من وراء الستار.. إيران وحراك الأردن

https://rasanah-iiis.org/?p=34681

شهِدَت الأردن حراكًا واسعًا في الآونة الأخيرة من بعض القُوى والأحزاب السياسية، على رأسها تيّارات الإسلام السياسي. وحاول آلاف المتظاهرين الوصول إلى السفارة الإسرائيلية، على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة، في ضاحية الرابية بالعاصمة الأردنية عمّان، فيما حالت قوّات الأمن دون ذلك عبر اعتقال عشرات وإلقاء قنابل الغاز المُسيل للدموع.

ومن مطالب المتظاهرين الرئيسية، إلغاء اتفاقية السلام مع إسرائيل، وإغلاق السفارة الإسرائيلية. في هذه الأثناء، خرجت تصريحات من قادة حماس، موازية لتصريحات من قيادات في فصائل شيعية مسلَّحة تمَسُّ الأمن القومي للأردن وتهدِّد وحدته ونسيجه، ما يطرح تساؤلات عن مدى التنسيق والاستفادة الإيرانية ممّا يحدُث في الأردن. وهذا ما سيعمل هذا التقرير على تحليله.

طبيعة الاحتجاجات

عوَّلت السلطات الأردنية على عامل الوقت كي تنخفض حدة التظاهرات في العاصمة عمَّان، بيد أنَّ تصريحات قادة حماس بالزحف نحو الأراضي المحتلة لتحرير «القدس»، فاقمت الأزمة الأردنية، فتصاعدت حدة المظاهرات، واستمرت حتى اليوم، إذ يتجمع المتظاهرون كل يوم في العاشرة مساء. ومن الشعارات الكثيرة التي رفعها المتظاهرون: «المقاومة خيار الأحرار»، و«الأردن وفلسطين دم واحد»، و«عمَّان-غزة مصير واحد»!

ونلحظُ  أنَّ الشعارات لم تهاجم النظام الأردنيَّ، وحاولت الإبقاء على مسافة آمنة مع السُّلطة حتى الآن خشية تحول النظام في التعامل معها، وفي نفس الوقت توترت الأجواء في بعض مناطق المملكة عندما حاول بعض المتظاهرين الإساءة إلى مؤسسات الدولة أو الانجرار إلى العنف، مما أسفر عن اعتقال عدد منهم.

أمَّا عن قادة هذه التظاهرات، ومن يقف خلفها، فهي تظاهرات بدأت عفوية في الأساس، بيد أن الفاعلين وذوي المصالح السياسية والأيديولوجية وظَّفوها وحاولوا توجيهها وفقا لأجندتهم، وعلى رأس تلك القوى جماعة «الإخوان»، التي أصدرت بيانًا تتهم فيه السلطات الأردنية بـ«شيطنة» اعتصام الرابية، في حين حذرت الدولة -عبر مقربين منها- بأنها «ستتصدَّى بقوة لكل من يحاولون زعزعة الأمن والاستقرار في الأردن».

وقصد أولئك المسؤولون قوتين رئيسيتين، خارجية وداخلية، تحاولان المسّ بالاستقرار الأردني، هما: إيران وجماعة «الإخوان»، وهو ما سنبيّنه في ما يلي..

محاولات إيران للتأثير والنفوذ

لم تبدأ المحاولات الإيرانية للتأثير في الأردن مع الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أكتوبر 2023م، والمستمِرَّة حتى اليوم، وإن كانت الحرب الإسرائيلية كانت بمثابة المرحلة المفصلية فيها، لكنَّها بدأت منذ فترة، عندما بدأت إيران محاولة التأثير في الأردن عبر الجماعات الأدنى، ومحاولة تشييع نفر من الأردنيين وتوظيفهم لصالح طهران، والسعي إلى افتتاح حُسينيات شيعية، وتسيير رحلات طيران سياحية إلى مراقد بالأردن، وتطويق الأردن بمليشيات مسلَّحة على حدوده الشرقية بالعراق والشمالية بسوريا.

ومع ذروة الحرب الإسرائيلية على غزة، بدأت فصائل مسلَّحة شيعية عراقية تقترب من الحدود الأردنية، تحت غطاء «نُصرة القضية الفلسطينية»، ومنعها عبور شاحنات النفط إلى الأردن، في حين فهِمَ مسؤولون أردنيون ذلك على أنَّه محاولة إيرانية لزعزعة الاستقرار الأردني، واستغلال الحرب على غزة لتوتير العلاقات الأردنية-العراقية وتمرير الأجندة الإيرانية.

وفي يناير الماضي، استهدفت كتائب «حزب الله» العراقي تمركُزًا للقوّات الأمريكية في الأردن، على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة أيضًا. وبعد استهداف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق منذ أيام، ومقتل عدد بارز من قادة الحرس الثوري، منهم القيادي محمد رضا زاهدي، صرَّح قادة في الفصائل المسلَّحة الشيعية بالعراق، وتحديدًا كتائب «حزب الله» العراقي، بأنَّهم قادرون على قطْع الطريق البرِّي عن إسرائيل، فقد قال المسؤول الأمني لكتائب «حزب الله» العراقية، أبو علي العسكري‏، إنَّ «المقاومة الإسلامية في العراق أعدَّت عُدَّتها لتجهيز الأشقّاء من مجاهدي المقاومة الإسلامية في الأردن، بما يسدّ حاجة 12000 مقاتل من الأسلحة الخفيفة والمتوسِّطة، والقاذفات ضدّ الدروع والصواريخ التكتيكية، وملايين الذخائر وأطنان من المتفجِّرات».

وأضاف العسكري: «نحنُ جاهزون للشروع في التجهيز، ويكفي في ذلك التزكية من مجاهدي حركة حماس أو الجهاد الإسلامي، لنبدأ أولًا بقطع الطريق البرِّي، الذي يصل إلى الكيان الصهيوني».  ولعلَّ ذلك بمثابة إعلان خطير، إذ إنَّه يصرِّح بتسليح من سمَّاهم «الأشقّاء في المقاومة الإسلامية» في الأردن، وذلك بعد تزكية من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، أي إنَّه لا يعني تسليح مجموعات شيعية في الداخل الأردني، بل يقصد مجموعات من جماعات الإسلام السياسي التابعة لـ«حماس» و«الجهاد الإسلامي».

على أنَّ محاولة طهران اختراق الأردن عسكريًّا، ليست وليدة لحظة الحرب الإسرائيلية على غزة، فهي تسعى لذلك منذ سنين. ففي 2016م، أُسقِطت طائرة إيرانية مسيَّرة في الجنوب السوري، تحمل صورًا لمواقع أردنية حسّاسة، علاوةً على وجود تمركُزات لمقاتلي «حزب الله» اللبناني وفصائل شيعية أخرى في الجنوب السوري، بالقرب مع الحدود الأردنية.

كذلك توجد محاولات اختراق إيرانية ناعمة عبر السيّاح والمزارات الشيعية، فقد طالب أحد المسؤولين الأردنيين (نائب رئيس الوزراء الأردني السابق الدكتور ممدوح العبادي)، في يوليو 2023م، باتّخاذ خطوات جريئة لاستقبال السياح الشيعة وجذبهم، وقد لاقت دعوته بفتح الباب أمام السيّاح الإيرانيين والشيعة رفضًا من المسؤولين الأردنيين، وأثارت حينئذٍ جدلًا واسعًا في الأوساط الأردنية، باعتبارها دعوة لا تأبه بالخطوط الحمراء والأمن القومي الأردني. علمًا أنَّ بالأردن مقامات مهمَّة لدى العقل الجمعي الشيعي، مثل مقام جعفر الطيّار، وهو شخصية مهمَّة ومركزية عند الشيعة. وقد طالبت إيران عبر سفارتها في عمّان مِرارًا بناء حسينيات في بعض المناطق، مثل منطقة مؤتة بمدينة الكرك الجنوبية، بحجَّة وجود طائفة شيعية، لكنَّها قُوبِلت بالرفض. أيضًا، شمِلَت محاولات الاختراق، ما تُجريه السفارة الإيرانية في الأردن من محاولات تبشير ثقافي وخلْق بيئة مواتية للاختراق الإيراني، وتنظيم حفلات وندوات دينية وثقافية، والتعاون مع كُتّاب ونُخَب ثقافية.     

الأبعاد والدلالات.. جماعات الإسلام السياسي وتوظيف الأحداث

دلالات خطرة تتأتَّى من تصريحات متعاقِبة لقادة حركة حماس، حثَّت الأردنيين على الزحف نحو إسرائيل. فقد نشرت «حماس» تسجيلًا لمحمد الضيف، يقول فيه: «يا أهلنا في الأردن ولبنان ومصر والجزائر والمغرب العربي، وفي باكستان وماليزيا وإندونيسيا، وفي كل أنحاء العالم العربي والإسلامي.. ابدؤوا الزحف اليوم.. الآن وليس غدًا، نحو فلسطين». وأضاف: «لا تجعلوا قيودًا ولا حدودًا ولا أنظمة، تحرمكم شرف المشاركة في تحرير المسجد الأقصى». وفي كلمة لخالد مشعل، خلال فعالية نسائية بالعاصمة الأردنية عمّان، قال: «على جموع الأُمّة الانخراط في معركة طوفان الأقصى»، وأن «تختلط دماء هذه الأُمّة مع دماء أهل فلسطين، حتى تنال الشرف، وتحسم هذا الصراع لصالحنا بإذن الله تعالى».

وقد انتقد الناطق باسم الحكومة الأردنية، مهند مبيضين، تصريحات قادة حركة حماس، التي تحرِّض على كسر الحدود والزحف على إسرائيل، واصفًا إيَّاها بـ«المراهقة السياسية»، ومحذِّرًا من مساعيها لتأليب الرأي العام الأردني على القيادة السياسية، لكن الناطق باسم جماعة الإخوان المسلمين في الأردن قال تعليقًا على تصريحات قادة حماس: «إنَّ البعض حمَّلها ما لا تحتمِل».

لكن توجد أهداف لـ«حماس» من وراء هذا التأجيج في الأردن، فالحركة تريد توسيع نطاق الصراع، لحمل الفاعلين الإقليميين والدوليين لاستشعار الخطر، وبالتالي السعي إلى وقف الحرب في غزة، والضغط على إسرائيل. وتُدرك «حماس» كذلك أنَّ الجغرافيا الأردنية رخوة من حيث مساحتها الصغيرة، ومن حيث التركيبة السُّكّانية، التي يرجع أُصول قطاع كبير منها إلى أُصول فلسطينية، ومن حيث الحدود مع إسرائيل من جانب، والعراق ذات التكُّتل الشيعي من جانبٍ آخر، والسعي الإيراني إلى إيجاد طريق مباشر نحو إسرائيل، لتهديدها والضغط عليها بالفصائل الشيعية المسلَّحة. وبالتالي، فإنَّ «حماس» ترى أنَّ أيّ حراك أو «زحْف» بالأردن، سيحمل الفاعلين الإقليميين والدوليين على التدخُّل بصورة مباشرة أو فاعلة، منعًا لتوسُّع نطاق الحرب.

لكن المفارقة أنَّ تصريحات «حماس»، جاءت بُعيد زيارة عدد من قادة الحركة إلى طهران، ولقائهم المرشد الإيراني وعدد من المسؤولين الإيرانيين. لذا، قد يُطرَح سؤالٌ هُنا بخصوص التنسيق بين الفصائل الشيعية المسلَّحة الموالية لإيران وحركة حماس في توقيت التصعيد، فكتائب «حزب الله» تهدِّد بتسليح الأردنيين وتعطيل الطريق البرِّي بعد تزكية من «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، على الرغم من وجود طريق مباشر للمليشيات الشيعية تجاه إسرائيل عبر سوريا والجولان، لكنَّها تجاهلته تمامًا وركَّزت على الطريق الأردني. وحركة حماس على لسان قادتها الكبار يدعون الأردنيين، لا سيّما العشائر، إلى الزحف نحو إسرائيل. وتجاهلت «حماس» كذلك دعوة سوريا والسوريين، في تناغمٍ مع الموقف الإيراني. ويُدرك الإيرانيون أنَّ التهديد المليشياتي بتسليح 12 ألف مقاتل بالأردن، أقرب إلى المستحيل، في ظل يقِظة الأجهزة الأمنية الأردنية، والنسيج المجتمعي الأردني المستقِرّ، ووجود دعْم عربي وإقليمي للأردن يحول دون ذلك. وكذلك يُدرك قادة «حماس» أنَّ الزحف غير ممكن عمليًّا، وسوف يواجَه بعنف إسرائيلي، واستنكار دولي، باعتباره يهدِّد الوجود الإسرائيلي كلّه، وقد يُعرِّض الاستقرار الأردني نفسه للخطر. لكن تأتي هذه التصريحات المتوازية، التي يبدو أنَّها جاءت بتنسيق بين إيران و«حماس»، للضغط أولًا على الحكومة الأردنية بوقف الطريق البرِّي نحو إسرائيل، وبالتالي الضغط على إسرائيل نفسها لوقف الحرب، وللضغط ثانيًا على الإقليم والتهديد بتوسع دائرة الحرب، وبالتالي يسعى الفاعلون إقليميًّا إلى التهدئة. والواقع أنَّ الدعوة إلى زحْف الأردنيين نحو الأراضي الفلسطينية، هي مثل عملية 7 أكتوبر، التي أسفرت عن هذا الكم الهائل من العنف والتدمير، بسبب عدم إستراتيجيتها أو التفكر برويّة في المآلات.

دلالة أخرى تخُصّ الجانب الإيراني، فالإيرانيون يريدون تحييد الأردن وحمله على فتْح قنوات دبلوماسية، وتحسين علاقته المتوتِّرة منذ سنوات مع إيران، والسماح للإيرانيين بإنفاذ المشاريع الدينية والثقافية، التي دائمًا ما رفضتها الأردن وتخوَّفت من مقاصدها الحقيقية. وتريد إيران كذلك تطويق إسرائيل عبر الأردن، والارتكاز على بؤرة وأداة جديدة غير سوريا ولبنان، خصوصًا مع تعرُّض النفوذ الإيراني في سوريا للضغط والتقلُّص عبر الاستهدافات الإسرائيلية المستمِرَّة على مسؤولين في الحرس الثوري ومستشارين عسكريين ومواقع نفوذ إيرانية في سوريا. وبالتالي، تكتسب الأردن أهمِّية قصوى لصانع القرار الإيراني، باعتبارها منفذًا مباشرًا نحو إسرائيل، يمكن الضغط بها -إذا ما نجحت طهران في إيجاد موضع قدم لها بالأردن- على إسرائيل والإقليم والمجتمع الدولي، كما هو الحال في سوريا واليمن ولبنان. 

في المقابل، فإنَّ السلطات الأردنية حذرة وتُدرك حجم المخططات الإيرانية والإخوانية، وحذرت منها مرارًا، وليس من المرجح أن تتوسع التظاهرات أو تؤثر في صانع القرار الأردني، فضلًا عن استقرار الدولة الأردنية، أولًا لوعي الشعب الأردني بالمخططات الخارجية والداخلية لإيران وجماعات الإسلام السياسي، وثانيًا لقوة الدولة الأردنية وتماسكها ونظامها الملكي ذي الأعراف والتقاليد الراسخة، وأخيرًا لوجود فاعلين إقليميين ودوليين يعنيهم استقرار الأردن، ويدعمون الأمن الأردني، ويدركون جيدًا المخططات الإيرانية والإسلاموية التي تسببت في انهيار دول أخرى في المنطقة انهيارًا تامًّا أثر في الأمن الإقليمي، ولا تزال دول الإقليم تعاني من تبعاته. ولعل من أبرز المواقف الداعمة لاستقرار الأردن ما أكده خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، والأمير محمد بن سلمان، خلال اتصالين هاتفيين أكدا فيه وقوف المملكة وتضامنها الكامل مع الأردن، ومساندتها كل الإجراءات التي يتخذها الملك عبد الله الثاني لحفظ أمن واستقرار بلاده.

خاتمة

تسعى إيران، وبتنسيق مع الفصائل الشيعية المسلَّحة بالعراق، وجماعات الإسلام السياسي بالأردن، إلى الضغط على الدولة الأردنية، ظاهريًّا لوقف الطريق البرِّي إلى إسرائيل ومناصرة غزة، وواقعيًّا لسلب القرار الأردني وجعله رهينة بيد إيران وفصائلها المسلَّحة، وإيجاد موضع قدم في الأردن، حيث الجغرافيا الإستراتيجية في تطويق إسرائيل والحضور الفاعل في قضايا المنطقة، وسحْب البساط من الفاعلين الإقليميين لصالح طهران. ويبدو وجود تنسيق بين الإيرانيين والفصائل الشيعية المسلَّحة بالعراق والإسلاميين بالأردن في آنٍ، للضغط على الحكومة الأردنية، وإحداث حالة من الفوضى، التي تؤدِّي إلى توسيع رقعة الصراع. بيْد أنَّ الحكومة الأردنية تعاملت بحسم مع تلك الدعوات، وتوعَّدت بالرد الحاسم إزاء أيّ محاولات للمساس بالأمن القومي الأردني. على أنَّ عملية تسليح مقاتلين بالأردن من فصائل شيعية مسلَّحة، أو الزحف نحو القدس، كما يدعو قادة «حماس»، ليس عمليًّا ولا ممكنًا، وبالتالي يبقى في إطار التوظيف السياسي، الذي تُجيده وتستغِلَّه جماعات الإسلام السياسي، ويجيده الإيرانيون جيِّدًا، كذلك بما يمكن تسميته «سياسة الردع». ومع ذلك، فقد تسعى إيران بالفعل عبر فصائلها المسلَّحة إلى تسليح مقاتلين داخل الأردن، أو حثّ حركات الإسلام السياسي على تصعيد الحراك، فتحوِّله إلى حراك عنيف ضدّ مصالح ومؤسَّسات الدولة، خصوصًا إذا زاد الضغط على إيران، وتهدَّد وجودها الإستراتيجي في مواقع نفوذها. ويبقى ذلك احتمالًا قائمًا وخيارًا لدى طهران، حتى ولو كان ذلك غير ممكن أو غير عقلاني.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير