من السياسة إلى الطائفية.. المالكي والجناية على العراق

https://rasanah-iiis.org/?p=31831

في كلمة ألقاها نوري المالكي (1950م-…) زعيم حزب الدعوة ورئيس الوزراء العراقي الأسبق (2006-2014م)، بمناسبة عيد الغدير، خرج بتصريحات جدلية قال فيها: «70 سنة يُشتم الإمام علِيّ على منابر المسلمين… كان المسلمون يصافح بعضهم بعضًا بلعن علِيّ»، ووصف عمرو بن العاص بأنه «خبيث»! وجاءت كلمته طائفية تتناول أحداث الفتنة بين الصحابة قبل ألف وأربعمئة سنة. وهي كلمة محورية في فهم عقلية المالكي، بل لفهم وتفكيك سياساته الطائفية عندما كان رئيس وزراء العراق، فإدراكه للعلاقات الدولية، ورؤيته للآخر، وخرائط الصراع الكامنة لديه، تنطلق من منطلقات أيديولوجية طائفية وإقصائية، في استبعادٍ تامٍّ لفكر الدولة الحديثة، ومفاهيم المواطنة والتعددية، وفقه الدولة المدنية والدستورية، ويبدو ذلك جليًّا في حوار له مع إحدى الصحف الغربية عندما عرَّف نفسه قائلًا: «أنا أولًا شيعي، وثانيًا عراقي».

دوافع تصريحات المالكي.. إعادة التموضع

جاءت تلك التصريحات في احتفال نظَّمه حزب الدعوة بعيد الغدير، ويبدو أن المالكي أراد من تلك التصريحات أن يحقق بعض الأهداف، لا سيما أنه يعلم بأن تصريحاته ستثير جدلًا بين العراقيين جميعًا، الذي يؤْثِرون دولة وطنية دستورية، ويؤْثِرون العيش المشترك منذ أكثر من ألف سنة. لكن يبدو أن وراء تلك التصريحات دوافع. ويمكن حصر دوافع تصريحات المالكي في شقَّين، دوافع سياسية، ودوافع دينية ومذهبية، ويسعى من خلالهما إلى الحضور السياسي من باب المذهبية، وإثارة الجدل الطائفي.

1- الطائفية وتجاوز التهميش السياسي: يعبِّر المالكي عن فكره ورؤيته للآخر بهذه التصريحات الطائفية، ففي تصريحات سابقة يصور المالكي الخلاف السياسي داخل العراق على أنه خلاف بين «أنصار الحسين وأنصار يزيد»، و«أنصار يزيد لم ينتهوا بعد». ومن ثم فهو ينظر إلى المشهد برُمّته على أنه ليس خلافًا سياسيًّا قائمًا بين أبناء الوطن الواحد، بل يُنظر إليه من زوايا طائفية أخرى تجعل خصومه أعداء يمكن قتلهم، أو سحقهم كما قال في أحد حواراته. كذلك يحاول المالكي تعويض إخفافقه السياسي منذ أن ترك رئاسة الوزراء في 2014م، فلجأ إلى التمترس الطائفي لمحاولة تعويض خسائره الجماهيرية والشعبية، وتهميشه السياسي من قِبل كل الأطراف الفاعلة حتى من داخل الجماعة الشيعية نفسها، فعلاقته متوترة بالحوزة الشيعية بالنجف، وبالتيار الصدري، فهو يعبِّر عن الحركية الإسلامية لحزب الدعوة فقط، لا عن التيار الشيعي التقليدي، ولا حتى عن سائر الحركيات الشيعية المتنوعة.

2- التمهيد لعودة الحركات المتطرفة: ربما أراد المالكي من وراء تلك التصريحات إعادة العراق إلى مربع العنف الطائفي بين المسلحين الشيعة والسنّة، على غرار ما جرى من عنف طائفي هو الأكبر في تاريخ العراق الحديث، في ولايته سنة 2006م، ثم في 2013م، ثم دخول تنظيم الدولة الإسلامية داعش الموصل في 2014م. وثمة تقارير تتهم المالكي بتسهيل دخول التنظيم إلى مدينة الموصل. وبقصد أو بلا قصد فإنَّ مثل تلك التصريحات الطائفية تتيح البيئة المناسبة لخلق تطرُّف طائفيّ مضادّ، وهو ما حذَّرت منه وكالة المخابرات الأمريكية سنة 2014م في أحداث مشابهة من المالكي أيضًا.

3- ضرب التفاهمات الداخلية والإقليمية: أيضًا من الدوافع المحتملة أن المالكي أراد ضرب التفاهمات الداخلية والخارجية بين الأطراف الفاعلة، وأراد توصيل رسالة أنه لا يمكن تجاوزه في عقد أي تفاهمات داخل العراق وخارجه دون أن يكون طرفًا فاعلًا فيه، وأن بإمكانه نسف تلك التفاهمات إذا أراد. فالمنطقة تمرّ بمسارات تهدئة، وتوافقات ومعاهدات بين الفاعلين الإقليميين، وبناءً عليه توقَّع البعض بزوغ شرق أوسط جديد مستقرّ وفعال، لا سيما بعد الاتفاق الأخير بين إيران والسعودية الذي أسفر عن عودة العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارات، وتعزيز العلاقة بين السعودية وتركيا، وكذلك التهدئة بين مصر وتركيا التي أسفرت عن تعزيز العلاقات، والمفاوضات الجارية بين مصر وإيران، والبحث عن تعزيز العلاقات بين الدول العربية والدولة السورية التي حضر رئيسها القمة العربية الأخيرة في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، ودخول العراق طرفًا فاعلًا في استضافة الحوار بين الأطراف المختلفة. هذه التفاهمات قد تثير أطرافًا راديكالية ومتشددة يعبِّر المالكي عن مصالحها، وربما يوجد توافق بين المالكي وأطراف خارجية -يقلقها وجود عراق مستقرّ- لخلط الأوراق، وربما يعبِّر المالكي عن قلقه الخاص إزاء تلك التفاهمات الإقليمية التي ستعمل على زيادة تهميشه وإخفاقه.

4- تعزيز الشرعية ومناطحة خصومه أيديولوجيًّا: من المفارقات أن نوري المالكي رغم أنه زعيم لأكبر حزب إسلامي عراقي («حزب الدعوة» الذي أسسه محمد باقر الصدر)، فإنه سياسي صرف، وغير معدود في جماعة رجال الدين والحوزويين، وليس أيضًا من عائلة دينية أو حوزوية مثل غريمه مقتدى الصدر المعدود من جماعة رجال الدين السياسيين وينتمي إلى عائلة دينية حوزوية عريقة، وبالتالي أراد نوري المالكي أن يجاري خصومه الشيعة، كالحوزة والصدريين، لا سيما بعد انخفاض شعبيته، فلعب على الوتر الطائفي الشعبوي.

5- القلق الهوياتي: ثمة بُعد مهمّ آخَر، فإذا كان المالكي يسعى لضرب التفاهمات الإقليمية الجارية، فهو كذلك يسعى لضرب التهدئة الداخلية في العراق، فثمة بزوغ قومي وعروبي في الآونة الأخيرة بالعراق، بات يحدد المشهد في الآونة الأخيرة، مما مثَّل هاجسًا وقلقًا للمالكي والراديكاليين، فجاءت تصريحاته كأنها تموضع وتعيد الطائفية والمذهبية في مركز الصراع العراقي-العراقي، ونقل الخلاف السياسي من مربع الظنِّيّات إلى مربع التجاذب المذهبي والعقدي، وهو مربع خطر يؤول إلى الاقتتال ويهدد أمن الدول المستقرة، وبالتالي قد يعرض لتفجير الوضع الداخلي، وهو المشهد الذي يجيد المالكي وأضرابه من الطائفيين اللعب فيه وإيجاد مساحة للحضور والفاعلية.

تداعيات تصريحات المالكي في مواجهة العراق والعراقيين

ليست هذه هي المرة الأولى التي يصرح فيها المالكي بتصريحات جدلية تتسبب في تقسيم المجتمع العراقي، فقد وجَّه سهامه من قبل إلى جميع المكونات العراقية حتى الشيعية منها، فقد خرجت تسريبات له في عام 2022م وهو يتوعد الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بالدم والقتال، قائلًا: «المرحلة المقبلة هي مرحلة قتال، وإنّ الصدر يريد الدم… وأخبرت رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أني لا أثق بالجيش والشرطة». ولم يكتفِ بذلك، بل استدمج العراق في شخصه، وأسقط جميع خصومه، فهو وحده من يمثل العراق وينوب عن شعب العراق، قائلًا: «العراق مقبل على حرب طاحنة لا يخرج منها أحد إلا في حال إسقاط مشروع مقتدى الصدر، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، ورئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، فإذا أسقطنا مشروعهم نجا العراق، وفي حال عدم استطاعتنا ذلك فإنّ العراق سيدخل في الدائرة الحمراء». فلغة التهديد والوعيد والطائفية، ومحاولة جَرّ العراق بأكمله إلى مربع الاقتتال الطائفي والمذهبي حتى ولو داخل المذهب الواحد، هي اللغة التي يستعملها المالكي دومًا لتحقيق مكاسبه السياسية. وفي السنوات التي قضاها المالكي في رئاسة الوزراء التصقت به صورة الطائفي العتيد الذي أثار بُغض السنّة والأكراد بإبعادهم عن المناصب الأمنية الكبرى وإضعاف مبدأ المشاركة في السلطة. وكان المالكي قد لاحق رموز الجماعة السنّية ممن شاركوا في العملية السياسية، واتخذ إجراءات انتقامية وطائفية ضدهم، مثل رافع العيساوي، وطارق الهاشمي، وأحمد العلواني، وغيرهم. وأطلق يد بعض الميليشيات المقربة منه على بعض القبائل السنّية، وقد وصل الأمر إلى تهديد الأكراد سنة 2017م بالاستقلال إذا عاد المالكي رئيسًا للوزراء. وقد أفادت تقارير بتحذير وكالة المخابرات الأمريكية للمالكي سنة 2014م من أن سياساته تجلب عداءً شديدًا من العراقيين السنّة. فالمالكي إذن لا يدافع عن العراق باعتباره دولة وحضارة وشعبًا وهوية، بل ينطلق من رؤية مذهبية ضيقة، مؤدلجة وراديكالية، تهدد العراقيين جميعًا وتهدم أُسُس الدولة الدستورية المدنية.

