مستقبل المواجهات العسكرية الإسرائيلية- الإيرانية بعد عودة الضغوط القصوى

https://rasanah-iiis.org/?p=37275

بواسطةد.يحيى بوزيدي

نفّذ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وعوده بالعودة إلى سياسة «الضغوط القصوى» ضد إيران، مثلما فعل في ولايته الأولى عندما مزّق الاتفاق النووي مع إيران، لم تكن هذه الخطوة مفاجئة للطرف الإيراني، الذي حاول ثني إدارة ترامب عنها عبر خفض التصعيد مع إسرائيل، بعدم الرد العسكري على هجوم 26 أكتوبر 2024م، وأيضا بالإعراب عن استعداده للتفاوض حول الملف النووي، وإبراز قدراته العسكرية بإجراء مناورات عسكرية، والكشف عن أسلحة نوعية. تزامن توقيع ترامب على مذكرة تشديد العقوبات مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة الأمريكية، وتبادل البلدان خلال الأيام التالية التصريحات التصعيدية؛ فقد أبدى ترامب رغبته في التوصل إلى اتفاق، وعدم استخدام العقوبات كثيرًا، مخيرًا إياها بين التخلي عن برنامجها النووي والصاروخي أو الحرب، في المقابل أوضحت إيران بدورها استعدادها للحوار وعدم الرغبة في امتلاك السلاح النووي، وبعد عودة العمل بسياسة الضغوط القصوى، عادت للتأكيد على عدم جدوى المفاوضات مع الولايات المتحدة. وبهذا تعود العلاقات الإيرانية- الأمريكية إلى مربع التوتر المحفوف بمخاطر الحرب، ويصبح تجدد المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل أحد الاحتمالات الذي تعضده الكثير من التطورات، كما تستبعده بعض الحسابات.

تناقش هذه الدراسة احتمالات تجدُّد المواجهات العسكرية بين إيران وإسرائيل، وذلك من خلال ثلاثة محاور؛ يتطرق أولها إلى مسار ودلالات الهجمات العسكرية المتبادلة بين إسرائيل وإيران بعد السابع من أكتوبر 2023م، ويعرج المحور الثاني على السياقات التي تعود فيها سياسة الضغوط القصوى دوليًا وإقليميًا وداخليًا، ثم ينتقل المحور الثالث إلى المقارنة بين العوامل التي تدفع إلى المواجهة العسكرية والحسابات التي قد تستبعدها أو تؤجلها، ثم يختم بخلاصة يستشرف فيها سيناريوهات المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل.

أولًا: مسارات ودلالات المواجهات العسكرية بين إسرائيل وإيران بعد انفجار الحرب في غزة

 طغت حروب الوكالة والعمليات الخاصة على المواجهات العسكرية بين إيران وإسرائيل في العقود الماضية؛ حيث اقتصرت على الحرب مع حلفاء إيران والاغتيالات والعمليات التجسسية والسيبرانية، ولكن بعد عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023م، تدرج التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل بشكل سريع، وصولًا إلى المواجهة العسكرية المباشرة، والتي حملت معها الكثير من الدلالات.

1. مسارات المواجهات العسكرية بين الطرفين

عقب السابع من أكتوبر 2023م، بادرت إسرائيل بالتصعيد العسكري المباشر ضد إيران، باستهدافها بهجوم صاروخي مبنى تابع للسفارة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق في بداية أبريل 2024م، قُتل على إثره قادة من الحرس الثوري الإيراني، وهو ما اعتبرته إيران هجومًا يستوجب الرد الذي يكفله لها القانون الدولي، لتقوم يوم 13 أبريل بشن هجوم صاروخي رمزي على إسرائيل، كانت رسائله سياسية أكثر منها عسكرية؛ كونه افتقد لجل شروط الهجوم العسكري الحقيقي وفي مقدمتها عنصر المباغتة، حيث أُعلن عنه بشكل مسبق، كما استخدمت فيه صواريخ وطائرات مسيرة محدودة التأثير؛ إذ استغرق وصولها لأهدافها ساعات، وتم اعتراض جلها، كما لم تخلف أي خسائر عسكرية، وميزته الوحيدة كانت في كونه مواجهة مباشرة بعد عقود من المواجهات غير المباشرة بين الطرفين. تعهدت إسرائيل بالرد على الهجوم هي الأخرى، وفي يوم 19 من الشهر نفسه وقعت انفجارات داخل إيران نُسبت إلى إسرائيل، اعتبرتها إيران شكلية لا تستوجب الرد المباشر، خاصة وأن إسرائيل لم تعلن مسؤوليتها عنها.

تواصلت التهديدات المتبادلة بين الطرفين في ظل استمرار الحرب على غزة، وعدم التوصل إلى اتفاق لوقفها، وفي خطوة تصعيدية جديدة اغتالت إسرائيل يوم 31 يوليو إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خلال تواجده في طهران للمشاركة في تنصيب رئيس الجمهورية الجديد مسعود بزكشيان، واعتبرت إيران ذلك تصعيدًا جديدًا يستوجب الرد، غير أنها لم تشن أي هجوم. وفي 27 سبتمبر اغتالت إسرائيل حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، والقائد في الحرس الثوري عباس نيلفورشان، دفعت هذه الضربة الكبيرة إيران للرد، فشنت يوم 02 أكتوبر هجومًا جديدًا ردًا على اغتيال القادة الثلاثة، كان مختلفًا نسبيًا عن الهجوم الأول، من حيث عنصر المفاجأة، ونوع الأسلحة، والخسائر العسكرية والمادية، لتنفذ إسرائيل في نهاية شهر أكتوبر هجومًا عسكريًا ردًا على الهجوم الذي نفذته إيران مطلع أكتوبر، ورغم أنه كان هو الآخر أقوى من هجوم أبريل الذي لم تتبنه أساسًا؛ حيث استهدفت مواقع عسكرية متنوعة، غير أنه لم يكن بالقوة التي توعدت بها.

تركت إيران المجال مفتوحًا للرد على الهجوم الإسرائيلي، حيث أدانت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة، ووصفته بـ«العمل العدواني الذي قام به الكيان الإسرائيلي ضد المنشآت العسكرية»، وأكدت  على عدم التردد في اتخاذ أي إجراء للدفاع عن أمنها وسلامة أراضيها([1]). وأدلى قادة النظام الإيراني بتصريحات حول الرد على الهجوم الإسرائيلي، في المقابل لم يتوقف المسؤولون الإسرائيليون عن التهديد بالرد أيضًا؛ إذ قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إن أي هجوم إيراني ثالث على إسرائيل «سيؤدي ببساطة إلى شل الاقتصاد الإيراني». وأضاف أن هجومًا إضافيًا محتملًا «سوف يسلبكم مليارات الدولارات الإضافية»، وذلك بعد أن زعم ​​أن الهجوم الصاروخي الباليستي على إسرائيل في أكتوبر كلف طهران 2.3 مليار دولار([2]). بدوره حذّر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال هرتسي هاليفي، من أنه في حال شنت إيران هجومًا جديدًا، فإن إسرائيل «ستصل إلى إيران بقدرات لم نستخدمها حتى هذه المرة، وستضرب بقوة شديدة كل القدرات والأماكن التي تجنبناها هذه المرة». وأضاف أن السبب وراء امتناع إسرائيل عن ضرب مصانع الصواريخ الإيرانية ومواقع أخرى هو «أننا قد نضطر إلى القيام بذلك مرة أخرى» ([3]). توقفت المواجهة العسكرية بين الطرفين عند هذا المستوى، بتأكيد كل منهما على تحقيق أهدافه، مع احتفاظ إيران بحقها في الرد على الهجوم الأخير، وتوعد إسرائيل هي الأخرى بالرد على أي هجوم جديد.

2. دلالات الهجمات بين إسرائيل وإيران

حملت المواجهات العسكرية المباشرة بين إسرائيل وإيران الكثير من الدلالات، يمكن إجمال أهمها فيما يلي:

  • خلخلت الهجمات قواعد الاشتباك المتعارف عليها بين الطرفين دون أن تغيرها؛ حيث تعتبر الهجمات العسكرية المباشرة المتبادلة بين إيران وإسرائيل خروجًا عن قواعد الاشتباك، التي كان متوافق عليها طيلة العقود الماضية، ولكن المستوى الذي توقفت عنده لا يعكس تغييرًا جذريًا في قواعد الاشتباك؛ حيث أظهرت الجولة الأولى والثانية من الهجمات إدراك الطرفين لمخاطر التصعيد العسكري الكبير، فبالنسبة لتل أبيب فإنها تقدر الأضرار الكبيرة التي تنتج عن الحرب الشاملة مع إيران، وفي المقابل تتخوف طهران من تعرضها لهجوم أمريكي كبير نتيجة الحرب على إسرائيل؛ لذلك فإن الطرفين عادا في الأخير إلى قواعد الاشتباك السابقة، وهو ما تجلى في استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، واقتصار الموقف الإيراني على المساندة السياسية، والدعم المالي والعسكري، والتراجع عن مفهوم وحدة الساحات الذي نظرت له سابقًا. ويبدو أن الهدف الأساس الذي سعى الطرفان إليه هو تحقيق أهدافهما «الردعية»، وهو ما يعكس بالتالي رغبتهما في العودة إلى قواعد الاشتباك السابقة.
  • تشير كرونولوجيا أو (التسلسل الزمني) للمواجهات العسكرية المباشرة، أن إسرائيل كانت هي المبادرة إلى التصعيد، يعقبه رد من إيران، وتميزت الهجمات بالمحدودية عند الطرفين؛ إذ يشابه الهجوم الإسرائيلي  يوم 26 أكتوبر نظيره الإيراني الأول في أبريل، من حيث رسائله السياسية مقارنة بحمولته العسكرية، حيث كانت نتائج الهجوم الإسرائيلي الثاني كما سبق الإشارة، محدودة جدًا مثلما حصل تمامًا في الهجوم الإيراني الأول، كما تداولت بعض التقارير الصحفية خبر إبلاغ الجانب الإسرائيلي الإيرانيين بموعد الهجوم وطبيعة أهدافه بشكل عام([4])، فضلًا عن تسريب وثائق سرية أمريكية عن الهجوم([5]). وفي المقابل قللت طهران من حجم الهجوم، وأكدت على التصدي له والرد المناسب، وهو ما فعلته إسرائيل أيضًا في الهجوم الأول. يكشف هذا المسار أن الفصل بين الساحات بدأ من الرد الإسرائيلي المحدود، الذي كان بداية لخفض التصعيد، وهو ما جعل إيران تكتفي بالاحتفاظ بحق الرد والتهديد به فقط.
  • تضاربت التقييمات للهجمات العسكرية في الجولتين؛ فقد أصدر الطرفان تصريحات متناقضة غلب عليها تضخيم الهجوم، والتقليل من أهمية الهجوم المضاد؛ ففي الجولة الأولى خلال شهر أبريل، ضخمت إيران من حجم هجماتها، في حين قللت إسرائيل من أهمية تلك الهجمات، بدليل نجاحها في التصدي لها، ولاحقًا قللت إيران من الرد الإسرائيلي، الذي لم يخلف أي أضرار ولم تتبنه إسرائيل رسميًا. في بداية الجولة الثانية قللت إسرائيل من الهجوم الإيراني في الثاني من أكتوبر، ثم عادت لتضخيمه أو الإفصاح عن حجمه الحقيقي؛ لتبرير الرد القوي الذي توعدت به، أما إيران فأكدت نجاحه مقارنة بالهجوم الأول، وفي تقييم الرد الاسرائيلي يوم 26 أكتوبر توافقت التقييمات الإيرانية للهجوم مع آراء المعارضة والرأي العام الإسرائيلي، حيث كان هناك إجماع على فشل الهجوم وإن اختلفت تفسيراته، فالإيرانيون عزوه لقوة إيران وخوف الإسرائيليين منها، في حين ألقى الإسرائيليون باللوم على الإدارة الأمريكية، التي مارست ضغوطًا على الحكومة الإسرائيلية، ومنعتها من شن هجوم قوي يستهدف القطاعات الإستراتيجية في إيران (المواقع النووية والنفطية). وبينما تعتقد المعارضة الإسرائيلية أن الهجوم كان صغيرًا، يرى الإيرانيون أن دفاعاتهم كانت قوية واستطاعت صد الهجوم([6]). أما على المستوى الرسمي، فقيم المرشد الإيراني علي خامنئي الهجوم بالقول: «لا ينبغي تضخيم الأفعال الشريرة للنظام الإسرائيلي قبل ليلتين، ولا التقليل من شأنها». في المقابل قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، «إن إسرائيل ضربت بقوة قدرة إيران على الدفاع عن نفسها، وعلى إنتاج الصواريخ خلال الهجوم الجوي». وأضاف: «الهجوم في إيران كان دقيقًا وقويًا وحقق جميع أهدافه»([7]).
  • اتسمت الهجمات في الحالتين الإيرانية والإسرائيلية بمحدوديتها؛ وإن كان يصعب الخروج بتقييم دقيق للهجمات العسكرية، في ظل البروباغندا التي مارسها طرفا الصراع كما سبق الإشارة، لكن بغض النظر عن كل هذا فإنه من الواضح دائمًا في الحالتين التباين الكبير بين حجم الخطاب الرسمي وبين الهجمات الفعلية، خاصة في الجولة الثانية من الهجمات، فكما لم يكن الانتقام الإيراني لحسن نصر الله كبيرًا بحكم أهميته في مشروعها، فإنه في المقابل لم يكن الهجوم الإسرائيلي بالمستوى الذي كان يؤكد عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي وتبشيره بتحول كبير في أعقابه؛ إذ لم يتم استهداف مواقع ذات أبعاد إستراتيجية كمًا ونوعًا، خاصة المنشآت النووية والنفطية، التي طالما توعدت إسرائيل بضربها بحيث تترتب عنها انعكاسات كبيرة جدًا، سواء في الداخل الإيراني أو على المستوى الإقليمي والدولي.
  • الدور الأمريكي كان بارزًا في ضبط الهجمات العسكرية بين إسرائيل وإيران؛ ففي الجولة الأولى نفت واشنطن علمها أو علاقتها بالهجوم على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، ومع تفهمها للموقف الإيراني كون المكان المستهدف منشأة دبلوماسية، إلا أنها في الوقت نفسه حذّرت طهران من استهداف المصالح الأمريكية في أي رد، كما أكدت للحكومة الإسرائيلية على مساعدتها في الدفاع عن نفسها، ونقلت أصولًا عسكرية إضافية إلى المنطقة، وحثت إيران على عدم التصعيد، وبدورها أبلغت طهران عمليًا الولايات المتحدة بردها «المحسوب» مسبقاً. نتيجة لذلك ومع المشاركة في صد الهجوم الإيراني، حضت واشنطن إسرائيل على عدم الرد على الهجوم الإيراني، وهو ما تم عمليًا لتجنب التصعيد، كون الرد الإسرائيلي كان محدودًا جدًا ولم تتبنه تل أبيب. وبعد اغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية في طهران، توجهت حاملة الطائرات «أبراهام لينكولن» إلى شرق البحر المتوسط، كرسائل ردعية لكبح الردود العسكرية الإيرانية، وكانت هناك إشارات إلى العمل على وقف الحرب لتجنب الرد الإيراني، غير أن اغتيال حسن نصر الله لاحقًا اضطر الإيرانيين للرد، وهو ما تفهمته الولايات المتحدة الأمريكية؛ كونها لم تبعث تهديدات لردع إيران عن خطوتها، وفي المقابل ساعدت إسرائيل على صده، ووصفته بأنه لم يكن فعالًا، ولاحقًا ضغطت على إسرائيل أيضًا حتى يكون ردها متناسبًا، كما تم تسريب تفاصيل الهجوم الإسرائيلي من طرف موظف في المخابرات الأمريكية، وبعد تهديد إيران بالرد على الهجوم الإسرائيلي، حذرت الولايات المتحدة من أنها لن تتمكن هذه المرة من كبح جماح الإسرائيليين في حال أقدمت طهران على ذلك([8]).  وبهذا واصل الفاعلان الإقليميان التصرف بمسؤولية من خلال التزامهما بالخطوط الحمراء الأمريكية([9]).

ثانيًا: سياقات عودة الضغوط القصوى

تأتي سياسة الضغوط القصوى ضد إيران من جديد في سياق دولي معقد، ارتسمت الكثير من ملامحه بعد عودة دونالد ترامب للإدارة الأمريكية، وما خلّفته قراراته من آثار في المشهد العالمي. أما على المستوى الإقليمي فقد بدأت التحولات بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، ثم شن إسرائيل حربًا على قطاع غزة امتدت إلى اليمن ولبنان وإيران وكانت لها تداعيات كبيرة، ولا تزال الأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات، في ظل الغموض الذي يكتنف مسار المفاوضات ووقف إطلاق النار، ومقترحات الرئيس الأمريكي حول مستقبل قطاع غزة، الذي أضاف تعقيدات أكثر لمنطقة الشرق الأوسط، كما ظهرت انعكاسات سياسات ترامب سريعًا في إيران، لتزيد من التعقديات الداخلية الأخرى.

  1. السياقات العالمية

تتمثل أهم التطورات العالمية في علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها ومنافسيها على المستوى الدولي، وبشكل خاص دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، وضمن هذا النطاق يمكن الإشار إلى الملامح التالية:

  • فتح دونالد ترامب فور استلامه الإدارة الأمريكية جبهات كثيرة في الوقت نفسه، واستهدف الحلفاء قبل المنافسين؛ حيث بدأت ضغوطه على كندا والمكسيك، وأكد على مطالبة الدنمارك ببيع غرينلاند، وسيبدأ بفرض رسوم جمركية على دول الاتحاد الأوروبي. كل هذه الخطوات ستدفع حلفاء الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات مضادة للدفاع عن مصالحهم؛ مما سيؤدي إلى توتر علاقات أمريكا بحلفائها.
  • بدأ دونالد ترامب أولى خطواته لإنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية بإجراء مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أعقبها لقاء بين وزيري خارجية البلدين في المملكة العربية السعودية، تمهيدًا لعقد قمة بين الزعيمين في الرياض، ولا تزال هناك بعض الضبابية بخصوص التوصل إلى اتفاقية بين الطرفين الروسي والأوكراني في ظل التعقيدات التي تحيط بالقضية، فضلًا عن مطالب ترامب بامتلاك نصف المعادن النادرة الأوكرانية، والتي تشترط كييف مقابلها ضمانات عسكرية لأمنها القومي. وبغض النظر عن نتائج هذه التطورات، فإن الإطار العام يعكس توجه العلاقات الروسية- الأمريكية نحو التهدئة في المديين القريب والمتوسط.
  • بدأت المواجهة بين الولايات المتحدة والصين هي الأخرى بشكل سريع، فقد أقدمت إدارة ترامب على فرض رسوم جمركية بنسبة 10% على كل الواردات من الصين، وردًا على ذلك قررت الصين إخضاع الفحم والغاز الطبيعي المسال الأمريكيين، لرسوم جمركية بنسبة 15%، والنفط الخام والآلات الزراعية والمركبات الكبيرة والشاحنات الصغيرة، لرسوم جمركية بنسبة 10%([10]). كما بدأت السلطات الصينية تحقيقًا في قضية احتكار شركة غوغل العملاقة للتكنولوجيا، وأضيفت شركة PVH، المالكة للعلامات التجارية «كالفن كلاين» و«تومي هيلفيغر»، إلى قائمة «الكيانات غير الموثوق بها» في بكين([11]).  يضاف إلى ذلك إطلاق تطبيق الذكاء الاصطناعي «ديب سيك» الذي كلف الشركات المنافسة الأمريكية خسائر بالمليارات، وهو ما اعتبره ترامب  بمثابة «جرس إنذار» للولايات المتحدة([12]). تعكس كل هذه التطورات في ظرف قصير جدًا توجه العلاقات بين واشنطن وبكين نحو التصعيد المتبادل في الحروب التجارية؛ مما سينعكس على القضايا الجيوسياسية التي تتقاطع فيها مصالح البلدين.
  • السياقات الإقليمية

 بدأت بعد السابع من أكتوبر 2023م مرحلة جديدة من التحولات الإقليمية في الشرق الأوسط، والتي كان لها تداعيات كبيرة جدًا على إيران، باعتبارها فاعلاً محوريًا في الإقليم، وتتمثل أهم تلك التحولات فيما يلي:

  • تعرض مراكز النفوذ الإيراني لضربات كبيرة متتالية، وفي مقدمتها سقوط النظام السوري، الذي عزز من عزلة حزب الله اللبناني، وانكفاء الميليشيات الشيعية في العراق، خاصة مع تشكل نظام سياسي جديد في سوريا مناوئ لإيران وحلفائها، ورغم أن السلطة السورية الجديدة تحدثت عن عدم سعيها للدخول في صراعات مع أي طرف، إلا أنها من ناحية أخرى أكدت منعها لأي أنشطة من طرف إيران ووكلائها في الساحة السورية، وهي في مواجهة عسكرية متقطعة مع حزب الله على الحدود اللبنانية.
  • توصلت إسرائيل وحماس إلى اتفاق لوقف إطلاق النار على مراحل، ومع تجاوزه للكثير من العقبات، إلا أنه مهدد بالانهيار في أي لحظة، نظرًا للتوتر الكبير الذي رافق مرحلته الأولى، نتيجة لتبادل الطرفين الاتهامات بعدم الالتزام ببنود الاتفاق، ودخول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على خط الأزمة بمطالبته بإنهاء الاتفاق وفتح ما وصفها بـ«أبواب الجحيم»، فضلًا عن مقترحه بتهجير سكان قطاع غزة، ومطالبة مصر والأردن باستقبالهم؛ مما وسع دائرة مخاطر الحرب أكثر، نتيجة رفض الدولتين تلك المطالب جملة وتفصيلًا، في مقابل تمسك ترامب بمقترحه.
  • السياقات الداخلية الإيرانية

امتدت تأثيرات التطورات العالمية والإقليمية إلى الداخل الإيراني، وقد تجلت أهمها فيما يلي:

  • تعرضت العملة الإيرانية لهبوط كبير جدًا فور توقيع ترامب على مذكرة الضغوط القصوى؛ فقد تراجع التومان إلى أدنى مستوى له على الإطلاق في السوق غير الرسمية، مسجلًا نحو 900000 ريال لكل دولار واحد في السوق السوداء([13]).  ووصف محلل الشؤون الاقتصادية والأستاذ في جامعة الزهراء حسين راغفر ذلك بالكارثة، التي تهدف للإطاحة بالنظام في ظل عجز مؤسسات الدولة عن حل المشكلة([14]). وبالتالي من المتوقع أن تتزايد الضغوط الاقتصادية على النظام الإيراني، خاصة إذا طبقت الدول الأوروبية آلية الزناد قبل نهاية إمكانية استخدامها في أكتوبر 2025م.
  • عادت العلاقات بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى دائرة التوتر، بعد اعتماد مجلس حكّام الوكالة في نهاية نوفمبر 2024م قرارًا ينتقد رسميًا إيران، بسبب عدم تعاونها بما يكفي فيما يتعلق ببرنامجها النووي، وهو ما اعتبره مندوب إيران، محسن نظيري «خطوة» ذات دوافع سياسية ولم تحظَ بدعم كبير مقارنة بالقرارات السابقة”([15]). وفي منتصف فبراير 2025م، صرّح المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي بأن إيران بصدد زيادة إنتاجها الشهري من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% إلى نحو 7 أمثال. ورجّح أن يكون لديها نحو 250 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% بحلول وقت صدور التقرير القادم للوكالة([16]). وفي ظل التطورات الحالية، من المتوقع أن يستمر التوتر بين الطرفين، الذي يتغذى من العقوبات الأمريكية والغربية على إيران.
  • رغم حسم المرشد علي خامنئي القرار بخصوص المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن حالة الانقسام لا تزال مستمرة بين مختلف النخب نتيجة شبه انعدام الخيارات أمام الحكومة الإيرانية لحل الأزمة الاقتصادية، وفشل البدائل الأخرى في تحقيق قفزة حقيقية بل وتأثرها بتلك العقوبات، وكل طرف لديه حجج مقنعة تعضد طرحه، مما سيعمق من حالة الشرخ الداخلي حيال هذا الموضوع.
  • أبرمت روسيا وإيران -قبيل تنصيب ترامب رسميا- اتفاقية شراكة إستراتيجية غطت كل مجالات التعاون السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولكنها لم تحمل بين موادها نقلة نوعية في الشراكة بين البلدين، حيث لم تتضمن أي بند حول الدفاع المشترك على غرار الاتفاقية المبرمة بين روسيا وكوريا الشمالية، بل على العكس من ذلك أكدت احتفاظ كل طرف بسيادته ودفاعه عن نفسه. كما عبرت البنود السياسية عما هو متوافق عليه حاليًا من مواقف مواجهة للنظام العالمي الجديد، أما المجال الاقتصادي فكان جله طموحات لما يصبو إليه الطرفان في المستقبل، وإن كان يصعب تحقيقه لوجود تحديات جمة.

ثالثًا: سيناريوهات المواجهات العسكرية بين التجدد والاستبعاد

حصلت بعد آخر مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران في نهاية أكتوبر 2024م العديد من التطورات، التي تدفع نحو تجدد المواجهة العسكرية، سواء من طرف إيران عبر تنفيذ «الوعد الصادق 3» أو إسرائيل لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي. ولكن في المقابل هناك حسابات دقيقة تجعل الطرفين يأخذانها بعين الاعتبار قبل الإقدام على خطوة تصعيدية جديدة؛ نظرا لتبعاتها الخطيرة وهو ما قد يؤدي إلى استبعاد الخيار العسكري.

1. سيناريو تجدد المواجهة العسكرية

هناك الكثير من الدوافع المباشرة وغير المباشرة، التي قد تقود إسرائيل أو إيران إلى الإقدام على شن هجوم عسكري جديد، تتمثل أهمها فيما يلي:

  • بلوغ إيران مرحلة قريبة جدًا من امتلاك السلاح النووي لصياغة معادلة ردع جديدة، نتيجة انهيار ركائز الردع الأخرى (سقوط نظام الأسد وضعف حزب الله) مما يرفع من قيمة الردع النووي([17])، خاصة بعد فرض عقوبات جديدة عليها، وتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تحذر من ذلك؛ مما سيدفع إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية إلى شن هجوم عسكري فردي أو ثنائي، لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، الذي سيطيح بمعادلة الردع القائمة.
  • انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، ودخول مرحلة جديدة من الحرب قد تدفع تطوراتها إلى عودة إسرائيل إلى توسيع دوائر الحرب، خاصة مع إمكانية دخول الولايات المتحدة الأمريكية كطرف مباشر في الحرب على غزة؛ بحكم مواقف ترامب الداعمة لإسرائيل بشكل شبه مطلق.
  • تأزم الصراع داخل إسرائيل وتوجه بنيامين نتنياهو للتصعيد العسكري للتغطية على الإخفاقات في غزة، وضرب الملف النووي الإيراني لاسترضاء اليمين المتطرف كذريعة لمنع سقوط حكومته؛ في ظل استمرار القوى اليمينية المتطرفة في انتقاد اتفاقيات وقف إطلاق النار، والتهديد بإسقاط الحكومة في حالة عدم العودة للحرب، أو فشل خطط تهجير سكان قطاع غزة.
  • يشجع الأداء العسكري الإيراني خلال المواجهات السابقة كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على ضرب المنشآت النووية الإيرانية، فقد أظهر الواقع ضعف إيران في ساحات المعارك؛ حيث لم تستطع دفاعاتها التصدي للهجمات السابقة، كما انهارت بشكل سريع في الساحة السورية، لعدم توفير روسيا الغطاء الجوي. ورغم المناورات الكثيرة التي تجريها إيران لابراز قوتها، وتهديداتها باستهداف المصالح الأمريكية في الإقليم، إلا أن ذلك لا يخلو من البروباغندا، التي قد لا تصمد في أول مواجهة.
  • تمر إيران ووكلاؤها بحالة من التفكيك بعدما أثبتت إستراتيجية وحدة الساحات فشلها؛ نتيجة عدم انخراط إيران في الحرب مباشرة ونفي علاقتها بهجمات أكتوبر، والتدخل المحتشم لحزب الله اللبناني، الذي انتهى بإضعافه بشكل كبير جدًا بفقدانه جل قياداته العسكرية، والتوصل لاتفاق مع حماس، والضغوط التي تتعرض لها الميليشيات الشيعية في العراق، قد يدفع كل هذا إسرائيل إلى استغلال الأوضاع باعتبارها اللحظة المناسبة لضرب البرنامج النووي الإيراني وتفكيكه.
  • قد تلجأ إيران إلى شن هجوم على إسرائيل، بغرض دفع الولايات المتحدة إلى التوصل إلى اتفاق، إذا ما أدت إستراتيجية الضغوط القصوى إلى شل الاقتصاد الإيراني بما يهدد استمرار النظام السياسي، أو في حالة انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، بسبب عدم التزام أحد الطرفين أو كلاهما ببنوده، ودخول موجة جديدة من المواجهات تصعد فيها إسرائيل مرة أخرى ضد إيران، مما يضطرها للرد مجددًا كما حصل سابقًا.

خلاصة هذا السيناريو أن الجولة الأخيرة من المواجهات العسكرية بين الدولتين انتهت بتهديد إيران بالرد على هجوم 26 أكتوبر؛ وبالتالي فإنه يمكنها المبادرة بشن هجوم، لكن طهران تدرك عواقب مثل هذا القرار ويصعب أن تقدم عليه. وعلى الأرجح لن تكون إسرائيل هي المبادر لشن الهجوم على خلفية الملف النووي الإيراني، بغض النظر عن الأسباب الحقيقية الدافعة له؛ ولكن بعد حصولها على موافقة أمريكية.

2. سيناريو استبعاد المواجهة العسكرية

توجد في الجهة المقابلة عوامل وحسابات أخرى تدفع نحو عدم تجديد المواجهة العسكرية بين الطرفين، تتمثل أهمها فيما يلي:

  • ينزع دونالد ترامب إلى تجنب الحروب؛ فرغم دعمه الكبير لإسرائيل إلا أن ضغوطه دفعت رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى القبول بوقف إطلاق النار مع حماس، كما بدأ في التحرك لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وكلما تقدم في هذا الملف تراجع الخيار العسكري ضد إيران، ومع فرضه للعقوبات على إيران إلا أنه أكد رغبته في التوصل إلى اتفاق، وبالتالي يمكن أن لا يتجاوز حديثه عن قصف إيران أطر التهديد، لدفعها نحو إبرام صفقة وفق أكبر قدر من الشروط التي يريدها، وأيضًا تفضيله لانهيار النظام الإيراني من الداخل، نتيجة العقوبات حتى وإن استغرقت وقتًا أطول.
  • عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تعني إمكانية مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في الهجوم على إيران، وليس التوقف عند حدود الدفاع كما كانت تفعل إدارة الديمقراطي جو بايدن؛ وهذا ما يجعل إيران تتجنب الخيار العسكري ضد إسرائيل، سواء  كان هجومًا أم ردًا على هجوم إسرائيلي، خاصة في ظل تشكل قناعة لدى إيران بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يسعى لجر إيران إلى الحرب لتدميرها وإضعافها، ولذلك تسوق هذه الأطروحة لتجنب الرد على أي هجوم إسرائيلي، انطلاقًا من ذريعة عدم الانسياق وراء الاستفزازات الإسرائيلية، وأن تحركاتها العسكرية تكون وفق حساباتها الخاصة التي تخدم مصالحها.
  • خشية إيران من مخاطر سقوط النظام في حالة الدخول في مواجهة عسكرية في ظل ضعف جبهته الداخلية مع تفاقم الأزمات المعيشية نتيجة العقوبات الاقتصادية، والتباينات بين التيارات السياسية، والتوجه الشعبي نحو التوصل لتسويات مع الغرب، والذي عبّر عنه بانتخاب «الإصلاحي» مسعود بزكشيان، وحتى نواته الصلبة ممثلة في الحرس الثوري ليست متماسكة لدرجة مواجهة تحدي بحجم الولايات المتحدة، بدليل حجم الاختراقات التي كشفتها اغتيالات الكثير من قياداته، فضلًا عن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.
  • الضربات التي تعرض لها وكلاء إيران في المنطقة خاصة حزب الله اللبناني، وحالة الانكفاء التي يمر بها المشروع الإيراني الإقليمي بعد سقوط نظام الأسد؛ تجعل طهران تسعى لتجنب الخيار العسكري لمحدودية قدرتها على مجابهة إسرائيل والولايات المتحدة بشكل متزامن.
  • استمرار وقف إطلاق النار في غزة ونجاح المراحل التالية من المفاوضات، رغم الصعوبات التي تواجهها، والتزام إسرائيل بأبرز بنود وقف إطلاق النار مع حزب الله، وإن كانت قد احتفظت ببعض المواقع ولم تنسحب منها في 18 فبراير، ووقف الحوثيين هجماتهم؛ كل هذا يدفع نحو ترسيخ الهدوء في المنطقة بعد الانهاك الذي تعرضت له كل الأطراف خلال أشهر من الحرب المنصرمة.
  • عمل إيران على بقاء برنامجها النووي في المستوى الذي لا يضطر الولايات المتحدة الأمريكية إلى تنفيذ الخيار العسكري لوقفه، سواء بشكل مباشر أم عبر إسرائيل قبل الوصول إلى السلاح النووي؛ حيث تستمر في التأكيد على سلميته وعدم سعيها لامتلاكه بحكم فتوى المرشد التي تحرمه.
  • تصعيد أوروبا والوكالة الدولية للطاقة الذرية الجديد في الملف النووي الإيراني، يشكل عبئًا إضافيًا يجعل إيران في وضع دولي لا يسمح لها بتوسيع دائرة الأعداء عبر شن هجوم عسكري، لذلك تحاول تفكيك الجبهة الغربية ضدها، بالتأكيد على استعدادها للتفاوض مع الدول الأوروبية، ورفض التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية تحت طائلة التهديد.
  • يبقى التوازن العسكري بين إيران وإسرائيل يحفظ معادلة الردع، حيث يمتلك الطرفان قدرات عسكرية كبيرة وتحالفات تمكن كل منهما إلحاق أضرار معتبرة جدًا بالطرف الآخر، وفي المقابل لا يمتلك أي من الجانبين القدرات العسكرية الكافية لخوض صراع مستمر ومباشر مع الجانب الآخر([18])، وحتى القضاء على البرنامج النووي الإيراني من غير المحتمل أن يتم عبر هجوم عسكري، نظرًا لانتشاره وتحصيناته، وأكبر ما يمكن تحقيقه هو تعطيله لسنوات.

وفق العوامل أعلاه يمكن أن يتم استبعاد المواجهة العسكرية، في حالة وصول اتفاق وقف الحرب في غزة إلى مراحله النهائية، بالتوازي مع بداية مفاوضات لحل الملف النووي الإيراني بشكل مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو عبر وساطة سعودية، أو من خلال المفاوضات مع الدول الأوروبية، وتقديم إيران تنازلات مرضية لأمريكا نتيجة ضغط العقوبات عليها؛ لأن التوصل إلى اتفاق مع ترامب بالقدر الذي يحمله من ضغوط تدفع إلى تقديم تنازلات كبيرة، إلا أنه في المقابل سيكون أكثر إمكانية للاستمرار مقارنة بالاتفاق السابق؛ إذ يستبعد أن يصل رئيس جديد من الحزبين أكثر تشددًا من ترامب، كما أن وجود رئيس «إصلاحي» يزيح بعض الأعباء الأخلاقية عن المرشد والتيار «المحافظ»، الذي يمكنه في الأخير تحميل مسؤولية إخفاق الاتفاق لـ«الإصلاحيين» كما حصل سابقًا.

3. سيناريو تأجيل المواجهات العسكرية إلى النصف الأخير من عهد ترامب

انطلاقًا من الأبعاد والحسابات التي تجعل الخيارات تتأرجح بين تجدد المواجهات العسكرية بين إسرائيل وإيران من عدمها، ووفق المعطيات الحالية؛ لا يبدو الرئيس الأمريكي مستعجلًا لفتح حرب جديدة مع إيران، خاصة خلال العامين الأول والثانی من حکومته؛ حيث يبدو أنه يفضل خيار الضغوط الاقتصادية للتوصل إلى اتفاق أو إسقاط النظام. ورغم أن التجارب الدولية أثبتت عدم فاعلية العقوبات الاقتصادية على الدول، حيث يكون الشعب هو المتضرر الأكبر في حين يستطيع النظام الاستمرار رغم شح موارده المالية، ولكن في الحالة الإيرانية هناك بُعد آخر وهو طبيعة المجتمع الاحتجاجية، وستتزايد احتمالات هذا السيناريو إذا ما عادت الاحتجاجات لإيران.  من ناحية أخرى فإن العقوبات وما يترتب عليها من أوضاع معيشية مزرية تفقد النظام قاعدته الشعبية، كما تفقد أتباعه الاستعداد للدفاع والقتال لأجله. وهذا ما قد يحفز على القيام بهجوم عسكري ضده بعد إنهاكه أكثر عبر العقوبات، بما يحد من قدرته على مواجهة الهجوم ويسرع في سقوطه بأقل التكاليف العسكرية.

أخيرًا يمكن القول، إنه على الأرجح لن تبادر إيران إلى شن هجوم عسكري، والحالة الوحيدة التي تقدم فيها على ذلك فسيكون بعد استشعار النظام الإيراني إمكانية سقوطه الفعلي نتيجة العقوبات، حينها قد تجد في شن الهجوم مخرجًا لتجاوز الضغوط الداخلية، وربما كآلية للتوصل إلى اتفاق ينهي العقوبات. وفي حالة تجدد المواجهة العسكرية فستكون على الأرجح إسرائيل هي المبادر للتصعيد كما حصل خلال الجولات السابقة، وقد تستهدف البرنامج النووي الإيراني أو النظام بشكل عام بحسب ما تهدف إليه. ويستبعد أن تشن إسرائيل هجومًا على إيران في المدى القريب، وإذا حصل فسيكون ذلك نتيجة لعودة الحرب في غزة؛ وامتدادها بطريقة ما إلى إيران كما حصل في الجولات السابقة، أو جنوح إيران للتصعيد في ملفها النووي كرفض التفاوض أو تغيير عقيدتها النووية.

وتأسيسًا على كل ما سبق؛ يرجح السيناريو الثالث وهو تأجيل المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل عند هذا المستوى، خاصة وأن التغييرات التي حصلت تدفع إيران للعمل على وقف حالة الانكفاء والتراجع التي يعرفها نفوذها الإقليمي، ولكن تأثيرات سياسات دونالد ترامب على النظام الإيراني تُبقي المواجهة بين إسرائيل وإيران أو حتى أمريكا مفتوحة على احتمالات التصعيد مجددًا، خاصة في النصف الأخير من ولاية ترامب، إذا لم تتحقق الأهداف المسطرة حاليًا. ومع ذلك لا يُستبعد نهائيًا حصول تطورات غير متوقعة تمامًا كما حصل في السابع من أكتوبر، خاصة في ظل وجود ترامب على هرم السلطة الأمريكية وهو شخصية يصعب توقع قراراتها.


([1]) خبرگزاری تسنيم، ایران:از هیچ اقدامی در دفاع از تمامیت ارضی خود دریغ نمی‌کنیم، (5 آبان 1403ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 01 ديسمبر 2024م،  https://bit.ly/4fgmHKn

([2]) تايم أوف إسرائيل، نتنياهو: أي هجوم آخر على إسرائيل سوف «يشل» الاقتصاد الإيراني، (13 نوفمبر 2024م) تاريخ الاطلاع: 01 ديسمبر 2014م، https://2u.pw/jfnMccIa

([3]) تايم أوف إسرائيل، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: إذا هاجمت إيران إسرائيل مرة أخرى فسنضرب «مواقعًا تجنبناها هذه المرة»، (30 أكتوبر 2024م) تاريخ الاطلاع: 01 ديسمبر 2024م، https://2u.pw/AFPLuouh

([4]) الشرق الأوسط، قبل الضربات… إسرائيل أبلغت إيران بما ستهاجمه وحذرتها من الرد، (26 أكتوبر2024م)، تاريخ الاطلاع: 13 فبراير 2015م،  https://2u.pw/48CkKaDL

([5]) سي أن أن عربية، مصادر لـCNN: تسريب وثائق استخباراتية تظهر معلومات عن خطط إسرائيل لمهاجمة إيران، (19 أكتوبر2024م)، تاريخ الاطلاع: 13 فبراير 2015م،  https://2u.pw/1q7YoYdK

([6]) إيسنا، واکنش‌های مقتدرانه به حادثه‌ تنش‌زای بامداد شنبه، (5 آبان 1403ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 13 فبراير 2015م،   https://bit.ly/4fjqAhx

([7]) الشرق الأوسط، خامنئي: لا ينبغي التضخيم أو التقليل من الهجوم الإسرائيلي، (27 أكتوبر2024م)، تاريخ الاطلاع: 04 ديسمبر 2024م، https://2u.pw/WZ56SYx8

([8]) موقع الحرة، خامنئي: رسالة تحذير أميركية لإيران إن هاجمت إسرائيل مرة أخرى، (02 نوفمبر2024م)، تاريخ الاطلاع: 13 فبراير 2025م،   https://2u.pw/OgTFhlpp

([9])  Atlantic Council experts, Experts react: Israel has hit back at Iran with airstrikes, The Atlantic Council, )Oct. 26, 2024(, Accessed: Feb. 27, 2025,  https://2u.pw/mFYPVZ5U

([10]) وكالة الأناضول، الصين ترد على ترامب برسوم جمركية جديدة على الولايات المتحدة، (04 فبراير 2025م)، تاريخ الاطلاع: 17 فبراير 2025م،   https://2u.pw/3ZGwolkG

([11]) بي بي سي عربية، حرب الرسوم الجمركية المتبادلة بين بكين وواشنطن تدخل حيز التنفيذ، (09 فبراير 2025م)، تاريخ الاطلاع: 17 فبراير 2025م،   https://2u.pw/IpLBmCcM

([12]) فرانس 24، «ديب سيك» تطبيق صيني يغير معادلة الذكاء الاصطناعي العالمي، (28 يناير 2025م)، تاريخ الاطلاع: 17 فبراير 2025م،   https://2u.pw/IpLBmCcM

([13]) موقع الجاده، الريال الإيراني يواصل التراجع مع العقوبات وشائعات تغيير قيادة البنك المركز، (11 فبراير 2025م)، تاريخ الاطلاع: 19 فبراير 2025م، https://aljadah.media/archives/81073

([14]) نامه نيوز، راغفر: دلار را به بالای ۱۱۰ هزار تومان می رسد | نظام باید بین بقای خودش وبقای مافیاها یکی را انتخاب کند، (25-11-1403ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 17 فبراير 2025م، https://bit.ly/3CPg6sI

([15]) بي بي سي عربي، مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارًا ضد إيران، (22 نوفمبر 2024م)، تاريخ الاطلاع: 18 فبراير 2025م،  https://2u.pw/UbaeAX1m

([16]) الجزيرة نت، الذرية الدولية تجدد التحذير: إيران تقترب من صنع قنبلة نووية، (15 فبراير 2025م)، تاريخ الاطلاع: 18 فبراير 2025م، 18https://2u.pw/eXFZL6VN

([17])  Ray Takeyh, Will Iran Become More Dangerous After Assad’s Ouster in Syria?, Council on Foreign Relations, (Dec. 08, 2024), Feb. 27, 2025, https://2u.pw/boiyp5LO

([18])  John Raine, Fabian Hinz, Nick Childs, Julia Voo, Iran and Israel: everything short of war, International Institute for Strategic Studies, (May 17,  2024),  Feb. 27, 2025, https://2u.pw/hxZcrTgN

د.يحيى بوزيدي
د.يحيى بوزيدي
باحث بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية