية والإرهابية ومافيات الفساد)، ما يتطلَّب من العراق ضرورة الانتقال من مرحلة اللا دولة إلى مرحلة الدولة.
خريطة رقم (1): رسْم يوضِّح جزءَ طريقِ التنمية في العراق

المصدر: https://economy-news.net/content.php?id=44054
3. تخفيف أزمة الموارد المالية
تُعَدُّ قضية المياه والسدود التركية المُقامة على نهر الفرات، مثل سدّ «إليسو» وسدّ «أتاتورك» وسدّ «كيسلي كايا»، من أبرز الملفات الشائكة بين البلدين، بسبب تداعياتها على الحقوق المائية للعراق، التي تشهد حالة من العجز الشديد نتيجة السياسات المائية الإقليمية لإيران وتركيا، اللتين تواجهان تحدِّيات في إدارة مواردهما المائية، بدعوى عدم التزامهما الاتفاقيات الدولية الخاصَّة بحِصَص مياه الأنهار، حيث تُشير الأرقام -على سبيل المثال- إلى انخفاض حادّ في حِصَّة المياه العراقية، من نحو 73 مليار متر مكعَّب في 2003م، إلى نحو 50 مليار متر مكعَّب عام 2020م، بسبب ملء السدود التركية. وتصرِّح حكومة بغداد، بأنَّ هذه الأزمة سبَّبت تَصحُّر نحو 70% من الأراضي الزراعية في البلاد، وقد يسهم التقارب المُحتمَل، لا سيما في المجال التجاري والاستثماري، في خلْق مفاوضات ومقاربات مشتركة بنَّاءة تسهم في دفع تركيا نحو إعادة النظر في سياستها المائية تجاه العراق.
4. إعادة إعمار المناطق المُحرَّرة
لم تشهد المُدُن والمحافظات السُّنِّية المُحرَّرة من تنظيم داعش الإرهابي، وهي صلاح الدين وديالي والأنبار ونينوى، أيّ عمليات إعمار، نتيجة سيطرة الميليشيات المسلَّحة عليها، بعد إعلان الحكومة العراقية القضاء عسكريًا على «داعش» فيها منذ العام 2017م، حيث تستغِلّ الميليشيات المسلَّحة المرابِطة في المُدُن المُحرَّرة ذريعة احتمالية عودة «داعش» في استمرارية انتشارها في المُدُن والمحافظات السُّنِّية. وتلك سياسة مقصودة ضمن إستراتيجية تجريف وتشريد أبناء المكوِّن السُّنِّي لديمومة قوَّة المكوِّن الشيعي في الحُكم العراقي. ولذلك، من شأن تعزيز العلاقات العراقية-التركية التباحُث حول مسألة القيام بعمليات إعمار لتلك المدن والمحافظات السُّنِّية، لا سيّما في ظل الضغوط الأمريكية المكثَّفة لمسألة حصر السلاح بيد الدولة العراقية.
5. إمكانية تشغيل خطوط نقْل الطاقة المعطَّلة
رُبَّما يُسهِم التعاون بين الجانبين في إعادة تشغيل خطَّي أنابيب النفط، اللذين ينقلان نفط الموصل وكركوك-جيهان التركي على البحر المتوسِّط في تركيا، ثمَّ إلى الأسواق العالمية. وكان أحد هذه الخطوط تَوقَّف في مارس 2023م، بحُكمٍ من غرفة التجارة الدولية، نتيجة انتهاك تركيا للاتفاقيات الدولية المنظَّمة، عبر تسهيلها صادرات النفط من إقليم كردستان العراق للعالم الخارجي، دون موافقة من الحكومة المركزية في بغداد. بيْد أنَّ عودة العمل بهذا الخط، من شأنها إعادة تصدير نحو 450 ألف برميل من النفط يوميًّا، كانت متوقِّفة منذ وقوف التصدير عبر الخط. أمَّا الخطّ الثاني فقد توقَّف منذ عام 2014م، عند سيطرة «داعش» على أجزاء واسعة من العراق، وفي حال إعادة تشغيله، من شأنه أن يُتيح ضخّ 350 ألف برميل يوميًّا من النفط إلى تركيا، ما يُعيد إلى العراق المبالغ المالية الضخمة التي كان يخسرها نتيجة هذا التوقُّف.
خامسًا: مستقبل واتّجاهات التحرُّكات التركية تجاه العراق
تحظى زيارة وزير الخارجية التركي إلى العراق، والتي تحمل طابعًا أمنيًا وإستراتيجيًّا تركيًّا، بأهمِّية خاصَّة، ليس فقط من الحكومة العراقية، بل من حكومات عديد من الدول والفواعِل الإقليمية، لكونها تأتي في ظل مساعي تركيا الراهنة لإعادة ترتيب علاقاتها مع دول المنطقة، مُستفيدةً من مكانتها ونفوذها، اللذين اكتسبتهما بعد تمكُّن المعارضة السورية من السيطرة على المشهد السوري. كما أنَّها تأتي بعد زيارة الوزير التركي للعاصمة السعودية الرياض، الداعمة القوية للمعادلة السورية الجديدة. بيْد أنَّ لقاء الوزير التركي بالرئاسات العراقية الثلاث ووزير الدفاع، وعدم الاكتفاء بنظيره العراقي، يعكس حجم الأبعاد الأمنية والإستراتيجية للزيارة، من وجهة نظر القيادتين العراقية والإيرانية، وأنَّ تركيا تعمل على استثمار التحوُّلات الشرق أوسطية الجديدة لأقصى حدّ، لصالح معالجة مهدِّداتها الأمنية على الحدود العراقية والسورية، وأنَّها تتوقَّع استجابة من الحكومة العراقية، على ضوء التغييرات الإقليمية.
تنتظر العلاقات التركية-العراقية فُرصةً مواتية، لتعزيز العلاقات البينية، عطفًا على المتغيِّرات الإقليمية الراهنة، والتي تتقدَّمها الهزائم الإيرانية في العراق وسوريا، والضغوط الأمريكية والإسرائيلية المكثَّفة على الحكومة العراقية لثنيها عن المحور الإيراني، وحالة الارتباك السائدة لدى قادة التحالفات والميليشيات الشيعية خشية عمليات انتقامية أمريكية وإسرائيلية بحقِّهم، وهواجس الدائرة الضيِّقة المقرَّبة من النظام الإيراني -الراعي للتحالفات الشيعية في العراق- على مستقبل النظام ذاته، وعودة العمل بالعقوبات الأمريكية ضدّ إيران، ورفع العراق من قائمة الدول المُستثناة من العقوبات ضدّ إيران، فضلًا عن تحوُّل العراق إلى دولة مُحاطة بأنظمة سُنِّية، من الكويت إلى السعودية والأردن وسوريا وتركيا، مع وجود شهية تركية مفتوحة لتشكيل محور سُنِّي يضُمّ الدول السُّنِّية، بما يعزِّز من الحضور والمكانة التركية الإقليمية.
قد تحُدّ الخلافات الداخلية العراقية النابعة من تحفُّظات الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان حول التدخُّلات التركية في شمال العراق، والتأثيرات الإقليمية والدولية خاصَّة، لا سيّما من إيران والولايات المتحدة على القرار العراقي، من المكاسب التركية في الساحة العراقية. كذلك، من الصعب للغاية الوصول إلى صيغة مُرضية في قضية المياه الشائكة بين الجانبين التركي والعراقي، بسبب الشح المائي في العراق، وطريقة إدارة الموارد المائية في تركيا. ولذلك، فإنَّ زيارة فيدان تحمل في طيّاتها فُرَصًا وتحدِّيات للجانبين، وتقِف مسألة نجاحها في تعزيز العلاقات البينية على قُدرتيهما على تحقيق التوازن بين الاحتياجات الإقليمية والمصالح الوطنية والحلول التوافقية للملفات الشائكة، في ظلّ التحوُّلات الراهنة.