د. منير موسى أبو رحمة
آسيــــة قـــــوراري
جامعة أبو بكر بلقايد – تلمسان /الجزائر
إنّ القرن الحادي والعشرين قرنُ انتشارِ القوّة وتوسُّعِها في العَلاقات الدولية، وتتحدّد أنماط عَلاقات القوّة على المستويين الإقليمي والدولي بمقوّمات ومكانة كل دولة في داخل كلّ نطاق، وسعيِها لتوسيع انتشارها. فخلال حقبة إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما- Barack Obama، ونتيجة اعتماد الأداء السلمي على التوجهات السياسية الأمريكية عمومًا، أُتيحت الفرصة للمنافسين الدوليين كروسيا، والخصوم الإقليميين كإيران، للتأثير في القضايا الدوليّة، وهذا ما يُلاحَظ في الدور الذي تؤدِّيه روسيا في سوريا، وفي تدخُّلها في شبه جزيرة القرم الأوكرانية، كما يُلاحَظ في توسيع إيران نطاق نفوذها بمنطقة الشرق الأوسط.
يسعى هذا البحث إلى فحص التحوّل في بنية القوّة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد إندلاع ما يسمى بـ «الربيع العربي» بالتركيز على الدور الإيراني، وذلك من خلال التعرف على طبيعة هذا الدور، وبطبيعة الحال موقف القوى الإقليمية العربية من ذلك، فضلًا عن تفاعلات القوّة العالمية مع ذلك، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية.
أولا: مفاهيم الدراسة
يمكن تحديد أهم المصطلحات الأساسية التي تتطرق إليها الدراسة على النحو الآتي:
1. مفهوم القوّة
إنّ مصطلح القوّة ذو أهمية مركزية في السياسة الدوليّة، انطلاقًا من الأبعاد النظرية والعملية على حدٍّ سواء، وترمز القوّة من حيث معناها العام إلى إمكانية فرض الإرادة الذاتية لطرفٍ من الأطراف، حتى ضدّ ما يواجههُ من أعمال المقاومة، ويُفهم من تعبير قوّة الدولة قدرتها على المطالبة بإطاعتها أو مراعاة مصالحها، على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولو أدى ذلك بالضرورة إلى استخدامها التهديد/ أو وسائل الإكراه القسرية، «وكما أنّ المال بالتحديد يُشكّل عملة ضمان الحياة الاقتصادية، فإنّ القوّة تُفهمُ بأنّها عملة التداول بالنسبة إلى السياسة الدوليّة» على حدّ قول كارل دويتش-Karl Deutsch([1]).
وإجمالًا بشأن مفهوم القوّة، لا يوجد تعريفٌ جامعٌ وشاملٌ ومانع، والحقيقة هي انعدام وجود إجماعٍ بين المفكرين السياسيين وعلماء الاجتماع بشأن طبيعتها لأسبابٍ من بينها تعدُّد الصور التي تتخذها، إذ لا يوجد تنظيمٌ من دون أن تكون القوّة هي جوهر الأسس التي يستند إليها، ومهما اختلف العلماء في تحديد تاريخ أوّل ظهورٍ لهذه الكلمة على المسرح السياسي، فإنّ ذلك لا يُغيّر من الحقيقة شيئًا، فالقوّة هي صُلب علم السياسة، إذ بها يُصنع القرار السياسي ويُوضع موضع التنفيذ في شتى مجالات الحياة([2]).
وتُعتبر على سبيل المثال قوّة الدولة من العوامل التي يُعلّق عليها أهميةٌ خاصة في ميدان العلاقات الدوليّة، وذلك بالنظر إلى أنّ هذه القوّة هي التي ترسم أبعاد الدور الذي تقوم به الدولة في المجتمع الدّولي، وتحدّد إطار علاقاتها بالقوى الخارجية في البيئة الدولية.
ويمكن تعريف القوّة الوطنية للدولة على أنّها المقدرةُ على التأثير في سلوك الدول الأخرى بالكيفية التي تخدم أغراض الدولة الممتلكة لها، وبدون هذا فقد تكون الدولة كبيرة أو غنية أو عظيمة، ولكنّها ليست قويّة، ويتفق مع هذا التعريف البروفيسور ديفيد سنجر – David A. Singer الذى يُعرِّفها على أنّها القدرة على التأثير، وكذلك الأستاذ الهندي ماهندرا كومار الذي يعطي للقوّة مفهومًا مرادفًا للتأثير، فيُعرِّفها بأنّها القدرة أو القابلية للسيطرة على الآخرين؛ وتمثل قوّة الدولة حجر الزاوية في تحديد أبعاد الدور الذي تؤديه على مسرح الحياة السياسية الدولية، والحكم على طبيعتها يختلفُ من موقفٍ لآخر حسب الأيدي التي تُمسك بزمام هذه القوّة والهدف الذي تُوجه إليه، فبعض الدول تستخدم قوتها الوطنية كأداةٍ لإملاء أوضاعٍ إقليميةٍ معينة، أو لفرض نمطٍ سياسي أو مذهبٍ بالذات على الدول الأخرى، في حين هناك دولٌ أخرى أمكنها ترويض هذه القوّة وتهذيبها والتحكّم فيها والسيطرة عليها في الحدود التي يقتضيها الدفاع عن أمنها القومي ومصالحها الوطنية.
وتجدرُ الإشارة إلى نقطةٍ مهمّةٍ وأساسية في هذه المحطة بالذات ألا وهي الفجوة بين القوّة الفاعلة في السياسة الدوليّة أي «القوّة العملياتية» وبين معنى «القوّة مفاهيميًا»، وذلك يعود بدرجةٍ كبيرة إلى كون القوّة ظاهرةً كليّة متكونة من جملةِ متغيراتٍ متداخلة متفاعلة، كما أنّ مفهوم القوّة قد ارتبط بمحك اختباره، وهو التعامل المباشر في الميدان.
ويستعرض الدكتور ثامر كامل الخزرجي في كتابه المعنون بـ «العلاقات السياسية الدولية وإستراتيجية إدارة الأزمات» بالتفصيل المُمل، معنى القوّة مفاهيميًّا بحصره ثلاثة توجهات، لكلّ واحدٍ منهم منظورٌ وتوجهٌ معيّن في العلاقات الدولية، وهم إدوارد كار-Edward Hallett Car ممثلًا عن المدرسة التقليدية، و هانس جي مورغانثو-Hans J.Morgan Thau رائد المدرسة الواقعية، وفي الأخير روبرت دال-Robert A.Dahl ممثلًا عن المدرسة السلوكية([3]).
2. مفهوم توازن القوى
حظيت سياساتُ توازن القوى بنصيبٍ وافر من الدراسات، واهتمامات الأكاديميين وحتى السياسيين، لأنّها علاوةً على زيادة الفهم استمرت تُعبِّرُ عن سياسات قوى دولية، تبحث من خلال القوة إمّا عن الحفاظ على الوضع القائم أو تعديله.
ويعدّ التوازن Balance/ Equibrium ظاهرةً تلقائية في الطبيعة وفي السياسة، بمعنى تحقق انتظام العلاقة بين المكونات وفقًا للكيفية التي يُعاد بها انتشارُها، ومن ثمّ، إذا ما تغيّرت كثافة أو وجود المكونات (إضافة، حذف، أو تعديل) سيكون ردّ الفعل هو تغيُّر علاقاتها عندئذ، ويظهرُ انتظامٌ ذاتيٌ جديد يحقق التوازن بين المكونات ليضمن استمرار العملية السياسية فيما بينها([4]).
يأتي الدكتور إسماعيل صبري مقلد في تعريفه لتوازن القوى بقوله: «ينشأ التوازن في حالة إمكان دولة واحدة أن تحصل على تفوقٍ ضخمٍ وساحق في قِواها، ما يهدّد حريّة الدول الأخرى واستقلالها، وهذا التحدّي هو الذّي يدفع الدول المحدودة القوّة إلى مواجهة القوّة بالقوّة عن طريق التجمُّع في محاور أو ائتلاف قوى مضادة، وهذه إحدى طرق تكوين التوازن الدّولي وليست الطريقة الوحيدة، وهي طريقة تكوين توازناتِ ما بعد الحروب الدوليّة»، ويوصف توازن القوى بأنّه «سياسةٌ ترمز إلى المدرسة الواقعية في السياسة الدوليّة، وهي المدرسة التي تُعنى بظاهرة القوّة، وإنّ الدول حينما تسعى للحفاظ على وجودها وأمنها ومركزها الدّولي من خلال عملية الصراع على اكتساب القوّة، فإنّ رائدها في ذلك هو تحقيق توازن القوى، وهو في الوقت ذاته سلاحٌ في تنظيم استخدام القوّة والسيطرة عليها»([5]).
ولتوازن القوى العديد من الصور والأشكال، رغم أنّ فكرته الجوهرية هي توزيع القوّة بين الأطراف الدولية، لكن من خلال دراستنا المحددّة والدقيقة سوف نقتصر فقط على مفهوم التوازن الإقليمي أو ما يسمى بالتوازن الفرعي وهو شكلٌ من أشكال التوازنات يتكون داخل أُطرٍ جغرافيةٍ محدودة تجمع عددًا من الدول التي تدخل فيما بينها في علاقاتٍ تتسمُ بالصّراع على السلطان والنفوذ في هذا الإطار الجغرافي المحدود، وكمحصلةٍ لهذا الصراع فإنّ دولًا محدودة تصل إلى مرحلةٍ متعادلة أو شبه متعادلة من القوّة ممّا يؤدي إلى قيام توازن قوى محليّة يتحكم في سلوك الدول وضبط علاقات بعضها ببعض، فيجري التنافس بين أقطابه أيضًا بالأساليب السلمية، وقد ينتهي بالحروب مثله في ذلك مثل توازن القوى العالمية، والواقع أنّ توازن القوى الإقليمي مثله مثل توازن القوى العالمية يخضع للقواعد نفسها ويتسم بخصائص متشابهة ويؤدي إلى النتائج عينها تقريبًا ذلك على المستوى الإقليمي ولكنّه يؤدي دورًا مركبًا إذ أنّه يؤثر تأثيرًا مباشرًا في الصراع العالمي ويؤدي إلى حسمه أحيانًا، فالخلاصة التي تتمحور حول ما ذكرناه سابقًا هي أنّ التوازن الإقليمي لا يعمل بمعزلٍ عن التوازن الدّولي الرئيس الذي يعتمد في استقراره وتغيره على الصراعات والتوازنات الإقليمية، فضلًا عن أنّ القوى الكبرى غالبًا ما تستثمر التوازن الإقليمي لدعم ورفد عناصر قدرتها وتأثيرها ونفوذها في النظام الدّولي واستقرارها على نحوٍ متزايد، وأنّ أي خللٍ يصيب التوازنات الإقليمية بفعل حدوث متغيرات إقليمية مفاجئة لا بدّ وأن ينعكس تأثيره سلبًا أو إيجابًا على التوازنات الدوليّة المرتبطة به، وهذا التأثير يتحدّد في ضوء اقتراب أو ابتعاد مصالح القوى العظمى العالمية وخصائص الوضع الإستراتيجي لتلك القوى الإقليمية من حيث مفهومها لأمنها القومي ومصالحها، فتوازن القوى قانونٌ تاريخي، سواءٌ أتعلق الأمر بالتوازن الإقليمي أم الدّولي، وكما أنّ التوازن الإقليمي هو الأسبق وجودًا فإنّ توازنات القوى أخذت الطابع نفسه، فالقاعدة العامّة هي أنّ التوازن الفرعي لا يُمكنه أن يعمل مستقلًا بالضرورة، أي تفاعُلاته لا تجري بمعزلٍ من أطراف التوازن الرئيس([6]).
3. مفهوم القوّة التعديلية
جاء تعريف القوّة التعديلية لدى المُنظِّر والأستاذ جون مير شايمر-John Mearsheimer في كتابه المُعنون بـ«مأساة سياسة القوى العظمى» The Tragedy Of Great Power Politics بحيث يُعرِّفها بأنّها التعديلية أو النزعة التعديلية ((Revisionism نزوع لدى القوى العظمى، والدول عمومًا، نحو تغيير أو تعديل توازن القوّة لصالحها سلمًا أو حربًا، لأنّ القوّة النسبية للدولة في مقابل الدول الأخرى هي الضمانة الأولى لبقاء الدول، ولذلك تقف القوى التعديلية على طرف النقيض من قوى الوضع الراهن التي تسعى للحفاظ على توازن القوّة الحالي، بالطبع لأنّه في صالحها، ويُشير في كتابه أيضًا إلى أنّ النظام الدّولي لا يضم دولًا من نوع قوى الوضع الراهن (Powers Status Qua)، إلاّ الدولة المهيمنة الحالية التي تسعى إلى الحفاظ على مكانتها المهيمنة على المنافسين المحتملين، فالقوى العظمى لا ترضى أبدًا عن التوزيع الحالي للقوّة، ويسيطر عليها دائمًا دافع إلى تغييره لصالحها، فدائمًا ما تكون نواياها تعديلية، وتستخدم القوّة لتعديل توازن القوّة([7]).
لوحظ في السنوات الأخيرة تركيز المفكرين والمختصين نحو هذا الموضوع، نذكر على سبيل المثال والتر رازل ميد- Walter Ruselle Mead ويعتبر من أبرز المفكرين الذين تناولوا هذا الموضوع ونشر مقاله في مجلة الشؤون الخارجية، الذي حمل عنوان: «عودة الجغرافيا السياسية: انتقام القوى التعديلية»)[8]).
وتناول أيضًا في هذا الصدد، الدكتور محمد حمشي أستاذ العلوم السياسية بجامعة أم البواقي في مقاله المعنون بـ «الاستقرار النظمي: أي تأثيرٍ للتحولات الإقليمية على المغرب العربي؟»؛ ويوضح حول «عودة الجغرافيا السياسية بصعود القوى التعديلية في السياسة الدولية»، إذ استشهد في تحليله بثلاثة نماذج أساسية هي كالآتي: الصين في المحيط الهادئ وإفريقيا، وروسيا في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، وإيران في الشرق الأوسط، فيما يُشير عدد من الباحثين إلى أنّ عودة الجغرافيا السياسية ترتبط بحالات الفراغ في القوّة الإقليمية أو العالمية، الأمر الذّي يدفع بالقوى التعديلية إلى المبادرة بتبني سياساتٍ إقليمية أو عالمية تهدف بالأساس إلى التأثير في أنماط توزيع القوّة لمصلحتها.
ويذهب الدكتور حمشي إلى أنّ الحراك العربي أثَّر بشكلٍ مباشر في بنية القوّة الإقليمية، وبشكلٍ غير مباشر في بنية القوّة العالمية التي تشكَّلت بعد نهاية الحرب الباردة، ولاختبار هذه الفرضية يعقد الباحث مقارنةً بين قدرة الغرب على التدخل في العراق وليبيا (2011م-2003م-1991م) وعجزه عن التدخل في سوريا، وبيّن قدرته على التدخل في البوسنة والهرسك (1999م)، وعجزه عن التدخل في أوكرانيا (شبه جزيرة القرم)([9]).
ثانيًا: إيران كقوّةٍ تعديلية.. المحددات والمرتكزات
في ضوء فهم الدولة لمكانتها الدوليّة واعتراف الدّول الأخرى لها بهذه المكانة، تستطيع هذه الدولة اعتماد سياسات القوّة اللاّزمة في النظام الدّولي، والذي يضمن أقصى قدرٍ ممكن لحماية مصالحها، وتحقيق أدوارها المرسومة، ووفقًا لذلك يمكن تفسير الرؤية المتبادلة بين الإقليمية (نظامًا وقضايا)، والعالمية (قوى وقضايا)؛ ورغم التطوّر الحاصل في طبيعة العلاقات الإقليمية([10])، وظهور قوى إقليمية تحاول أن تعدّل من الوضع القائم، يتضح مباشرةً على رأس القائمة التوجه الإيراني على الساحة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، وبدون منازع تنافس بشراسة على تموضعها وقوتها ونفوذها بالمنطقة، معتمدةً في ذلك على كلّ الوسائل والمقومات والمرتكزات التي تدفع بها لتكون قوّةً تعديليةً واضحةَ المعالم بالمنطقة.
ومن أبرز ما يميّز إيران موقعها الإستراتيجي، إذ تقع في الجنوب الغربي من قارة آسيا، وقد ارتبط تاريخها السياسي والاقتصادي ارتباطًا قويًا بموقعها الجغرافي، ومع مساحتها التي تبلغ مليونًا و648 ألفًا و195 كيلومترًا مربعًا، أي ثلاثة أضعاف مساحة فرنسا، ومع حدودٍ تبلغ 8731 كلم منها 2700 كلم حدودٌ بريّة، وتشترك إيران في حدودٍ مع عدة دولٍ: العراق، وتركيا، وأرمينيا، وأذربيجان، وتركمانستان، وأفغانستان، وباكستان، وبالتالي تُعَدّ إيران ثاني دولة من حيث عدد البلدان المجاورة التي تحدّها بريًّا بعد روسيا.
كما تتمتع بموقعٍ جيو-سياسي مهم بالمنطقة، إذ يطل موقعها على أكثر من مسطحٍ مائي (الخليج العربي وبحر قزوين وبحر العرب)، وهي صاحبةُ أطول ساحلٍ على الخليج العربي، بالإضافة إلى حدودها مع البلدان المطلّة على بحر قزوين ومع البلدان العربية على الساحل الجنوبي للخليج ذو الأهمية الإستراتيجية، بحيث أصبح بمقدور إيران التدخل والتأثير في أمن الخليج، وفي إمدادات النفط العالمية التي تنقلها السفن من مضيق هرمز([11]).
وطيلة الأزمنة التاريخية المختلفة، ظلّت تحتل إيران بموقعها مكانةً إقليميةً معتبرة، إذ تمثل حلقة الوصل بين المشرق والغرب، وهي بمنزلة ممرٍ طبيعي للتجارة العالمية بين الشرق الأقصى وحوض البحر المتوسط، لذلك أطلق عليها لقب «مفتاح الشرق»، ولذا باتت موضعَ اهتمام القوى الدولية([12]).
بالإضافة إلى ذلك فلإيران امتداداتها الاجتماعية والثقافية الديموغرافية والاقتصادية المعقدّة، الأمر الذي ساعدها لأن تقوم بلعب أدوارٍ إقليمية بموضوعاتٍ شتى وعديدة، ومع الاستناد لفكرة «عودة الجغرافيا السياسية» لكلا الباحثين الّذين ذكرناهم سلفًا يتجلى لدينا بوضوح أن إيران توفرَ لديها عنصرٌ مهم من العناصر التي تؤهلها لأن تكون قوّةً تعديلية بالمنطقة.
وتتمثل هذه المقومات الأساسية في ثلاثة عوامل رئيسية، هي:
- العامل الأيديولوجي
- ثانيًا: الشخصية القومية الإيرانية
- ثالثًا: مكتسبات الثورة
وتأثير هذا الأخير في حركة النظام يفوق بكثير تأثير أي عاملٍ آخر، سواء كان متمثلًا في مصادر الثروة، أو القدرات الاقتصادية، أو القوّة العسكرية، أو القدرات العلمية والصناعية، فهذه العوامل الأخرى تعمل في خدمة المقومات الثلاثة، بل إنّ هذه المقومات الثلاثة تؤثر في اختيار القيادات، ابتداءً من زعيم النظام، فضلًا عن كيفية وضع الإستراتيجية العامّة للنظام الحاكم، وتوجيه سياسته، بل وكيفية التعامل مع المتغيرات، كما أنّ هناك ثلاثة محدّداتٍ داخلية أساسية للسياسة الخارجية الإيرانية في عهد الرئيس حسن روحاني، تتداخل مع هذه المقومات، وهي: المحددّ الاقتصادي، والمحددّ الثقافي، ومحددّ المصلحة، ويندرج تحت كلّ محددٍّ منها عددٌ من التفصيلات الجزئية المتعلقة به.
بخصوص المقوم الأيديولوجيفإنه يتمحور حول المذهب الشيعي الذّي اتخذت إيرانُ من فكرهِ نظامَ ولايةِ الفقيه، لذلك فهي ليست مجرّد نظام سياسي وفقط، بل هي ثقافة دينية تنبُع من الاجتهادات التي قدمها علماءُ الدّين، حتى أنّ ولاية الفقيه استمدت قوّتها من فكرة المحافظة على المذهب ذاته، والإبقاء على مقوماته، أي أنّ هذه الأيديولوجية تحقق مصلحةً دينية يؤمن بها الشعب الإيراني، وتدعم تراثه الثقافي والحضاري، الأمر الذي جعل هذه الأيديولوجية تمتزجُ بعنصر المصلحة الذي يقرُّه المذهب الشيعي، بل ويرفعه فوق النص الدّيني أحيانًا.
أما الشخصية الإيرانية فمن خلال قراءة علمية في تاريخ إيران ندرك جيّدًا أنّ مثلث الإنسان، والبيئة، والعقيدة هو ما بنيت عليه الشخصية الإيرانية، فهي بالتالي شخصيةٌ مركبة تكاتفت عوامل كثيرة لإنضاجها، وبلورة خصائصها ومقوماتها، من خلال تاريخها الطويل، تحت حكمٍ تُظلله نظرية التفويض الإلهي للحاكم. وأخيرًا، تتضح مكتسبات الثورة على لسان أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي، إذ قال: «أفرزت الثورة منذ بدايتها في إيران مناخًا سياسيًا جهاديًا يسود الساحة، وقد تشكَّل في ظلّه تياران أحدهما سياسي والآخر جهادي، كان بينهما اختلافٌ في الرؤية تجاه العديد من القضايا، لكن الفترة الأخيرة شهدت انهيارًا في الحدود الفاصلة بين التيارين، ولا شكّ في أنّ الساحة السياسية في حاجة لكلا التيارين، لأنّهما يستطيعان معًا تشكيل هندسة الساحة السياسية في إيران (صحيفة تابناك في 18 يونيو 2014م)»([13]).
نستنتج من هذه العناصر التوجه السياسي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، حيث تعتبر الإستراتيجية الإيرانية من أكثر الإستراتيجيات المثيرة للجدل في الشرق الأوسط، فقد حظي البُعد الإقليمي للإستراتيجية الإيرانية باهتمامٍ بالغ من قِبل صُناع القرار السياسي والعسكري في إيران، ووظفت إيران في سبيل إنجاحها مختلف الأدوات الصلبة والناعمة، فضلًا عن التخصيصات الماليّة الكبيرة التي ثم تسخيرها في هذا المجال، ويتضحُ هذا الأمر في الحجم المتصاعد للميزانية الخارجية المسَّخرة لدعم الدول والجماعات المسلّحة، التي تدور في فلك إستراتيجياتها الإقليمية، وتحديدًا في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، وبعض دول القارة الإفريقية.
كما وتتضح أهميّة الإستراتيجية الإقليمية من خلال القداسة التي منحها إياها الدستور الإيراني، في دعم الأقليات الشيعية بمختلف دول العالم، وبشتى الوسائل المتاحة.
ثالثًا: مكانة إيران في ظل توازن القوى الجديد بالشرق الأوسط
تتمتع منطقة الشرق الأوسط بالعديد من المميّزات والعوامل التي تجعلها محطَّ أطماع القوى الكبرى، وأيضًا نظرًا لأهمية موقعها إستراتيجيًا وجيو-إستراتيجيًا وسياسيًا، ولما تمتلكه من موارد بحيث تمتلك أكثر من 50% من نفط العالم، واحتياطات الغاز، فيُرجحُ بعض الدارسين المختصين بأن مختلف النزاعات في الشرق الأوسط راجعٌ بالأساس إلى التنافس على النفط والغاز الطبيعي، وهو ما يعني أنّ حروب الشرق الأوسط هي حروبُ طاقة في أغلبها([14]).
وبما أنّ تراجع القوّة الأمريكية قد أدّى إلى صعود قوى المراجعة، فإنّه أدّى كذلك إلى ازدياد دور القوى الإقليمية، وذلك لملء الفراغ الذي أوجدته المرحلة الانتقالية في النظام الدّولي، مع الأخذ بالاعتبار أن الولايات المتحدة ما تزال القوة الأكثر تأثيرًا.
وما يعزز طرحنا السابق حول أهمية الجغرافيا السياسية بصعود القوى التعديلية في الساحة الدوليّة، الأحداث المتوالية التي دائمًا ما يكون مسرحها منطقة الشرق الأوسط، بما تشهده من حروبٍ ونزاعاتٍ وصراعات انتقالًا إلى التهديدات الأمنية المختلفة إرهابيةً كانت على سبيل المثال –داعش– أو غيرها من الأشكال، وصولًا إلى الموجة التي اكتسحت الساحة بما اصطُلح تسميته بـ«الربيع العربي»، كلّ هذه المتغيرات لعبت دورًا كبيرًا في العلاقات وتوجهات الوحدات الدوليّة والإقليميّة، وبما أنّ المتغيرات كثيرة لا بدّ من فحص انعكاسات التغيّر في ميزان القوّة العالمية على ميزان القوّة الإقليمية بمنطقة الشرق الأوسط، بوصف ذلك أمرًا ضروريًا لمحاولة تحديد موضع إيران فيه، فما المقصود هنا بالتغيُّر في ميزان القوّة العالمية، والتغيُّر الذي يحدثه صعود القوى التعديلية في العلاقات الدوليّة؟
ويمكن توضيح ذلك أكثر من خلال:
1. كشف ملامح فراغ القوّة الإقليمية وصعود قوى تعديلية في المنطقة من خلال ثلاثة متغيرات:
- تراجُع تأثير ثلاث قوى محوريّة هي العراق ومصر وسوريا، ممّا نتج عنه فراغ في القوّة الإقليمية.
- تزايُد الدّور الإقليمي لإيران في المنطقة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003م.
- ظهور تركيا وإيران كقوةٍ مؤثرة في مرحلةِ ما بعد الحراك العربي، انعكاسًا للفراغ الإقليمي الذي أفرزته تحوُّلات ما بعد الحراك، وتراجُع القوى المحورية التقليدية.
2. فراغ القوّة على المستوى الدولي وأثره على ميزان القوّة الإقليمية، ويتكشَّف من خلال عدة متغيرات:
- تحوُّل إيران إلى لاعبٍ أساسيٍّ في العراق، بل أهمِّ لاعبٍ على هذه الساحة، لا سيّما بعد أحداث ما يُعرف بـ«الربيع العربي».
- بروز دور روسيا والصين على الساحة الإقليمية، إذ تمكّنت روسيا والصين من الحفاظ على بقاء بشار الأسد والنظام السوري من خلال استخدام حق الفيتو في مواجهة الجهود العربية والدولية لتحقيق الاستقرار في سوريا ووضع حدّ للأزمة، وكذلك وقفت روسيا والصين ضد كثير من القرارات المتعلقة بالتطورات والصراعات في الشرق الأوسط.
- صعود هذه القوى التعديلية انعكس بصفةٍ مباشرة على ميزان القوّة الإقليمية، إذ تعزَّزَ دور الأنظمة الحليفة للصين وروسيا([15]).
- ظهور ملامح الصراع والتنافس بين إيران وتركيا وإسرائيل.
بدورها مهدت التعديلات والتحولات في ميزان القوة دوليًا وإقليميًا الطريق لظهور حالة الانكشاف الكبير الذي تعاني منه المنطقة العربية، الأمر الذي أسهم بشكلٍ غير مسبوق في زيادة فُرص ونفوذ الدول الإقليمية الأخرى، بحيث أمكن الحديث عن تأثير ثلاث قوى إقليمية غير عربية في مستقبل المنطقة هي: إيران وتركيا وإسرائيل.
هذه القوى تملك من المقومات، والنفوذ، والإرادة، الأمر الذي جعلها ترسم أُطر التفاعل الإقليمي بشكلٍ أكثر فاعلية من أي دولةٍ عربيةٍ أخرى، وهكذا دخلت المنطقة سباقًا سياسيًا على الأدوار والنفوذ، وأضحت المناورة السياسية ومحاولة تكوين التحالفات والتكتلات أحد السمات البارزة في السياسة الإقليمية.
كان وما يزال دور وأهداف إسرائيل في المنطقة مقرونًا باستثمار الوجود الأمريكي الكبير في المنطقة، والتفوق الإسرائيلي العسكري المدعوم بالردع النووي، فضلًا عن استثمارها للمتغيرات التي عصفت وما زالت تعصف بالمنطقة، ومن ضمنها تدمير القدرات العراقية بعد الاحتلال الأمريكي 2003م، وخروج هذه الدولة المهمة من ميزان القوة الإقليمية، وحالة الفوضى التي تعيشها اليوم الكثيرُ من الدول العربية، والتي أخرجت على إثرها تأثير قوى أخرى كسوريا ومصر إلى حدٍ ما([16]).
استفادت إسرائيل من حالة الفوضى والأزمات التي عمَّت المنطقة، لأن ذلك يُرجح كفتها الإقليمية لعاملين مرتبطين بهذه التطورات، الأول: أن هذه الفوضى خلقت تصدعاتٍ حقيقية في جبهة المواجهة التاريخية معها، والثاني: أن هذه الفوضى أنهكت دول المواجهة وجعلتها أمام مشروعات تقسيم محتملة.
وبالنسبة لتركيا فقد أكدت الأحداث خلال السنوات الأخيرة على طبيعة دورها وأهدافها وعلاقاتها بدول المنطقة بمن فيهم إسرائيل وإيران، فبعد الهجوم الإسرائيلي على غزّة في ديسمبر 2008م، تحسّنت علاقات تركيا مع جيرانها العرب ومع إيران، وتدهورت علاقاتها مع إسرائيل، وقد بلغت الأمور إلى أسوء نقطةٍ بالهجوم الإسرائيلي على سفينة الإغاثة التركية «مافي مرمرة» الذي تسبّب في تسعة قتلى من الأتراك، الأمر الذي أدى إلى طرد السفير الإسرائيلي آنذاك من أنقرة([17]).
كان هذا التحوّل بمنزلة موازنة علاقات تركيا بين الغرب والشرق أكثر منه التخلي عن الغرب لمصلحة الشرق، ومع ذلك، أثار هذا التحوّل امتعاضًا في بعض دوائر صُنع القرار السياسي والمناقشات الفكرية في الولايات المتحدة وأوروبا، وقد وصف توجه السياسة التركية الجديد بصفةِ العثمانية المحدّثة، ومع ذلك فانّ خطوة التوازن الجديد التي اتخذتها الحكومة التركية قد عززت موقفها بالتأثير في مسار الأحداث الناجمة عن الانتفاضات العربية، وفي الوقت نفسه تركتها عرضةً لارتداداتها([18]).
أمّا بالنسبة لإيران فترى أنّها دولةٌ ذات جذورٍ فارسية، الأمر الذي يعني أنّها كانت قوّةً لها وزنٌ دولي، وهذا يعزز طموحاتها في أن تبقى قوّةً مؤثرة في المنطقة وفي العالم، فهي ترى أنّ من حقّها أن تكون دولة متطوّرة ومتقدمة صناعيًا وليست فقط منتجةً للنفط، وهذا يَظهر من خلال محاولاتها السريّة لتخصيب اليورانيوم وامتلاك السلاح النووي، والتي أصبحت علنيةً بعد عام 2002م([19])، ويعتبر الإعلان عن مشروع البرنامج النووي الإيراني إشكاليةً بحدّ ذاته، بحيث أثار هاجسًا وتخوفات لدى دول الجوار التي لها علاقة إستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية خاصّة والغرب عامّة، جاء الإعلان عن مشروع البرنامج النووي الإيراني في ظلّ سياسة الولايات المتحدة المعلنة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، المُتمثلة بالحرب على الإرهاب، بحيث شنّت الحرب على أفغانستان والعراق، ووصفتهما بدول محور الشرّ، وكانت مستعدّةً لتضييق الخناق على إيران ومشروعها النووي.
وكان تحدّي إيران للقوى الغربية في قضية تخصيب اليورانيوم قد أكسبها تعاطفًا كبيرًا بين بعض التيارات المناهضة للغرب والولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة، لا سيما دعمها المُطلق لإسرائيل، وكان يعزى هذا التعاطف إلى إدراك العرب للمعاملة غير العادلة الّتي تفرض على إيران بالمقارنة مع إسرائيل التي لم تحاسب قطّ على مخزون أسلحتها النووية، وإن كان هذا التعاطف قد تحوَّل إلى حالةِ خوفٍ وترقُّب مِن سلوك إيران وسياساتها بعد ظهور نيَّاتها تجاه دول المنطقة([20]).
في المقابل تستمد إسرائيل قسمًا كبيرًا من مكانتها وقوتها من قدرتها العسكرية التقليدية والنووية بدعم الولايات المتحدة، وإلى الآن كان الهدف الحيوي للولايات المتحدة أن تضمن لإسرائيل السيادة العسكرية التقليدية والاستثنائية النووية في الشرق الأوسط، وهذا هو ما شجَّع إسرائيل على التمادي في سياسة الاحتلال والاستيطان على حساب الأراضي الفلسطينية، كما ساعد ذلك إسرائيل أيضًا على تدمير المنشآت النووية العراقية والسورية، دون خوفٍ من محاسبة، وبتهديدٍ خطير لإيران حول منهاجها في تخصيب اليورانيوم، بقصد استدراج واشنطن إلى حربٍ مع طهران([21]).
بالنسبة لدول الخليج فعلى الرغم من وجود خلافات بين دول مجلس التعاون حول مدى خطورة إيران على أمن واستقرار المنطقة وعلى تأثيرها على توازنات القوة والنفوذ الإقليمي، غير أن المملكة العربية السعودية والإمارات تحديدًا كقوى إقليمية لها تأثير كبير في المنطقة، نجحتا في خلق تحالفاتٍ إقليمية ودولية للتأثير للحدِّ من طموحات إيران الإقليمية، ونجحتا في فرض تكلفةٍ باهظة على مشروع إيران الإقليمي، وأصبحتا قوةَ توازنٍ لهذا المشروع بما تمتلكه الدولتان، ولا سيما السعودية من تأثيرٍ في الدائرتين الإقليمية والدولية، وهو ما يهدد قدرة إيران على إدخال تعديلاتٍ جوهرية في ميزان القوة الإقليمي.
رابعًا: فُرَص ظهور إيران كقوةٍ تعديلية في الشرق الأوسط
إنّ حالة عدم الاستقرار الّتي تخيّم على منطقة الشرق الأوسط منذ عدّة عقود جاءت نتيجةً لعدّة عوامل مؤثرة، يأتي في مقدّمتها غياب العلاقة الواضحة بين النظام الفرعي التي منها النظام الإقليمي الكليّ في الشرق الأوسط، فهنالك مجموعةُ تكتلاتٍ متمثلة في مشروع المشرق العربي ودول مجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي التي تنتمي إليها جميع دول منطقة الشرق الأوسط، فضلًا عن التكتلات الاقتصادية التي تجمع دول المنطقة، سواء كانت على المستوى الإقليمي مثل منظمة التعاون الاقتصادي ومنظمة الدول المُصدِّرة للنفط، وبالتالي عدم وضوح العلاقة بين هذه التكتلات والنظام الفرعي لا في مضمونها ولا في شكلها، قد جاء نتيجةَ عدم وجود اتفاقٍ على تحديدٍ دقيق لنطاق وخصائص وهيكلة النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، لهذا برزت رؤى إستراتيجية بديلة للتعامل مع المتغيرات الحاصلة في المنطقة، كانت من أهم مخرجاتها ظهور عددٍ من المشاريع التي استهدفت الشرق الأوسط، التي كان على رأسها المشروع الإيراني، المشروع التركي، المشروع الأمريكي، المشروع الروسي، والمشروع الإسرائيلي، وقد مثلت هذه المشاريع تحدياتٍ جسيمة أمام نجاح أي مشروعٍ عربي.
فيما يخصّ فُرص المشروع الإيراني ووضع إيران في الشرق الأوسط كقوّةٍ تعديلية، وتأثيرها على توازن القوى في المنطقة، فيُمكن الإشارة إلى ما يأتي:
1. استمرار التوازنات القائمة
سيؤدي قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتوجيه ضربةٍ عسكرية لإيران، ومعالجة الأزمة الإيرانية عسكريًا إلى العديد من النتائج السلبية إقليميًا، وهنا تكتسب الاتصالات الأمريكية – الإيرانية عبر الوسطاء وعبر لجنة الطاقة الدولية، وربما قنواتٍ أخرى أهميتها، حيث تُنبئ بإمكانية التوصل إلى حلولٍ وسط([22])، لا سيما أن بعض القوى الغربية لم تغلق باب المفاوضات مع إيران بعد، فجميع الأطراف بما فيها إيران تخشى الوصول لمرحلة المواجهة المباشرة، لأنها قد تُقحم الشرق الأوسط في دوامةٍ من النزاعات تعود سلبًا على الاستقرار العالمي ككلّ.
ويتضح ممّا سبق التداخل الواضح بين ما هو داخليٌ وإقليميٌ ودولي، وهو ما يُبقي على حالة التوازن الإقليمي بين جميع الأطراف، ويدعم استمرار الوضع القائم واستمرار التجاذبات والضغوطات دون الولوج في اصطداماتٍ محتدمة تصل إلى حالة الحرب التي لا ترغب بها كافة الأطراف، لتبعاتها الخطيرة على الجميع، وبالتالي فإن الرجوع إلى طاولة التفاوض قد يكون مدخلًا جديرًا بالاهتمام لتسوية جميع الخلافات السياسية إقليميةً كانت أم دوليّة.
2. تراجُع إيران لمصلحة القوى الإقليمية الأخرى
حيث ستتراجع قدرة إيران على التأثير الإقليمي بسبب الأزمة التي تعاني منها، لأن تغلبَ إيران على أزمتها مرتبطٌ بعلاقاتٍ جيدة مع المثلث الاقتصادي المتطوّر القادر على إنعاش الجانب الاستثماري الإيراني المتمثل في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، أمّا البديل الروسي والصيني والهندي الذي تُعول عليه إيران ليس بإمكانهم أن يقدّموا ما يمكن أن تستفيد منه إيران على غِرار دول المثلث الرأسمالي التي تسعى الولايات المتحدة إلى الضغط عليها لتشديد الحصار الاقتصادي إلى أقصى درجة، لتدفع إيران إلى التراجع عن أهدافها أو انهيارها، وبالتالي قيام نظامٍ آخر على غير الأُسس التي تقوم عليها الجمهورية الإيرانية حاليًا([23])، ويُعدّ الباحث جوزيف ناي صاحب مفهوم القوّة الناعمة في العلاقات الدولية أكثرَ من دعى إلى ضرورة المزاوجة ما بين العقوبات الاقتصادية (القوّة الصلبة) والقوّة الناعمة لتكثيف الضغوط الشعبية على النظام الإيراني([24])، وبالفعل أدت العقوبات الاقتصادية خلال السنوات الخمس عشرة الماضية إلى ضغوط غير مسبوقة على النظام الإيراني، أثرت في شرعية النظام وزادت الغضب الشعبي، وبالتالي نجحت الإستراتيجية الأمريكية في خلق ضغوط غير مسبوقة على النظام، قد تجبره على التراجع أو الهزيمة.
ويعزز هذا الاحتمال من جهةٍ أخرى أن هناك قوى إقليمية منافسة لن تترك الساحة لتمد نفوذها بالمنطقة بسهولة، فتركيا على سبيل المثال ضمن القوى الإقليمية المرشحة لتصبح قوّة تعديلية بالمنطقة، إذ تمتلك العديد من المقومات التي تؤهلها للعب دورٍ على الساحة الشرق أوسطية، وما يُرجّح ذلك مقارنة مقومات هاتين القوتين، حيث تتميّز تركيا بانتمائها إلى مناطق جغرافية متنوعة منها الشرق الأوسط، والبلقان والقوقاز، وآسيا الوسطى، أي أنّها دولةٌ ذات هوياتٍ إقليمية متعدّدة، ولا يمكن حصرها في هويةٍ واحدة([25])، وضَمِنَ ذلك لها التأثير الواضح على التوازنات الإقليمية والدولية في هذه المنطقة، بسبب تفاعلاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية، وبالتالي هي قوةٌ مهمة في المنطقة، ليس فقط بحكم موقعها كما أسلفنا وإنّما بحكم قوتها الاقتصادية المتنامية، وقدراتها العسكرية، وعلاقاتها الدولية المتنوعة، أمّا القوّة الناعمة في إيران أقلّ بكثير ممّا في تركيا، وصورتها قد تأثرت كثيرًا بعد انقضاضها على الاحتجاجات الشعبية التي أعقبت الانتخابات الرئاسية عام 2009م وصولًا إلى قمع الاحتجاجات الشعبية خلال السنوات القليلة الماضية، وآخرها احتجاجات نوفمبر 2019م.
وقد تضرّرت صورة إيران مؤخرًا كذلك بسبب دعمها لنظام بشار الأسد في سوريا، واقتصاد إيران هو الآخر لم ينجو من الضرر بسبب العقوبات الغربية، وكذلك بسبب سوء الإدارة([26])، ويستند تنامي الدور التركي إلى نظرية «العمق الإستراتيجي» التي تستند إلى أنّ موقع تركيا وتاريخها يُمكِّنها من التحرك الإيجابي في المجالات والاتجاهات كافة، وخصوصًا جوارها الجغرافي للحفاظ على أمنها وتحقيق مصالحها، وكذلك الاهتمام بالعمق التاريخي والجغرافي المتمثل في الدائرتين العربية والإسلامية([27])، ومن جهةٍ أخرى تعتبر تركيا مدعومةً من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على حساب إيران في منطقة الشرق الأوسط، فمن خلال تركيا تستطيع القوى الغربية تحقيق أهدافها في الشرق الأوسط والمنطقة العربية([28])، ومع ذلك تتعاون إستراتيجيًا مع روسيا على الرغم من عضويتها في حلف الناتو، ولذلك فتركيا اليوم في وضعٍ فريد يُمكِّنها من ممارسة دورٍ أوسع في الشرق الأوسط مقارنةً بإيران التي لا تصبُ التحولات الإقليمية والدولية لتكون القوة التعديلية المرجحة في المنطقة.
كذلك فإن دول الخليج ولا سيما المملكة العربية السعودية أعادت تموضعها بعد الأزمات التي حلَّت بالعالم العربي، ونظرًا للفوائض المادية وحالة الاستقرار والعلاقات الطيبة مع بقية القوى الإقليمية والدولية، فإنها قادرةٌ إلى تعزيز عزلة إيران، والضغط عليها من أجل تعديل سياساتها الإقليمية ذات الطابع التوسعي.
3. فُرَص تعديل إيران للوضع القائم
هذا ما تسعى إليه إيران الثورية منذ سنة 1979م وقد وجدت الوقت الملائم بعد احتلال العراق وأحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي»؛ لتطبيق مشروعها للسيطرة على الشرق الأوسط، وكما هو معروفٌ أنّ لإيران برنامجًا قديمًا ومتجذّرًا في المنطقة، ولها امتدادات اجتماعية وثقافية وديمغرافية واقتصادية، الأمر الّذي أدى إلى أن تقوم إيران تاريخيًا بلعب أدوارٍ إقليمية في عدة مواقع([29])، فقد تنوعت مرتكزات المشروع الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، إضافةً إلى الدور الأساسي والواسع الذي تقوم بلعِبه على المستوى الإقليمي، وذلك بالاعتماد على عددٍ من الأدوات والآليات التي قد تُمكّنها من بسطِ السيطرة وِفق الطريق الذي انتهجته.
ومن أهم هذه الأدوات «القوى المحلية العربية» المرتبطة بإيران مذهبيًا، حيث يسعي هذا المشروع لتكريس مكانة إيران كقوّةٍ إقليمية بالمفهوم الشامل للقوة، وذلك من أجل خدمة مصالحها العقائدية والفكرية، فضلًا عن تعزيز أمنها والحفاظ على نظامها السياسي، ومن أبرز هذه القوى حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية والميليشيات الشيعية في العراق، إضافةً إلى إصرار إيران على امتلاكها للتكنولوجيا النووية (السلمية كانت/ أو العسكرية)، كذلك توظيف «المرجعية الدينية في إيران» والسعي لهيمنةٍ مذهبية على الشيعة، وجذب قطاعاتٍ من مواطني دول الجوار الإيراني لمشروعها، لتحصيل أكبر عددٍ من الأتباع والمؤيدين للنظام في الخارج، والتأثير السياسي على كافة طوائف الشيعة، وهنا تظهر لنا قوّةٌ إضافية تخدم مصالح إيران وتوجهاتها بالمنطقة، فإيران يُمكنها تحريضُ الحركات الشيعية في دول الخليج العربي ضدّ أنظمة الحكم، ومن خلال إطلاق فتيل الحرب الطائفية في العراق، التي قد تجرُّ بالضرورة كافة دول الخليج، لذلك نجد الدول الخليجية والعربية ترفض أي حلٍّ عسكري تجاه الملف النووي الإيراني.
كما أنّ دافع إيران الأكبر في الاستمرار لتحقيق طموحاتها بالمنطقة بأن تكون قوّةً إقليمية، وحتى عالمية من خلال سياستها الخارجية، هو تقييمها الذاتي لقدرتها على الوجود والتأثير وفرض النفوذ على القوى الإقليمية المختلفة، بما فيها القوّة الإسرائيلية التي تواجه تحدياتٍ متعددة في سبيل تعديل ميزان القوة الإقليمي لصالحها.
لكن مع هذا تواجه إيران تحديًا فيما يتعلق برفض القوى الدولية والإقليمية لسلوكها التوسعي، ووجود منافسين لها في المنطقة، الأمر الذي قد يحدُّ من ظهورها كقوةٍ تعديلية لميزان القوى في الشرق الأوسط.
خلاصة
بناءً على ذلك، وبالاستناد إلى الرؤية الاستشرافية للبحث، يمكن القول إنّ الشرق الأوسط سوف يبقى على حاله هذا على المدى القريب والمتوسط، أي استمرارُ النزاع والصراع، وبالخصوص الصراعُ الطائفي، والّذي يُصطلحُ تسميته على الغالب بـ«الحرب الباردة الجديدة»، التي هي بالأساس مشتعلة بين محورين، السُنّي والشيعي، وخاصةً بعد الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من المنطقة؛ والأغلب أن إيران لن تتمكن في هذين المديين من أن تفرض نفسها كقوةٍ تعديلية في المنطقة، لكن على المدى البعيد فإن توازنات القوى الدولية والإقليمية قد تفرض وجودَ إيران كقوةٍ مؤثرة إلى جانب قوى أخرى كتركيا ودول الخليج بقيادةٍ سعودية، وربما عودة قوى أخرى إلى المشهد.
[1]- أندرياس فيرإيكه وآخرون، أطلس العلوم السياسية: النظريّة السّياسيّة- الأنظمة السّياسيّة – العلاقات الدّوليّة، ترجمة: سامي أبو يحيى،)لبنان: المكتبة الشرقية، 2012م (، ص169.
[2]– «نظرية توازن القوى وتوازن المصالح»، تاريخ الاطلاع: 29 مارس 2020م. https://bit.ly/3cthoXr
[3]- ثامر كامل الخزرجي، العلاقات السياسية الدولية: وإستراتيجية إدارة الأزمات، (الأردن: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، 2005م)، ص213-214.
-[4] المرجع السابق، ص29.
[5]– إسماعيل صبري مقلد، العلاقات السياسية الدولية: دراسة في الأصول والنظريات، ط4، (القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 2010م)، ص263.
-[6] يونس مؤيد يونس، أدوار القوى الآسيوية الكبرى: في التوازن الإستراتيجي في آسيا بعد الحرب الباردة وآفاقها المستقبلية، (الأردن: الأكاديميون للنشر والتوزيع، 2015م)، ص51.
[7]– جون ميرشايمر، مأساة سياسة القوى العظمى، ترجمة: مصطفى محمد قاسم، (الرياض: النشر العلمي والمطابع- جامعة الملك السعود، 2012م)، ص3.
[8]– Walter Russell Mead, «The Return of Geopolitics: The Revenge of the Revisionist Powers», Foreign Affairs, (Washington: the Council on Foreign Relations (CFR), Vol. 93, No. 3, May/June 2014(, pp. 01-07.
[9]– محمد حمشي، «الاستقرار النظمي: أيّ تأثيرٍ للتحولات الإقليمية على المغرب العربي؟»، مجلة السياسة الدولية، (القاهرة: مؤسسة الأهرام، ملحق المجلد 49، العدد 197، يوليو 2014م)، ص25.
[10]– فراس إلياس، «التوازنات الإستراتيجية العالمية في القرن الحادي والعشرين»، شؤون الأوسط، العدد 153، (لبنان: مركز الدراسات الإستراتيجية، 2016م)، ص31.
[11]– طلال عتريسي، «الاستدارة الأمريكية: موقع إيران ودورها الإقليمي في إستراتيجيات القوى الكبرى»، السياسة الدولية، العدد 199، (القاهرة: مركز الأهرام، يناير 2015م)، ص31.
-[12] المرجع السابق، ص31.
-[13] محمد السعيد عبد المؤمن، «المرونة الشجاعة: المقدرات الإيرانية في مواجهة احتمالات تحوّل تاريخي»، السياسة الدولية، العدد 199، (القاهرة: مركز الأهرام، يناير 2015م)، ص7- 8.
-[14] علاء عبد الحفيظ محمد، «مستقبل النظام الدّولي المحافظة والمراجعة والتدمير»، مجلة شؤون الأوسط، العدد 153،(لبنان: مركز الدراسات الإستراتيجية، ربيع- صيف 2016م)، ص55.
-[15] محمد حمشي، الاستقرار النظمي، مرجع سابق، ص24-25.
[16]– راجع: هيثم الكيلاني، «الشرق الأوسط في بعده الأمني المعاهدة السلام الأوروبية الإسرائيلية والاتفاقيات العسكرية التركية – الإسرائيلية»، في ندوة: مستقبل الترتيبات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وتأثيرها على الوطن العربي، معهد الدراسات العربية، القاهرة، 1988م، ص116-118. وفي: غازي فيصل، «الجانب الإقليمي في مشروع الأمن الشرق الأوسطي، مجلة آفاق عربية، العدد 3 (العراق: د.ذ.م.ن، 1994م)، ص9. وفي: مصطفى كمال محمد، «الأمن الإقليمي واستقرار الشرق الأوسط»، مجلة السياسة الدولية، العدد 126 (القاهرة: مؤسسة الأهرام، 1996م)، ص204.
-[17] محمد أيوب، «تركيا وإيران وعصر الانتفاضات العربية»، الاحتجاج والثورة والفوضى في الوطن العربي (محرر)، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 20 أبريل 2016م) ص365.
[18]– المرجع السابق، ص365.
[19]– مجموعة مؤلفين، «البرنامج النووي الإيراني الوقائع والتداعيات»، (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2007م)، ص19-20
-[20] محمد أيوب، تركيا وإيران وعصر الانتفاضات العربية، مرجع سبق ذكره، ص364.
[21]- المرجع السابق، ص361.
-[22] هيا عدنان عاشور، «الديناميكا السياسية وإدارة الأزمات الدولية: الإدارة الأمريكية لأزمة الملف النووي الإيراني نموذجًا (2000م-2012م)»، (القاهرة: رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الأزهر، كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية، قسم العلوم السياسية،2013م)، ص129.
[23]– Kenneth Pollack, «Iran ; three alternative future», Middle East Review Of International Affair, (Vol.10,N0 2, June 2006), pp 74 75-.
[24]- Josef.s.Ney and Kayhan Barzegar, Josef Ney On. “Smart Power in Iran – United State Relations”. https://bit.ly/312MgeV
-[25] عباس فاضل عطوان، العلاقات السعودية التركية (2002م- 2012م)، (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، 2015م)، ص42-43.
[26]– محمد أيوب، «تركيا وإيران وعصر الانتفاضات العربية»، مرجع سابق، ص.363.
[27]– حيدر علي حسين، «مستقبل الشرق الأوسط رؤية إستراتيجية»، مجلة مركز المستنصرية للدراسات العربية والدوليّة، العدد 45، (العراق: الجامعة المستنصرية، 2014م)، ص191.
[28]– أحمد نوري النعيمي، الوظيفة الإقليمية لتركيا في الشرق الأوسط، (الخرطوم: الجنان للنشر والتوزيع، 2010م)، ص53.
-[29] توماس مالتير، الجزر الثلاث المحتلة لدولة الإمارات العربية المتحدة، (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2005م)، ص133.