يجد الاتحاد الأوروبي نفسه في منعطف حرج، إذ يتصارع مع تداعيات نهج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تجاه أوكرانيا وتداعياته الأوسع على الأمن الأوروبي، فقد أثارت سياسات ترامب القائمة على ما يُمكن تحقيقه من فوائد مكتسبة، والميل بعيدًا عن الدعم الأمريكي التقليدي للحلفاء الأوروبيين، مزيجًا من القلق والترقب في جميع أنحاء القارة، ومنذ تولي إدارة ترامب الثانية زمام الأمور في يناير 2025م، برز مُثلثًا روسيًا أمريكيًا أوكرانيًا، أسفر عن تهميش موقف أوروبا، وأدى على نطاق أوسع إلى تقويض دور بروكسل لتحقيق السلام في هذه الحرب الإقليمية الأوروبية، ولم تتناول قمة أوكرانيا والولايات المتحدة في جدة الموضوع الأوروبي إلا في نهاية البيان، وذلك بناءً على طلب الجانب الأوكراني. وبحسب ما جاء في البيان فقد: «تعهدت الولايات المتحدة بمناقشة هذه المقترحات المحددة مع ممثلين من روسيا، وأكد الوفد الأوكراني مُجددًا على ضَرورة مُشاركة الشركاء الأوروبيين في عملية السلام».
تكشف روايات الاتحاد الأوروبي المحيطة بهذه التطورات، عن حالةٍ من الصِراع الداخلي داخل الكتلة الأوروبية فيما يتعلق باعتمادها على القوة الأمريكية، وعن حاجة الاتحاد إلى تعزيز دفاعاته ومستقبله الغامض، في ظل مشهد جيوسياسي سريع التغير، وقد جاء نهج ترامب تجاه أوكرانيا كالصاعقة بالنسبة للاتحاد الأوروبي، مُصعدًا مخاوفه في هذا السياق، فمنذ عودته إلى منصبه في يناير 2025م، انتهج ترامب إستراتيجيةً أُحادية الجانب، حيث تَواصل مباشرًة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتفاوض على إنهاء الحرب في أوكرانيا -وهي خطوةٌ همّشت كُلًا من كييف وشركائها الأوروبيين، وقد مَثل قرار إدارته بتعليق المساعدات العسكرية لأوكرانيا- ثم إعادة تقديمها لاحقًا- إلى جانب الصِدام العلني مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في فبراير 2025م خروجًا حادًا عن التزام عهد بايدن بدعم أوكرانيا ضد التدخل العسكري الروسي، وقد فسَّر قادة الاتحاد الأوروبي هذه الخطوة على أنها «تَخلٍ مُحتمل عن أوكرانيا»، الأمر الذي أثار المخاوف من أن التوصل إلى اتفاق سلام ضعيف، قد يُقوي شَوكة روسيا ويزعزع استقرار الجناح الشرقي لأوروبا.
وتتناول رؤية ترامب للسلام في أوكرانيا كلًا من منظور الكرملين لمستقبل العلاقات الدولية في عالم ما بعد الغرب والحقائق العسكرية على طول خط المواجهة الذي يبلغ طوله 2000 كيلومتر، وقد فاجأ هذا النهج المستحدث للسلام من جانب الإدارة الأمريكية أوروبا، مما جعل موقفها يبدو وكأنه يُفضل المواجهة العسكرية المطولة على وقف إطلاق النار قصير المدى.
ويؤطر سرد الاتحاد الأوروبي تصرفات ترامب على أنها «خيانة» للتضامن عبر الأطلسي. ومن جانبها انتقدت كبيرة الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، التحركات الأمريكية ووصفتها بأنها «استرضاء»، وجادلت أن «استبعاد أوروبا وأوكرانيا من المفاوضات يقوض الأمن الجماعي». وقد تردد صدى هذا الشعور في جميع أنحاء العواصم الأوروبية، حيث يخشى القادة من أن مبدأ ترامب «أمريكا أولًا» -أو حتى التقارب مع روسيا- يُعطي الأولوية للمصالح الأمريكية على استقرار أوروبا، وقد أدى الخلاف بين ترامب و زيلينسكي، والذي أعقبه توقف شُحنات الأسلحة الأمريكية لكييف إلى تعميق انعدام الثقة، مما دفع المواطنين الأوروبيين إلى التساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة ما زالت تُشكل حليفًا موثوقًا به، وعلى الرغم من النفي الرسمي لمفوضية الاتحاد الأوروبي ونظرتها المُستمرة للولايات المتحدة كحليف، فإن العديد من أعضاء النُخبة السياسية في أوروبا، يُشككون الآن علنًا في تحالفهم مع الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب، وقد أدت هذه المخاوف الأوروبية بشأن التزامات الولايات المتحدة، إلى تجديد التركيز على الاستقلال الأوروبي، وقد تكثفت المُناقشات بشأن ضرورة تحمل أوروبا مسؤوليًة أكبر عن دفاعها بشكل يُقلل من الاعتماد على الولايات المتحدة، وقد رددت شخصيات سياسية بارزة هذا الرأي، مؤكدًة على ضرورة تعزيز أوروبا لآلياتها الأمنية. واستجابًة لهذه التحديات، انخرط الاتحاد الأوروبي بنشاط في استكشاف سُبل تعزيز قُدراته الدفاعية، وشملت المُقترحات زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 800 مليار يورو وتطوير مشاريع عسكرية مُشتركة وتعزيز تكامُل الصناعات الدفاعية بين الدول الأعضاء، إذ يهدف هذا المسعى إلى إرساء وضع دفاعي أوروبي أكثر استقلاليًة ومتانًة لمواجهة التهديدات الأمنية بشكل مستقل. ومع ذلك، يواجه تحديات مثل تجزئة قطاع الدفاع الأوروبي وتباين تصورات الدول الأعضاء للتهديدات، ولكن تُبذل جهود لتبسيط مبادرات الدفاع وتعزيز التعاون للتغلب على هذه التحديات.
وكانت سياسات ترامب بمثابة جرس إنذار للاتحاد الأوروبي، مُسلطًة الضوء على اعتماده طويل الأمد على القوة العسكرية الأمريكية وإطار حلف الناتو. ولعقود، عملت أوروبا على افتراض أن القوة الصلبة الأمريكية -المتمثلة في مظلتها النووية ومساهماتها الدفاعية الكبيرة-ستدعم أمن القارة. ومع ذلك، فإن تهديدات ترامب بتقليص التزامات الولايات المتحدة –مثل ميوله السابقة بشأن الانسحاب من حلف الناتو– قد أجبرت الاتحاد على إعادة حساباته، ويواجه القادة الأوروبيون الآن سؤالًا وجوديًا: هل يمكنهم الاعتماد على الولايات المتحدة للدفاع عنهم ضد الطموحات العسكرية الروسية، أم يجب عليهم الوقوف بمفردهم؟
وقد أثار هذا السرد المتعلق بالاعتماد على الولايات المتحدة من عدمه، موجًة من العمل النشط، فانتهز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المدافع المخضرم عن الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، الفرصة للتحول نحو أوروبا أقوى وأكثر اعتمادًا على الذات، ويعكس اقتراحه بنشر قوات أوروبية في أوكرانيا كـ «قوة طمأنة» بعد وقف إطلاق النار رغبًة في إرسال إشارة عزم إلى روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة على حد سواء. وبالمثل، تعهد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، بإرسال قوات برية لتأمين أي هُدنة يُتوصل إليها مما يضع المملكة المتحدة كلاعب رئيسي في الأمن الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي غضون ذلك، طرح المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرز، فكرة تخفيف القيود المالية لإطلاق مليارات الدولارات لتعزيز الدفاع –وهو تحول كبير –بالنسبة لبلد كان حَذِرًا تاريخيًا بشأن العسكرة.
ومع ذلك، هُناك حقائق صعبة قد تُؤثر على قُدرة هذه الجهود على النجاح أو التقدم، فالقدرات العسكرية لأوروبا مازالت مُجزأة وتُعاني من نقص التمويل، وتُشكل عملية صُنع القرار في الاتحاد الأوروبي التي تتطلب الإجماع بشأن السياسة الخارجية عَقبة مُستمرة، خاصًة مع تهديد رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان -شريك ترامب- باستخدام حق النقض «الفيتو» ضد المُبادرات التي تدعم أوكرانيا. ولذلك، فإن مُستقبل أمن الاتحاد الأوروبي مُتوقف على قُدرته على التوحد، وإن من شأن استبعاد دول البلطيق من القمم الرئيسية وتُسلط الانقسامات بين القادة المؤيدين لـ «ترامب» مثل «أوربان» والقادة الليبراليين، الضوء على صعوبة صياغة استراتيجية متماسكة.
ويحذر بعض المحللين من أنه بدون قيادة الولايات المتحدة فقد يُضعف حِلف شمال الأطلسي، مما يجعل أوروبا عُرضًة للعدوان الروسي -أو حتى إثارة إلى الانتشار النووي-حيث تُعيد دول مثل ألمانيا وبولندا النظر في موقفها غير النووي.
ويُشير السرد الصادر عن بروكسل، إلى الحاجة الملحة للتحرك والاستجابة السريعة للظروف الحالية مع إيجاد حِلول لقيودها المؤسسية والسياسية التي تُعيق العمل السريع، كما تعكس روايات الاتحاد الأوروبي حول نهج ترامب تجاه أوكرانيا والأمن الأوروبي ومستقبل دفاعه، وضعًا حرجًا بالنسبة للقارة، وتسعى أوروبا جاهدًة في مُواجهة الالتزامات الأمريكية المتغيرة، إلى تعزيز قُدراتها الدفاعية وتأكيد استقلالية إستراتيجية أكبر، بهدف ضمان الاستقرار والأمن داخل المنطقة، بينما ينادي قادة مثل ماكرون وستارمر وميرز، إلى إيجاد اتحاد أوروبي أقوى وأكثر استقلالية. ومع ذلك؛ فإن الطريق للمضي قُدمًا غير واضح ومليء بالانقسامات الداخلية وقيود الموارد ورئيس أمريكي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وبينما يمر الاتحاد الأوروبي بهذه الحقبة المضطربة، فإن قدرته على ترجمة خطابه إلى أفعال ستُحدد ما إذا كان سيتمكن من حماية أوكرانيا وردع روسيا وتأمين مستقبله أو البقاء عالقًا بين أهواء واشنطن وطموحات موسكو، ومن المرجح أن يُعمّق كل هذا الخطاب حول إعادة تسليح أوروبا عُزلتها. ويكمن الخطر الحقيقي على أوروبا، في أن النخب أو الطبقات الحاكمة فيها قد تبدو وكأنها تتبنى موقفًا عدائيًا أو تميل إلى الحرب. وعلاوًة على ذلك، إذا نُظر إلى الأوروبيين على أنهم يُعارضون إدارة ترامب بشكل منهجي، فإنهم يُخاطرون بتسريع النتيجة التي يخشونها أكثر من أي شيء آخر: انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو).