لقد عملت إيران على خلق وضعٍ ميليشاويٍّ شيعيٍ في منطقة شمال العراق السني، لتحقيق هدفين، أولهما: القضاء على المعارضة الكردية المسلحة في المنطقة التي تستهدفُ الداخل الإيراني، وثانيهما: تغيير خريطة الممر الإيراني من الاعتماد على المرور من الصحراء العراقية «الأنبار» غرب العراق إلى العودة لمسار الشمال بالمرور عبر مدينة الموصل العراقية. وقد شكلت مناطق سهل نينوى إحدى الحلقات في إستراتيجية إيران الإقليمية خلال الفترة الماضية؛ لأسباب كثيرة من أهمها: عدم امتلاك إيران لأدوات النفوذ والسيطرة في هذه المناطق، لكن الحال في مرحلة مابعد «داعش» اختلف تمامًا، إذ عملت طهران على وضع إستراتيجية نفوذ متكاملة الأضلاع في هذه المناطق، بالشكل الذي يجعل منها مصدات إستراتيجية تجاه أربعة ممرات جغرافية هي:
- مركز مدينة الموصل والحدود السورية.
- مركز مدينة الموصل والحدود التركية.
- مركز مدينة الموصل والمدن السنية الأخرى.
- مركز مدينة الموصل وإقليم كردستان العراق.
مركز مدينة الموصل وجوارها الجغرافي
إنَّ الرغبة الإيرانية في احتواء الحالة الأمنية في مدينة الموصل مركز محافظة نينوى شمال العراق، جعلها تعتمد إستراتيجية التعبئة المليشياوية، لتُحوّل المجتمع الموصلي الخارج من حرب مدمرة مع تنظيم «داعش» إلى مجتمع مليشياوي بأغلبيته؛ لأسباب كثيرة منها: مواكبة الوضع الحالي المسيطَر عليه من قبل مليشيات الحشد الشعبي، أو الاستفادة من الوضع الأمني الجديد، ونتيجةً لذلك برزت في الساحة الموصلية العديد من المليشيات المسلحة المرتبطة بصورةٍ غير مباشرة بـ «فيلق القدس» الإيراني، وذلك عطفًا على الارتباط العقائدي والأمني بين المليشيات المسلحة المسيطرة على الملف الأمني في المدينة و «فيلق القدس»، ومن أهم المليشيات المسلحة المسيطرة على الملف الأمني في مناطق سهل نينوى هي:
- الحشد الشبكي في مناطق برطلة، بعشيقة، الحمدانية، فضلًا عن القرى الواقعة على طريق موصل – أربيل، بقيادة وعد القدو.
- حشد بابليون في مناطق تلكيف، بطنايا، تلسقف، فضلًا عن قرى مسيحية أخرى على امتداد الطريق الرابط بين مدينتي موصل – دهوك، بقيادة ريان الكلداني.
- الحشد التركماني في مناطق العياضية، الرشيدية، القبة، شريخان، فضلًا عن قرى تركمانية أخرى منتشرة على أطراف مدينة الموصل وسهلها، بقيادة أبو مجاهد التركماني.
- الحشد العشائري في مناطق وقرى منتشرة داخل مدينة الموصل، تلعفر وسنجار، بقيادة نزهان صخر اللهيبي.
- الحشد الإيزيدي في مناطق زمار وسنجار، بقيادة مراد شرو سليمان.
- حشود أخرى متوزعة في مناطق متداخلة مذهبيًا ودينيًا وقوميًا.
إنَّ القيمة الإستراتيجية العليا لمناطق سهل نينوى في إستراتيجية إيران الإقليمية، بدأت منذ زيارة رئيس أركان الجيش العراقي عثمان الغانمي إلى دمشق في 17 مارس 2019، من أجل عقد اجتماعٍ ثلاثيٍّ في دمشق، وحضره كلٌ من اللواء محمد باقري رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، إلى جانب العماد عبد الله أيوب وزير الدفاع السوري، في إطار جهدٍ إيرانيٍّ لترتيب الأوضاع الجغرافية بالشكل الذي يضمن ربط طهران بدمشق، ثم البحر الأبيض المتوسط، وكان لمناطق سهل نينوى مركزية كبيرة في هذا الحزام الجغرافي، الذي تسعى إيران لإنشائه.
فبعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة نشر قواتها العسكرية في مناطق شمال وغرب العراق في الآونة الأخيرة، مما أدى بدوره إلى تضييق فرص الوصول الإيراني إلى الساحة السورية عبر صحراء الأنبار، فضلًا عن ذلك قطع طرق الدعم اللوجستي، وتحديدًا عمليات نقل الأسلحة والصواريخ والمقاتلين عبر هذه المناطق إلى سوريا، إلى جانب قيام قيادة عمليات الأنبار بوضع يدها على أغلب المعابر الحدودية مع سوريا والأردن، التي كان من أبرز تداعياتها إقالة الفريق الركن محمود الفلاحي قائد عمليات الأنبار، بعد ضغوطٍ كبيرةٍ مارستها بعض مليشيات الحشد الشعبي مطالبةً بإقالته، بحجة تعاونه مع الاستخبارات الأمريكية في الكشف عن الكثير من الممرات السرية التي افتتحها الحشد الشعبي على الحدود مع سوريا، كل هذه الأسباب جعلت إيران توجه أنظارها صوب مناطق سهل نينوى البعيدة عن مجالات التأثير الأمريكي.
وعملت إيران على ربط مناطق سهل نينوى عبر ثلاثة خطوط عسكرية هي:
الخط الأول: يبدأ من الحدود الإيرانية – السليمانية – كركوك – سهل نينوى ثم الحدود السورية.
الخط الثاني: يبدأ من الحدود الإيرانية – شمال ديالى – آمرلي – طوز خورماتو – كركوك – جنوب الموصل – سنجار – ربيعة، وصولاً إلى الحدود السورية.
الخط الثالث: خطٌ داخليّ يبدأ من داخل مركز مدينة الموصل – سهل نينوى – تلعفر – سنجار، ويُستخدم في عمليات الدعم اللوجستي.
إنَّ الجهود الإيرانية المتصاعدة في احتواء الجغرافيا العراقية، مثّلَت اليوم فكرةً راسخةً في سياسة الأمن القومي الإيراني، فهي تدرك أن هذه الخطوط ستكون بمثابة مصداتٍ إستراتيجيةٍ في سياسة المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، الساعية إلى التوجه شمالًا، ولا يمكن بحالٍ التهاون في طريقة استغلال مناطق سهل نينوى من الولايات المتحدة الهادفة إلى بناء قواعد عسكرية هناك، ولا سيَّما في ضوء وجود كثيرٍ من المقدرات البشرية الإيرانية – الحشدية القادرة على تأمينها، ولعل تصريح قائد الحرس الثوري الإيراني السابق اللواء محمد علي جعفري بأن إيران جندت 200 ألف مقاتل في سوريا والعراق، هو أبلغُ تعبير عن هذه الحقيقة الإيرانية.
وإلى جانب التهديدات الأمريكية التي تواجه إيران في هذه المناطق، هناك متغيرٌ آخر بدأ يفرض نفسه على واقع المدينة السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ، والحديث هنا عن تركيا، فعلى الرغم من قِدَم الدور التركي في مدينة الموصل، التي يُنظر إليها بوصفها إحدى الحلقات الإستراتيجية في سياسة الأمن القومي التركي، فإنَّ مرحلة ما بعد «داعش» أظهرت غيابًا واضحًا للدور التركي في المدينة، في مقابل هيمنةٍ إيرانيةٍ متصاعدة، فالجهود التركية للعودة إلى مدينة الموصل رافقها رفضٌ إيرانيٌّ، وهو ما عبر عنه أحد قيادات الحشد الشعبي في مدينة الموصل، والذي رفض الكشف عن اسمه عند اللقاء به، قائلاً: «نحن ليست لدينا مشكلة مع تركيا كدولة مجاورة للعراق، لكننا ننظر بعين الشك لطبيعة دورها في العراق، خاصةً في مدينة الموصل، ولن نسمح بعودة عقارب الساعة إلى ما قبل عام 2014، اليوم نحن نمثل الواقع في مدينة الموصل، وعلى تركيا أن تدرك ذلك جيدًا، إنَّ تركيا لها أطماعٌ علنية في مدينة الموصل، سيطرنا على حلب في 2016، واليوم نحن في الموصل، كما أننا ندرك جيدًا أنَّ هناك الكثير من القبول لتركيا في المدينة، ولا سيَّما على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ولذلك نحن لا نرى مشكلةً إذا ما اقتصر الدور التركي في هذا الإطار، أما الأدوار الأخرى فغير مسموحٍ بها، وسنواجه ذلك بقوة».
ولا يخفى على أحد بأنَّ أحد الأهداف السياسية التي تسعى تركيا إلى تحقيقها في مدينة الموصل، وتحديدًا في مناطق الشريط الحدودي المرتبطة بمناطق سهل نينوى، كسنجار والكوير وغيرها، والتي تشهد تواجدًا لحزب العمال الكردستاني، فضلًا عن مليشيات مسلحة بدأت تمارس سياساتٍ للتغيير الديموغرافي من جهة، ومن جهة أخرى تثبيت نقاط استخبارية، عن طريق توظيف العديد من عناصر حزب العمال الكردستاني للتجسس على التحركات التركية في شمال العراق وسوريا من قبل إيران، وتحديدًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، تحول ملف تواجد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، من يد الحكومة العراقية إلى يد استخبارات الحرس الثوريّ الإيراني، وهو ما جعل من ملف تواجد الحزب على الأراضي العراقية، أحد الملفات المعقدة في العلاقات العراقية التركية، خصوصًا في ظل الرفض الإيراني لجهود الحكومة العراقية في إغلاق معسكرات الحزب في أطراف مدينتي الموصل وكركوك المهمتين لتركيا.
بالمجمل يمكن القول إنَّ الحزام الجغرافي الذي يشمل «مركز مدينة الموصل، سهل نينوى، تلعفر، سنجار»، ستقع واحدةً تلوا الأخرى في قبضة النفوذ العسكري – الأمني – الاستخباري الإيراني، فبعد تمكن طهران من مركز مدينة الموصل وسهل نينوى سياسيًا وأمنيًا، فإنَّ سيناريو إعادة إنتاج هذه السيطرة في مناطق تلعفر وسنجار، سيتحقق خلال الفترة المقبلة، مع التأكيد هنا بأن هذا الأمر لا يعني عدم تواجد إيران في هذه المناطق، بل الهدف هو تحويل وجود المليشيات المسلحة المرتبطة بإيران في هذه المناطق، من وجودٍ غير مقننٍ إلى وجودٍ قانونيٍّ، يحدد مجالات سيطرة الحشد وعدد قواته، وهو ما تهدفُ إليه إيران؛ من أجل تثبيت مراكز قوة في مناطق سهل نينوى، وتوظيفها في خدمة الإستراتيجية الإيرانية، لتحقيق أهداف عديدة، مِن أهمها:
- توجيهُ ضربة لمشروع الأقاليم السنية، من خلال تجزئة جغرافية مدينة الموصل وأطرافها إلى عدة كانتونات مختلفة مذهبيًا ودينيًا وقوميًا، متنازعة ومتضاربة سياسيًا وعسكريًا.
- وضع عراقيل أمام الجهود الأمريكية للتمدد والانتشار في هذه المناطق، خصوصًا في ظل الرغبة الأمريكية لبناء عدة قواعد عسكرية في مناطق سهل نينوى.
- تأمين ممرات الوصول الإيراني إلى عمق الأراضي السورية عبر مناطق سهل نينوى.
- خلق نسبة سكانية «شيعية» متوازنة داخل الهيكل السياسي في مدينة الموصل؛ من أجل ضمان حصول أحزابٍ مواليةٍ لإيران، على نسبة جيدة من أصوات السكان في مدينة الموصل، للتأثير على الواقع السياسي في المدينة مستقبلًا.
- ترويج النموذج الديني والاجتماعي الإيراني في هذه المناطق، عن طريق إفتاح العديد من المراكز الثقافية والدينية، فضلًا عن افتتاح المدارس ومعاهد تعليم اللغة الفارسية.
- وضع اليد على موارد اقتصادية ضخمة، تعوض الارتدادات السلبية لسياسة العقوبات الأمريكية، وذلك من خلال الدور الذي تلعبه المكاتب الاقتصادية التابعة للحشد الشعبي.
- تحويل أغلب المجتمعات الشيعية المتواجدة في مناطق سهل نينوى، إلى مليشيات مجتمعية مرتبطة بالمشروع السياسي الإيراني، وذلك عن طريق بروباغندا الدعاية الإيرانية، التي تؤكد دائمًا على مسألة التهديد الوجوديّ للشيعة في هذه المناطق.
إنَّ الدور الإستراتيجي الذي تمارسه إيران في مناطق سهل نينوى، دفع بها إلى إيلاء هذه المنطقة قيمةً سياسيةً كبيرة، وهو ما تجلى في إعلان السفارة الإيرانية في بغداد، رغبتها في افتتاح قنصلية إيرانية في هذه المناطق، وذلك رغبة منها بالإشراف المباشر على التحركات السياسية والعسكرية الإيرانية هناك، فضلًا عن دورها في تحديد خطط انتشار المليشيات المسلحة في مدينة الموصل وأطرافها، وتنسيق الأدوار التي تلعبها المكاتب الاقتصادية هناك، فوضع اليد على الحزام الجغرافي الذي يربط مناطق سهل نينوى بمناطق تلعفر وسنجار، يعني الهيمنة الكاملة على مجمل الشريط الحدودي الذي يمتد من مدينة كرمانشاه الإيرانية حتى البحر الأبيض المتوسط، وهي إستراتيجية إيرانية عملت طهران على تحقيقيها خلال الفترة الماضية؛ من أجل التحرك بحرية تامة، بعيدًا عن التهديدات الأمريكية والإسرائيلية، فتعرض أغلب خطوط النقل والمواصلات العسكرية الإيرانية عبر صحراء الأنبار، سواءً تلك التي كانت موجود سابقًا، أو الطرق السرية التي افتتحتها مليشيات «حزب الله» العراقي وعصائب «أهل الحق» و «حركة النجباء»، جعل من مناطق سهل نينوى وامتداداتها الجغرافية، تحظى بقيمةٍ عُليا في إستراتيجية إيران الإقليمية.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد