تسوية الملف النووي.. مخاطر ومخاوف

https://rasanah-iiis.org/?p=28750

لم تكُن حادثة سلمان رشدي إلا أحد مؤشرات استغلال التراخي الأمريكي، في ظل التحديات التي تواجه الولايات المتحدة، في تفعيل أداة خشنة لردع الخصوم. فعلى الرغم من أن الحادثة يمكن أن تقع في أي مكان ما في العالم، فإنّ دلالة حدوثها على الأراضي الأمريكية يجمع بين التحدي والإهانة للمكانة والهيبة الأمريكية. فخلال ما يزيد على 30 عامًا لوجود سلمان رشدي على الأراضي البريطانية، لم تستهدف إيران أو العناصر الموالية لها هذا الكاتب، فيما عدا محاولة واحدة لم يُكتَب لها النجاح.

وبغضّ النظر على النظرة الأيديولوجية التي أضرم أوارها سلمان رشدي وفتوى الخميني، فإنّ الحديث هنا عن تطاوُلٍ أمنيٍّ يستهدف القوة العظمى في العالم، إذ تعدّى الأمر كونه استهدافًا لأحد المواطنين الأمريكيين أو انتقامًا من شخص الكاتب وانتصار للفتوى، بل تجاوزه إلى التخطيط لاستهداف مسؤولين أمريكيين، كان آخرهم مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون والمخطَّط الذي كُشِف عن السعي لقتله. سبق ذلك التهديد بقتل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو ووزير الدفاع السابق مارك أسبر، للانتقام من دورهم في استهداف القائد السابق لـ«فيلق القدس» قاسم سليماني، وقد أسند المرشد الإيراني مهمة التنفيذ إلى قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري إسماعيل قآني. إضافة إلى ذلك، محاولة اختطاف الصحفية مسيح علي نجاد في الولايات المتحدة من قِبَل شبكة استخبارات إيرانية. المثير في الأمر أن الإدارة الأمريكية الحالية كانت مترددة في تقديم لائحة اتهام رسمية، خشية أن يمسّ هذا بالاتصالات الجارية لإحياء الاتفاق النووي، على الرغم من أن الإدارة الأمريكية سبق أن هددت إيران بتحمُّل عواقب أي اعتداء على مسؤولين أمريكيين، حتى قبل كشف التخطيط لاغتيال بولتون. هذه الحوادث كلها تشير إلى جرأة إيران في نقل سياسة الاغتيالات، التي تنتهجها منذ الثورة، إلى الأراضي الأمريكية نفسها، وأنها قد تتزايد في المستقبل.

السعي الأمريكي لاحتواء إيران من خلال العمل الدبلوماسي، وغضّ بعض الطرف عن ممارسات الفوضى والتنمُّر الإيراني، يُظهِران أن المخطط الأمريكي لم يستوعب إيران جيدًا. وعلى الرغم من عدم نجاح أي رئيس أمريكي منذ عام 1979م في التفاهم مع النظام الإيراني، وكسر أيديولوجيته القائمة على العداء لكل ما هو أمريكي، والإبقاء على عدوّ دائم للمحافظة على رواية النظام وصموده أمام تحديات الداخل والخارج، فإن الإدارة الأمريكية الحالية لا تزال تسترضي إيران في العودة إلى اتفاق نووي لا يمكن التحكُّم به، ويشكِّل مخاوف وتهديدات لأمن المنطقة والعالم، ويزيد حدّة سباق التسلّح. وقد بلغت درجة الاسترضاء إلى القبول بالشرط الإيراني بعدم وجود المفاوض الأمريكي على طاولة المفاوضات، بل ينوب عنه وسيط!

وبتكبير مشهد الأحداث تظهر الازدواجية الغريبة في السياسة الأمريكية، ففي حين تسعى لحشد العالم لمواجهة روسيا في أوكرانيا بحجة الخروج على القواعد الدولية، يحاول مفاوضو الملف النووي الأمريكي في الوقت ذاته التفاهم مع روسيا لإنجاح العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. ومن ناحية أخرى، تسعى الولايات المتحدة للوصول إلى اتفاق نووي مع إيران في حدّه الأدنى، على الرغم من الدعم الإيراني لروسيا في أوكرانيا. كان آخر ذلك ما نشرته الأجهزة الأمريكية نفسها عن تزويد إيران لروسيا بطائرات هجوم واستطلاع من غير طيار، كما أطلقت روسيا قمرًا صناعيًّا إيرانيًّا تستخدمه القوّات الروسية في أوكرانيا. هذا الموقف الاسترضائي الأمريكي يكشف عن مدى انعدام حيلة الإدارة الأمريكية للحفاظ على هيبة القوة العظمى، التي عهدها العالم منذ نهاية الحرب الباردة، والتشكيك في وجود إستراتيجية أمريكية لإدارة المرحلة الحالية.

«النرجسية الإستراتيجية» التي استوضحها مستشار الأمن القومي الأمريكي هربرت ماكماستر، بشأن ميل الولايات المتحدة إلى فهم العالم فقط من خلال منظورها الخاص، تناول مدى واقعيتها في تفسير سلوك الولايات المتحدة تجاه إيران، الباحث في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي، كريم سجادبور، إذ أشار إلى أن الولايات المتحدة تخطئ في كيفية التعامل مع إيران، فليس الأمر الآن بيدها لتغيِّر سلوك إيران بالطرق الدبلوماسية، إذ إنّ معاداة الولايات المتحدة أصبحت مركزية في الفكر والهوية الإيرانية منذ عقود. استشهد الباحث بحديث للرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي حول رؤية خامنئي بأن الجمهورية الإيرانية بحاجة إلى العداء مع أمريكا، وأن المرشد يرى أن حل أي مشكلة في ما يتعلق بأمريكا والمفاوضات معها ليس سوى خسارة اقتصادية وروحية.

وسواء عادت إيران إلى الاتفاق النووي أم لم تعُد، فإنّ الولايات المتحدة باتت غير قادرة على التحكُّم في سير المفاوضات في الحدود التي رسمتها، فالعقوبات التي فُرِضت على إيران قد تآكل مفعولها، لعدم وجود فاعلية في تطبيقها، إذ وجدت إيران وسائل كثيرة لتصدير وبيع نفطها، ومن خلال دول أعضاء في مجلس الأمن، واستطاعت إيران أن تنفُذ إلى فضاء دوليّ يبطل كثيرًا من مفعول العقوبات، مثل منظمة شنغهاي واتحاد دول البريكس، وتجعل من نفسها دولة ذات قبول دوليّ على الرغم من برنامجها النووي، إضافة إلى التطوّرات التقنية التي أضافتها إيران إلى برنامجها النووي، وتخفِّيها عن مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

من زاوية أخرى، فإنّ عدم محافظة الولايات المتحدة على نسق واضح في العَلاقات الدولية جعل العالم يميل إلى اصطفافات غير معتادة، منها الوقوف إلى جانب الممارسات الإيرانية، فقط لتحدّي الانفراد الأمريكي والنرجسية الإستراتيجية المبنية على الفهم من المنظور الأمريكي فقط.

ما لم تدركه -أو ربما تتجاهله الإدارة الأمريكية في سعيها لعقد اتفاق نووي غير مكتمل مع إيران، هو أنه قد يحصل لها مشكلة انتخابية داخلية آنية، لكنه يعجل ويزيد معاناة الولايات المتحدة في عدم القدرة على ضبط المجتمع الدولي الذي تقوده.

لطالما عُرِفت الولايات المتحدة واستطاعت فرض إرادتها من خلال أداتها العسكرية الغليظة، ابتداءً من إخضاع الإمبراطورية اليابانية، وانتهاءً بتفكيك الاتحاد السوفييتي عبر الحصار العسكري والاقتصادي، لكنها الآن تخلَّت عن مصدر قوتها الأساسي، وتستبدل به دبلوماسية جديدة مختلفة تنبع من تصوّراتها بأن أوامرها ستلقى القبول. والجميع يدرك أن الدبلوماسية ليست مصدر قوة الولايات المتحدة الفعالة، لذلك ظهرت نزعة الخروج عن الإرادة الأمريكية، الذي تقوده روسيا والصين، وترى إيران في ذلك ممارسة قابلة للنجاح أمام النكوص الأمريكي.

لا يعني ذلك دعوة للحرب أو تكرار مأساة العراق، لكن الجميع ينتظر من الدولة التي ترعى هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن أن يكون لها القدرة على ضبط المجتمع الدولي، وتعديل سلوك إيران ليتوافق مع السلوك الدولي القائم على القواعد. وما يحدث من ممارسات أمريكية من التخلي عن مقررات الأمم المتحدة وقتما تشاء، والطلب من الدول التزامها، لا يعدو عن كونه تضاربًا وازدواجية في النهج الأمريكي تجعل الدول الأخرى تلجأ إلى التمرُّد في مواجهة التنمُّر الأمريكي.

لا شك أن إيران التي تكلّفت أكثر من 200 مليار دولار -حسب بعض التقديرات- في سعيها لبرنامجها النووي العسكري، لن تتخلى عن مساعيها في ظل التراخي الأمريكي والانقسام الدولي، فكما يقول المثل العربي: «مَن أَمِن العقوبة أساء الأدب»، فالتخلي عن هذا الجهد المتواصل لعقود وتحمُّل عقوبات طالت كل مقدرات الشعب الإيراني سيكون انتحارًا بالنسبة إلى النظام الإيراني، إضافة إلى أن الوصول إلى السلاح النووي هو حلم أصبح يراود مخيلة القيادة الإيرانية، لفرض قوتها وتحقيق وعودها للشعب الإيراني بقدرتها على الوقوف في وجه الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر) وإسرائيل.

الجميع يدرك أن إيران قوة تعديلية تسعى لفرض قوتها في المنطقة عبر أنشطة تخريبية تهدد مناطق اهتمام للولايات المتحدة الأمريكية، لكن في المقابل فإن الولايات المتحدة قوة يدها مغلولة، إذ ترعى دولة تعديلية أخرى هي إسرائيل، وهنا تكمُن معضلة حل القضية النووية أمام الولايات المتحدة، فلا إيران ستتنازل عن برنامجها النووي بلا ثمن، ولا الولايات المتحدة وإسرائيل ستقبلان ببرنامج نووي إيراني، وليس لدى الولايات المتحدة الرغبة في الاشتباك العسكري مع إيران في الوقت الراهن، وسيكون الثمن والحلول بلا شك على حساب دول أخرى! وختامًا، فإنّ ما يحدث هو عملية حسابية حلولها تتجه نحو مقاربات ترضية للوصول إلى اتفاق ترتضيه كل من إيران والولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى دول المنطقة أن تدرك أنها كبش فداء لهذه التسوية، وعليها ألا تقبل بذلك وتجعل تكلفته عالية على الخصوم، وتعمل على موازنة مصالحها، بين اتّقاء شرور الولايات المتحدة ومستقبل متوازٍ مع شركاء متعدّدين.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد 

اللواء/ م.أحمد بن علي الميموني
اللواء/ م.أحمد بن علي الميموني
مدير وحدة الدراسات العسكرية والأمنية في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية