تسببت القطيعة بين العراق ودول الخليج العربي إثر اجتياح العراق لدولة الكويت في بداية تسعينيات القرن الماضي من جهة، واستمرار القطيعة لأكثر من عشر سنوات بعد الاجتياح الأمريكي للعراق من جهة أخرى، بتباعد كبير وفجوة عميقة بين العراق ومحيطها العربي.
لسنا بصدد إلقاء اللوم على طرف دون آخر أو محاولة البحث عن تفسيرات لأسباب القطيعة وإن كان البعض يراها حتمية وأحيانًا بسبب الموقف الأمريكي من الحرب العراقية، فحسب بعض المصادر، يُرفض الانخراط الخليجي في عراق ما بعد (٢٠٠٣) خاصةً خلال فترة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
هذا الجفاء العربي-العربي منح إيران فرصة كبيرة استثمرتها منذ الوهلة الأولى وبضوء أخضر من أمريكا، وبحسب كثير من المتابعين، عملت إيران على ملء الفراغ الموجود على الساحة العراقية، واستطاعت طهران تمكين تكتلات وأفراد في مفاصل الدولة العراقية بكامل تقسيماتها السياسية والاقتصادية والدينية، هنا نؤكد على حقيقة إستراتيجية مهمة وهي أن إيران لا تستطيع خلق الفراغ ولكنها تستغل أي ثغرة بسرعة كبيرة.
هذا الواقع العراقي لم يكن لقوة إيران وتخطيطها؛ ولكن بسبب العزوف العربي الخليجي الاختياري أو الإجباري عن الانغماس في الحالة العراقية التي كانت في أمسّ الحاجة لهم، ومع كل هذا الغياب الخليجي والحضور الإيراني المكثف والممنهج، لا يمكن للشخصية الإيرانية بكل التاريخ الذي تجره معها في علاقتها المترنحة مع العراق أن تسيطر على العقلية العراقية الجموحة والمتمردة فكريًا وقوميًا ووطنيًا، مقابل الآخر بشكل عام والآخر الإيراني على وجه التحديد.
شخصيًا زرتُ العراق مرتين خلال أقل من سنة إحدى تلك الزيارتين كانت إلى بغداد في (ديسمبر ٢٠١٧) والأخرى في (نهاية أكتوبر 2018) إلى مدينة أربيل بإقليم كردستان، وفِي ظل حكومتين مختلفتين، وتوجهين سياسيين وقوميين مختلفين أيضًا، من خلالها وصلت إلى قناعة كاملة أنّ هناك رغبة كبيرة على المستوى الشعبي وعلى مستوى النخبة المثقفة والطبقة السياسية أيضًا لتعميق العلاقات مع دول الخليج العربي من جانب، وتذمر يظهر تارة ويختفي تارة؛ لأسباب مختلفة، من الجانب الإيراني والنظرة الإيرانية تجاه العراق، سياسيًا، واقتصاديًا وقوميًا، وفي المقابل هناك جدية كبيرة من الجانب الخليجي –من وجهة نظري ومن خلال متابعتي- في بناء علاقات إستراتيجية على كافة الأصعدة مع العراق.
فأين يكمن الخلل إذا؟! يبدو أنّ هناك فجوة لم يستطع الجانبان ردمها أو ربما لم يتم اكتشافها واستيعابها بشكل جيد، هذه الفجوة ظلت قائمة في الغالب حتى مع وجود بعثات دبلوماسية قد تكون نشطة وتقوم بدور تواصلي جيد لكنها في نظري لم تستخدم الأدوات المثلى في التعاطي مع الحالة العراقية.
وأزعم أن دولةً مثل العراق، بتاريخها وثقافتها وهُويّتها وتكوين شخصيتها الوطنية والقومية المتنوعة، تحتاج إلى شخصية دبلوماسية تركز على هذه الجوانب بعمق كبير، وتتفاعل بشكل دوري مع النخب العراقية بكافة أطيافها، فمن المستبعد أن تقوم الشخصية الدبلوماسية التقليدية بهذا الدور لأسباب منطقية جدا. والذي أقترحه هنا هو:
1. إعادة النظر في آلية اختيار السفراء الخليجيين في العراق.
2. دعوة المثقفين العراقيين والنخب العلمية لحضور المؤتمرات العلمية والمهرجانات الثقافية ومعارض الكتب ونحوه.
إذ إنّه من الأفضل -وعلى ضوء ما تمت الإشارة إليه-هو اختيار سفراء من الشخصيات المثقفة «Intellectuals» في الجوانب التاريخية والأدبية والثقافية بمفهومها العام، إنّ هذه الشخصيات تستطيع التوغل بعمق في المجتمع العراقي وبناء جسور ثقافية متينة وممتدّة بين الجانبين عبر تنظيم مناسبات وفعاليات مشتركة سواء في العراق أو في المدن الخليجية، كما أنّ شعوب هذه المنطقة تمتلك مشتركات ثقافية وحضارية وتراثية وأدبية تتجاوز بمراحل كبيرة كل العلاقات السياسية سواء أكانت سلبًا أو إيجابًا، ولذلك تبقى مثل هذه الأواصر راسخة في الذهن والوجدان حتى وإن تراكم عليها غبار الخلافات السياسية.
أعتقد أنّ الشخصية المثقفة إذا ما تسنَّمت البعثات الدبلوماسية الخليجية في العراق؛ فإنها سوف تخلق فارقًا كبيرًا في تطوير العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الجانبين وربما في فترة وجيزة جدًا.
إنّ العراق عمقها يكمن في محيطها الخليجي العربي، والرغبة الشعبية والسياسية حاضرة في تحسين وتطوير العلاقات الثنائية، لكن دفع هذه العلاقات إلى الأمام يحتاج إلى بعد ثقافي إلى جانب البعد السياسي والدبلوماسي والعلاقات الاقتصادية والمشاريع المشتركة، وما لم يتم الاهتمام بهذا البعد المهم؛ فإن الجانبان قد يخسران سنوات كثيرة في العلاقات بينهما إذ لا ينبغي خسارتها بل لابدّ من استثمار الفترة الراهنة لحرق الكثير من المراحل في الاندماج بين العراق ومحيطها العربي.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المعهد