المالكي ومبادئ حزب الدعوة

يجمع المالكي بين متناقضات، فهو حليف وثيق لأمريكا وإيران في نفس الوقت، وينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامي، بل هو زعيمه. وكان محمد باقر الصدر مؤسِّس حزب الدعوة يدعو إلى دولة دستورية شورية، فيقول في نشرة داخلية عام 1960م تحت عنوان «الأُسُس الإسلامية»: «إنّ عدم وجود النص حول شكل الحكم في عصر الغيبة يجوز أن يكون بطريقة الشورى، وهو ما يسمى بالحكم الشوري، أو حكم الأمّة». لكن بدءًا من عام 1980م بعد إعدام الصدر، عندما سيطرت على الحزب مجموعة من المدعومين من إيران والمتأثرين بولاية الفقيه، مثل الحائري، والآصفي، تغيرت تلك الرؤية، وبات الحزب يؤمن بولاية الفقيه المطلقة. والمالكي وإن تحدَّث كثيرًا عن الدولة المدنية، ودولة القانون، والدستور، فإنَّ الواقع يشير إلى أن استعماله لتلك المفردات يكون تارة من باب البراغماتية السياسية، أو لتوجيه رسائل إلى الغرب. وثمة بُعد آخر، وهو أن المالكي لم يفرّق بين مهامّ السياسي ومهامّ الطائفي الراديكالي، فالعراق بلد متنوّع الثقافات والمذاهب والأعراق، وهذه من عوامل القوة والثراء، أو من المفترض أن تكون كذلك، غير أن هذه القوة قد تتحول إلى ضعف في نسيج الدولة وتفتت مجتمعها، إذا عمل الراديكاليون على إثارة النعرات الطائفية، وعادة ما كان السياسي دبلوماسيًّا يطفئ ما يشعله بعض رجال الدين أو ما يثيره اليمين المتطرف من عصبية وطائفية بين المذاهب، أمّا هذه المرّة فالسياسي هو الذي اتسم بالراديكالية والطائفية، وتجاوز فقه المواطنة والتعددية، وراح يشنّ هجومًا على مقدسات ورموز جزء من الشعب الذي كان يرأسه يومًا ما. وهو يعبِّر عن قناعاته الحقيقية، دون مواءمات سياسية وتوازنات انتخابية، بل يعبِّر حقيقةً عن التحولات الكبرى التي طرأت على فكر وهوية حزب الدعوة بعد موت محمد باقر الصدر (ت: 1981م) والسيطرة على الحزب من قِبل التيار الولائي والمدعوم من الخارج.

مآلات تصريحات المالكي

من المرجح أن تؤدي تلك التصريحات إلى زيادة عزلة المالكي في أي استحقاق شعبي قادم، لا سيما أن الفاعلين الحوزويين لا يُقِرُّون المالكي على مثل تلك التصريحات باعتبارها خطرًا يهدد الحوزة والعراق كله. ولا يخفى أن خصومه من داخل الجماعة الشيعية نفسها سيوظفون تلك التصريحات لاستقطاب العلمانيين والليبراليين والأكراد والسنّة العراقيين، ويصعبون مهمة المالكي في نسج أي تحالف مستقبليّ. وقد تؤدي تصريحات المالكي إلى زيادة شعبيته داخل الجماعة الشيعية، بيد أن هذا الاحتمال ليس مستساغًا ولا مرجَّحًا لعدة أسباب، أهمها أن الكتلة الأكبر من حواضن التقليد في الجماعة الشيعية موزعة باعتبار خيارات المرجع الذي تقلَّده، أو باعتبار الجماعة السياسية التي تنتمي إليها، فالمستقلُّون من الجمهور الشيعي لا يمثّلون نسبة كبيرة مقارنة بمن يحدد خياراته الفقهية والسياسية بناءً على خيارات مرجع التقليد. وهناك الصدريون الذين يحوزون الكتلة الأضخم في الشارع الشيعي، ويثق بهم الآخر غير الشيعي باعتبارهم أفضل من المالكي وأبعد عن الطائفية، ويفتحون الباب أمام تحالفات واسعة مع العلمانيين وأهل السنّة والأكراد.

وأخيرًا، يبدو أن العراق والعراقيين جميعًا تجاوزوا المالكي ورؤيته الطائفية، ويتطلعون إلى دولة مدنية دستورية، تسفر عن تحقيق مطالبهم بدعم من المرجعية العليا، ومن ثم فمحاولة إدخال العراق إلى مربع الطائفية لن يجد قبولًا من الأطراف الداخلية والإقليمية كذلك، فالجميع اليوم في حاجة إلى عراق مستقر ومتجانس.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير