حدَّد المرشد الإيراني علي خامنئي خلال لقائه الأخير بطاقم وزارة الخارجية بتاريخ 20 مايو الماضي، ضوابط جديدة لإدارة العلاقات الإيرانية مع دول العالم خلال الفترة القادمة، هي: الحضور الفعَّال والموجَّه في مختلف الظواهر والأحداث والتوجهات السياسية والاقتصادية في العالم، القدرة على التبيين المقنع لمنطق مقاربات البلاد للقضايا المختلفة، الحد من السياسات والقرارات التي تهدِّد إيران، إضعاف المراكز الخطرة، القدرة على تشخيص الجوانب المخفية في القرارات والإجراءات الإقليمية والعالمية، وتقوية الحكومات والمجموعات المتحالفة والمؤيدة لإيران وتوسيع العمق الإستراتيجي للبلاد.
ويلاحظ أن هذه الضوابط ركزت بشكل رئيس على تنفيذ هدفين رئيسيين هما محاولة التخلص من الضغوط التي تتعرَّض لها إيران، والإبقاء على مشروع التمدد والتوسع الخارجي.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على ضوابط خامنئي الجديدة حول السياسة الخارجية الإيرانية، عبر تناول المحاور التالية: السمات والثوابت الخاصة بالسياسة الخارجية الإيرانية، قراءة في خطاب خامنئي ودلالاته، وتأثيرات خطاب خامنئي على سياسة إيران الخارجية.
أولًا: سمات وثوابت السياسة الخارجية الإيرانية
تلتزم وتتمحور السياسة الخارجية الإيرانية حول مجموعة من الثوابت والقواعد الكلية الجامعة التي تحكم النظام السياسي، وترتبط هذه الثوابت ارتباطًا وثيقًا ببقاء النظام واستمراريته في الحكم، وهي على النحو التالي:
1. مركزية الأيديولوجيا والهوية القومية في السياسة الإيرانية
تتمحور السياسة الخارجية الإيرانية حول نظرية ولاية الفقيه ومبادئها المذهبية الحاكمة للنظام في إيران، كما تتمحور أيضًا حول مبدأ الهوية القومية الفارسية، وتجلَّت نظرية ولاية الفقيه والهوية القومية في السياسة الخارجية الإيرانية في الهوية الدينية للدولة وفي طبيعة النظام الحاكم الذي يمسك بزمامه رجال الدين الذين يصنعون السياسة الخارجية للدولة حسب طبيعة ومبادئ نظرية ولاية الفقيه والهوية القومية في علاقات الدولة الخارجية.
تُعد الأيديولوجيا والهوية القومية مركزيةً في السياسة الإيرانية، ولذلك باتت تتمحور حول عدة مبادئ: الأممية الإسلامية يكون فيها الولي الفقيه ولي أمر المسلمين كافة، والتأكيد على خلق هوية فارسية تحافظ على تفوق العرق الفارسي داخليًا في مواجهة الهويات غير الفارسية، والاستقلالية ورفض التبعية والنموذج الغربي في مقابل تكوين نموذج وهوية مغايرة بتدشين الجمهورية العالمية المزعومة، وعلى هذا النحو قسَّمت إيران العالم لقوى الاستكبار (الولايات المتحدة وحلفاؤها) والمستضعفين (إيران وحلفاؤها).
ترتبط السياسة الإيرانية ذات الأبعاد الأيديولوجية والقومية ارتباطًا وثيقًا بديمومة النظام لاعتقاده بأن السبب الرئيس في استمراريته وبقائه تمحورُه حول تلك النظرية والهوية القومية، ليصبح من المهام الرئيسية للنظام المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بديمومته وبقائه: مهمة تحررية تدخلية من خلال تصدير الثورة ونشر التشيع في الخارج انطلاقًا من ضرورة تحرير الشعوب ونصرة المستضعفين ممن يعتنقون المذهب الشيعي في كافة أصقاع الأرض.
2. دستورية الطابع المذهبي والقومي والثوري تجاه الخارج
لم يقف الطابع المذهبي والقومي والثوري والتدخلي في عقول رجال الدين الذين سيطروا على مقاليد الحكم في إيران فحسب، ولم يكن أيضًا فقط ضمن النصوص النظرية لنظرية ولاية الفقيه، وإنما ضمنوا تلك الأفكار والمبادئ المذهبية والثورية والتدخلية في الوثيقة الأسمى لإيران (الدستور)، ليس ذلك فقط بل للتأكيد تضمن الدستور على العديد من النصوص فوق الدستورية الواضحة والصريحة فيما يخص المذهبية والطبيعة الأيدولوجية والثورية لإيران لنصرة المستضعفين، تلك المبادئ التي صُنِع على ضوئها مضمون السياسة الخارجية، وتحدَّدت أدواتها ودوائرها، بل وتوجهاتها نحو العالم الخارجي.
دستوريًا، باتت نظرية ولاية الفقيه تُعبِّر عن مشرع شيعي عالمي تحت قيادة الولي الفقيه في إيران، لا سيما بعد أن حمل الدستور بنودًا تتيح لإيران: حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول، حق تجاوز سيادة الدول وسلامة أراضيها، وحق القفز على مبدأ حسن الجوار، حيث نص الدستور في ديباجته، والعديد من مواده على مبدأ تصدير الثورة، وأكسب الدستور النظام ميزة كبيرة ووفر لها ورقة قوة كبرى باعتباره يُعبِّر عن قبول شريحة واسعة من الشيعة الإيرانيين من الذين لديهم الاستعداد للدفاع عن النظام ومبادئه لحد التضحية بأنفسهم، كما جعل من إيران قبلةً للشيعة سواءً في الشرق الأوسط أو في العالم أجمع، مما وفر للنظام مصدر قوة دعم إضافية.
3. عدم إغفال الطابع البراجماتي في السياسة الخارجية لإيران
بينما ترسَّخت الأيديولوجيا الثورية والتدخلية في السياسة الإيرانية بحجج نصرة المستضعفين وحماية المزارات الشيعية في الخارج تباينت هوامش البراغماتية (تكون فيها المصلحة هي حجر الزاوية في التعاطي مع الأحداث والمتغيرات وإقامة العلاقات وتدشين التحالفات) في تنفيذ السياسة الإيرانية. ولذلك حال تعارض قيم الخطاب الإيراني مع المصالح العليا للدولة الإيرانية، فإن النظام غالبًا ما يُعلي من قيمة المصلحة (المرونة البطولية كما سماها المرشد)، فإذا كانت المصلحة تقتضي مثلاً الحوار مع من تصفُهم إيران بقوى الاستكبار، فإنها ستكون على أهبَّة الاستعداد للحوار مع نظرائهم الأمريكيين حتى في أي مكان كما يقول محمد جواد لاريجاني مثل صفقتي “إيران كونترا “، وبيع النفط للدول الأوروبية لشراء الأسلحة من روسيا والصين وكوريا الشمالية.
وكذلك، ترسي إيران علاقات وثيقة مع حركتي حماس والجهاد السنيتين لاقتضاء المصلحة، في الوقت الذي تعد فيه علاقاتها مع دولة مثل أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية هي الأسوأ على الإطلاق بين دول أقاليم الجذب الإستراتيجي مقابل علاقات جيدة مع أرمينيا المسيحية المعادية لأذربيجان، ولا يوجد أبلغ من تصريح خامنئي في السابق بأنه “عندما ننظر إلى الدول التي لدينا معها علاقات، فإننا ننظر إلى مصالحنا”.
4. الطابع الثوري: أزمات في الداخل وعزلة بالخارج
وضعت هذه السياسات الثورية والمذهبية والقومية والتدخلية، إيران أمام معادلة معقدة للغاية جعلت النظام يقف على أعتاب ثورات شعبية عارمة أوشكت أن تطيح بأركانه، ومطالبة بإجراء تعديلات وتغييرات كبرى في سياساتها الداخلية والخارجية على السواء، لكونها خلقت معضلات صعبة للغاية في الداخل (أوضاع معيشية متردية وتفاقم معدلات البطالة والتضخم والجرائم وتراجع قيمة العملة)، وسياسية (احتجاجات شعبية عارمة متتالية أرهقت النظام وكشفت عن أزمات داخلية عصية وصراع مع الإصلاحيين لإجراء تعديلات دستورية)، عرقية (صراع عرقي على خلفية إيلاء إيران الأولوية للقومية الفارسية على حساب بقية القوميات)، مذهبي (صراع مذهبي لإيلاء إيران الأولوية لمعتنقي المذهب الشيعي).
بينما في الخارج، جعلتها في حالة من العزلة والحصار عربيًا وإقليميًا ودوليًا؛ لأن من شأن سياساتها التأثير على أنظمة الحكم القائمة وتأجيج الصراعات السياسية والنعرات المذهبية في دول المنطقة بدعمها الفاعلين من دون الدول التابعين لها، وتجاوزها كافة الاتفاقيات والمواثيق الدولية الخاصة باحترام الحدود الدولية، وسيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها، وحسن الجوار، وتبنيها سياسة خارجية تتقاطع وتتصادم إستراتيجيًا وأيديولوجيًا مع مصالح من تصفهم بقوى الاستكبار، ما يؤطر لمفهوم سباق التسلُّح للدفاع عن المصالح في السياسات الإيرانية، وهو ما شكَّل بيئةً داخلية وخارجية ضاغطة للغاية شكَّلت وقودًا لدفع النظام نحو تحقيق المصالحات الإقليمية وإمكانية الإقبال على إجراء تغييرات ولو تكتيكية في سياساتها الخارجية.
ثانيًا: قراءة في خطاب خامنئي ودلالاته
حمل خطاب المرشد علي خامنئي بما تضمَّنه من توجيهات للسلك الدبلوماسي الإيراني في طياته جملةً من الرسائل التي تحمل دلالات متنوعة تتراوح بين الطمأنة والتهديد. ونظرًا لتداخل قضايا السياسة الخارجية بين الملفات الإقليمية والدولية فإن استقراء ما جاء في الخطاب يقتضي تفكيكه واعادة تركيبه بناءً على الزوايا التي يمكن لكل طرف خارجي أن يقرأ من خلالها ما يعتبر نفسه ومعنيًا به، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر.
1. التمسك بثوابت السياسة الخارجية
أكَّد المرشد الإيراني علي خامنئي، على تمسك بلاده بمبادئ سياستها الخارجية، والتحلي بــ”الحكمة” عند تنفيذ هذه المبادئ، التي تعني التعاملات والأنشطة الحكيمة والمدروسة، وأحد مظاهرها المرونة في الحالات الضرورية لتجاوز العقبات الصعبة ومواصلة المسار الأساسي في دبلوماسية البلاد لخدمة مصالحها، وهذا لا يتعارض مع الحفاظ على المبادئ؛ لأن المصلحة تعني إيجاد طريق للتغلُّب على العقبات الصعبة ومواصلة الطريق للوصول إلى الهدف، وضربَ بذلك مثلًا حول سوء الفهم الذي أحيط بمصطلح “المرونة البطولية” الذي أطلقه قبيل عقد الاتفاق النووي في 2015م.
2. تعزيز الروابط مع الحلفاء
تأكيد خامنئي على التمسك بمبادئ السياسة الخارجية الإيرانية يفهم منه حلفاء إيران من الفواعل من غير الدول والمقصود بهذا تحديدًا الميليشيات التابعة لإيران في المنطقة أن طهران لن تفك ارتباطها بهم، باعتبار تلك الجماعات أحد مظاهر تجسيد مبادئ السياسة الخارجية الإيرانية، وفي الإطار نفسه أشار خامنئي أيضًا إلى ذلك بشكل صريح حين أكَّد على “تعزيز الحكومات والجماعات المتحالفة مع إيران وتطويرها، وتوسعة العمق الإستراتيجي للبلاد”، وهذا خطاب واضح ومباشر على أن إيران ستواصل دعم أذرعها التي استطاعت من خلالها مد نفوذها في العديد من الدول العربية، وباتت بذلك تمتلك عمقًا إستراتيجيًا، وهنا يُستشف من كلام خامنئي أن التخلي عن الميليشيات سيُفقد إيران العمق الإستراتيجي الذي يطالب خامنئي كوادرَ الدبلوماسية الإيرانية بتوسيعه.
3. طمأنة الإقليم بحسن الجوار
أشار خامنئي في خطابه أيضًا للعلاقة مع دول الجوار، حيث وصف سياسة الحكومة الحالية اتجاهها بالمهمة والصحيحة للغاية، واعتبرَ سياسات القوى الكبرى في المنطقة تخريبية كونها تعمل على الوقيعة وإيجاد المشاكل بين إيران والدول المجاورة، وينبغي عدم السماح بتحقيق أهداف سياستهم هذه. ضمن هذا السياق وردت بعض العبارات في خطاب خامنئي يمكن أن تفهم أيضًا على أنه اعتراف ضمني بمسؤولية طهران في توتير العلاقات مع المملكة العربية السعودية، وذلك عندما نبَّه إلى أن كل خطوة في السياسة الخارجية يجب أن تكون منطقية ومدروسة، وقد أضرت القرارات والأفعال المتهورة وغير الخاضعة للمساءلة، بالبلاد في بعض الأحيان. لم يقدم المرشد هنا أمثلةً توضيحية مثلما فعل قبلها حينما أشار لسوء فهم مصطلح المرونة البطولية، ولكن في النهاية لا بد أن هناك أفعالًا إيرانية متهورة محددة كانت تأثيراتها السلبية جلية، ولا شك أن استهداف الأجهزة الدبلوماسية للدول بما يتعارض مع الأعراف ومبادئ القانون الدولي أحدها.
الإشارة الثالثة التي تعني دول الجوار كذلك تتمثل في حديث خامنئي عن العلاقة الارتباطية بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية؛ فقد أكد على أهمية الأخيرة في إدارة البلاد وتعزيزها، وفي المقابل فإن الاضطرابات والمشاكل في السياسة الخارجية ستُسبب مشاكل في الوضع العام للبلاد. ما يمكن استخلاصه من هذا أن طهران ستحرص على عدم توتر علاقاتها مع دول الجوار للمحافظة على المكاسب الاقتصادية ومضاعفتها لتجنب الاضطرابات الداخلية الناجمة عن الأزمات الاقتصادية التي باتت تهدد النظام الإيراني بالانهيار.
4. رسائل إلى القوى الكبرى.. العزة وعدم الاستجداء
غلبت لغة التهديد والندية على خطاب خامنئي في علاقة إيران مع القوى الكبرى، وذلك بحثِّهِ السلكَ الدبلوماسي على التصرف بعزة في جميع القضايا العالمية والاعتماد على المبادئ في الأقوال والأفعال ومواجهة تصرفات الآخرين. و”العزة” عند المرشد تعني تجنّب دبلوماسية الاستجداء. كما عبر عن قناعته بوجود تحول في النظام الدولي سيكون عبر عملية طويلة الأمد مع العديد من التقلبات نتيجةً لأحداث غير متوقعة. كما وجه إلى تعزيز علاقة بلاده مع روسيا والصين نظرًا للتعاون والتقارب معهما حيال بعض التيارات والخطوط الأساسية للسياسة الدولية، والذي يعد ظاهرةً غير مسبوقة.
ثالثًا: تأثيرات خطاب خامنئي على سياسة إيران الخارجية
يمكن إبداء عدد من الملاحظات بشأن هذا الخطاب:
الملاحظة الأولى: أنه خطاب توجيهي: يُعد الخطاب وثيقةً توجيهية من خامنئي لكافة مؤسسات صنع القرار المعنية بسياسة إيران الخارجية، ومضامين الخطاب في الحقيقة تعكس الإجماع الداخلي الذي تم بناؤه على مدار الشهور الماضية بشأن سياسة إيران الخارجية ومواقفها تجاه العديد من القضايا على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتبلور بصورة نهائية في خطاب خامنئي.
الملاحظة الثانية: خطاب عام وغامض: إذ على الرغم من الإشارات التي حملها تجاه الأحداث، لكن خامنئي لم يذكر صراحةً موقفه من أي قضية، وبهذا يترك خامنئي لنفسه فرصةً لتغيير مواقفه في المستقبل تجاه أي من القضايا الخارجية دون تحمل عواقب، وهذا يتوافق مع “التقية السياسية” التي ما تزال مؤثرةً على سياسة إيران الخارجية.
الملاحظة الثالثة: خطاب تبريري ومناور: ظهر أن خطاب خامنئي تبريري، إذ بينما أكد خامنئي على واحد من أهم مبادئ سياسة إيران الخارجية، وهو التمسك بالطابع الأيديولوجي، وأولوية الحفاظ على الجمهورية “الإسلامية”، فإنه تطرَّق إلى مفهوم المرونة البطولية، الذي عرَّفه بأنه المصلحة؛ بمعنى امتلاك المرونة في الحالات اللازمة لتجاوز العقبات الصعبة والصلبة، وكأن خامنئي يمهد الطريق أمام تقديم تنازلات على الصعيد الخارجي معتبرًا أن «الحفاظ على المبادئ لا يتنافى مع المصلحة بالمعنى المذكور»، ولعلَّ هذا المبدأ هو مفتاح مهم لمعرفة تأثير هذا الخطاب على سلوك وخيارات إيران خلال المرحلة المقبلة، حتى وإن كان هذا الأساس الأيديولوجي يحتاج في بعض الوقت إلى المرونة بشأن بعض القضايا، لكن هذا من وجهة نظر خامنئي لا يعد تنازلًا بل هو صلب الأيديولوجيا.
هكذا يمكن القول إنه وبعدما تم فك الاشتباك بين المؤسسات لا سيما الخارجية ومجلس الأمن القومي وتوحيد جهة الاختصاص الخاصة بتنفيذ سياسة إيران الخارجية، فإن خطاب خامنئي سيكون هو دليل عبد اللهيان وفريقه في وزارة الخارجية، وسوف يتجلَّى تأثير هذا الخطاب على العديد من القضايا التي تشتبك فيها إيران، ومن أبرز هذه القضايا:
1. مرونة بشأن المفاوضات النووية
وفقًا لذلك فإن المتوقع أن يكون سلوك جهاز الخارجية الإيرانية أكثر مرونةً تجاه العديد من القضايا، وفقًا للمصلحة التي تفرضها التحديات الراهنة، حتى لو كان ذلك مناقضًا لتوجهاتها الأيديولوجية المتأصلة، على سبيل المثال الملف النووي، يعطي خطاب خامنئي الضوء الأخضر لحكومة رئيسي، وللوفد المفاوض التابع لوزارة الخارجية بقيادة كبير المفاوضين على باقري للمضي قدمًا في المفاوضات من جديد، وربما الوصول إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة بشأن إعادة إحياء الاتفاق النووي، حيث أصبحت الخارجية لها سلطة أكبر على الملف النووي بعد الإطاحة بشمخاني من أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي.
2. الاحتفاظ بالعداء للولايات المتحدة
لا يعنى إحياء الاتفاق النووي تغيير نهج إيران تجاه الولايات المتحدة، فخامنئي يؤكد على عدم الثقة في الأطراف الأخرى، ربما في إشارة مقصودٌ بها الولايات المتحدة، ويشير ذلك إلى حفاظ خامنئي على نظرة إيران المتأصلة المناهضة للهيمنة الأمريكية، ويُعيد هذا الخطاب التذكير بما حدث بعد توقيع الاتفاق النووي في 2015م، حيث حاولت إيران الاستفادة من الاتفاق إلى أقصى حد، مع إحباط تأثيره على أي تقارب بين طهران وواشنطن، بل تنكَّر خامنئي فيما بعد للاتفاق نفسه، وسمح هذا للحرس الثوري بمواصلة السلوك العدائي، وتبديد فرص تسوية الخلافات مع الأمريكيين بصورة نهائية.
3. تعاون أوثق مع الصين وروسيا ومزيد من التحالفات مع القوى المناهضة للهيمنة
مقابل هذا أكد خامنئي على سياسة إيران بالتوجه شرقًا، ما يعني مزيدًا من التقارب مع الصين ومزيدًا من التعاون مع روسيا في حرب أوكرانيا، وهذا ينسجم مع التوجه العام بتعزيز تحالفات إيران مع القوى المناهضة للولايات المتحدة والساعية إلى تقويض أحاديتها على الصعيد الدولي، وإحباط أدوات نفوذها وتأثيرها بما في ذلك العقوبات، والتحكم في التعاملات المالية الدولية، وعلى مسار العداء نفسه يؤكد خامنئي على تعاون إيران مع الدول الإسلامية، والقوى المتوسطة المناهضة للهيمنة، وهذا سينعكس في سياسة خارجية إيرانية محورها الابتعاد عن الغرب والولايات المتحدة، وقد تشمل التحركات مزيدًا من العلاقات مع دول الجوار في آسيا الوسطى والقوقاز، وبعض الدول الأفريقية.
4. مواصلة تطبيع العلاقات مع المملكة مع الحفاظ على النفوذ والعلاقة مع الحلفاء
لقد تخلَّى خامنئي عن خطابه العدائي الضمني لدول الخليج والمملكة، ولا ننسى أن قرار تطبيع العلاقات مع المملكة، والاتفاق السعودي-الإيراني برعاية الصين، جاء بضوء أخضر من خامنئي بوصفه المرجعية الأساسية في سياسة إيران الخارجية، ويؤشر ذلك إلى أن خامنئي ما يزال يقدم الدعم إلى الاتفاق، وإلى تحسين العلاقات مع السعودية، كأولوية إقليمية بالنسبة لإيران. مع ذلك فإن الخطاب يحمل بعض الإشارات التي قد تخلق تناقضًا بين مسار تطبيع العلاقات وتهدئة التوترات، وبين سلوك إيران الإقليمي، إذ إن خامنئي رغم حرصه الظاهري على مسار التطبيع مع السعودية ودول الخليج، ما يزال يتمسَّك بتقديم الدعم لحلفاء إيران في المنطقة، وهذا بالطبع يعني أن إيران ربما لن تكون مستعدةً لتقديم تنازلات يمكن البناء عليها لضمان نجاح الاتفاق في تحقيق أهدافه؛ وبالتالي يظل الاتفاق تكتيكيًا أكثر منه إستراتيجيًا، وذلك وفق حسابات إيرانية رأت أن الاتفاق مهمٌ في هذه اللحظة من أجل مواجهة الضغوط الداخلية والعزلة الخارجية المتزايدة.
خلاصة
لا يمثِّل خطاب خامنئي خروجًا عن مواقفه المتأصلة بشأن السياسة الخارجية، وهو خطابٌ راعى فيه الظروفَ الداخلية والخارجية التي تمر بها إيران، كما راعى فيه الإجماع الداخلي الذي تشكل منذ انتخاب رئيسي، بشأن العديد من القضايا الخارجية. وبينما يعد الخطاب بمثابة خطوط إرشادية، فإنه يعطي مؤشرات على سلوك أكثر واقعية بشأن القضايا المثارة على الساحة الدولية، وذلك دون خلل كبير يضر بمواقف النظام الراسخة بشأن الولايات المتحدة أو النفوذ الإقليمي أو العلاقة مع القوى الدولية المناهضة للهيمنة، فعلى الرغم من التهدئة المتوقعة بشأن الملف النووي، والحفاظ على مسار تطبيع العلاقات مع السعودية ودول الجوار، فإن خامنئي ما يزال يؤكد أن هذه المواقف تقتضيها المصلحة، ويبررها للداخل بأنها مرونة لا بد منها، لهذا لا بد من عدم الإفراط في التفاؤل، وانتظار ما إن كان هذا النهج له صداه على الأرض في المستقبل، أم أن خامنئي بعدما يعبُر النظام أزمته، سيُواصل سياسات إيران التقليدية ذات الطابع العدائي والتدخلي على غرار ما حدث بعد توقيع الاتفاق النووي في 2015م، عندما تنصَّل خامنئي من الاتفاق، خصوصًا أن سلوك إيران الراهن ما يزال يؤكد على أن تغييرًا حقيقيًا في نهجها ما يزال بعيد المنال.