من النظريات المهمّة في الفقه الشيعي والتي لها امتدادات داخل الفكر السياسي الشيعي عمومًا والإيراني خصوصًا، نظرية الأعلميَّة، ويُقصد بها الشخص/الفقيه الأعلم في أمور الدين والأقدر على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، وهو الأدقّ في فهم مصادر الاستنباط، والذي يحتل مكانة خاصّة وسط المقلدين الشيعة، بحيث يصير نائبًا عن الإمام المعصوم في أمور الدين والدنيا.
وحسب المرجع السيستاني فإنّ تعيين الأعلم يُرجع فيه إلى أهل الثقة من أهل الخبرة والاستنباط المطلع، ولو إجمالًا، على مستويات من هم في أطراف شبهة الأعلميَّة في الأمور الدخيلة فيها[1]. وقد حصر بعض فقهاء الشيعة القدرة في دائرة الحلال والحرام فقط، في حين توسع آخرون وجعلوها في جميع المعارف الدينية، لا خصوص مسائل الحلال والحرام، وما يُسمى بالأحكام العملية المصطلح عليها في الحوزات العلمية بالفقه[2]، أي إنّ معايير الأعلميَّة مختلَف عليها بين فقهاء الشيعة، ما بين موسِّع ومُضيِّق.
وهذه النظرية هي التي تجري عليها العوائد والأعراف الشيعية منذ عقودٍ خلت، وصارت هي السمت العام التقليدي للمرجعية الذي لا يمكن القفز عليه بسهولة، وسط قبول جماهير المقلدين، بيد أنّ القيادة الإيرانية اضطرت في أثناء الثورة وبعدها إلى القفز على نظرية الأعلميَّة، فعندما احتاجت إلى تجاوزها بعد رحيل الخميني -إذ كان من المفترض أن تؤول القيادة إلى المرجعية العليا والممثلة في ذلك الوقت في مرجعية آية الله كلبايكاني- آثر النظام الإيراني احتكار القيادة السياسية في شخصٍ محسوبٍ على الثورة وأحد المقربين من الخميني. أو بعبارة أوضح: لم يكن النظام الإيراني على استعداد أن يعطي المرجعية الدينية/الحوزة زمام قيادة الدولة الإيرانية، ومِن ثَمّ فإنّ كل ما تم من تنظير وتفلسف حول الولاية العامة للفقيه تمّ القفز عليه بتولية «حجة الإسلام» علي خامنئي خلفًا للخميني، بل تمّ القفز عليها واقعيًّا في عهد الخميني نفسه، إذ إنه لم يكن على رأس هرم المرجعية بتراتبيته المعروفة وقتئذ، لكنّ النظام مرّر مرجعيته بدعوى شعبيته الواسعة ورضا الناس ومقبولية المؤمنين، وأعمل سيف السلطة وأدواتها لتجريف الأرض من المراجع المناوئين أو حتى المنافسين.
وفي هذه الدراسة نسعى لشرح موقف النظام الإيراني من نظرية الأعلميَّة المتجذرة في الفكر الشيعي وموقف النظام الإيراني منها الذي بنى عليها شرعية الخميني بعيد الثورة مباشرة، ثمّ كيف قفز عليها بعد وفاة الخميني بتولية علي خامنئي، وما مبرراتهم الفقهية والسياسية تجاه ذلك الفعل؟ ثمّ ما مستقبل نظرية الأعلميَّة وهل ستكون هي المحدّد الرئيسي لمن يخلف خامنئي، أم أن هناك محدّدات أخرى متداخلة مع نظرية الأعلميَّة؟!
فنحاول هنا رسم قراءة سوسيولوجية آيديولوجية بناءً على المعطيات والقراءات المتعدّدة في طروحات فلاسفة النظام ورجال المرجعية، وكذلك الفعل السياسي على الأرض.
وتكمن أهمية هذه الدراسة في أنها ربما كانت من الدراسات القليلة التي تتناول مسألة خلافة المرشد الأعلى من زاوية نظرية الأعلميَّة، لا من منظور وضعية الجيش والحرس الثوري، وتوازنات القوى السياسية الداخلية والموقف الدولي والإقليمي، لأنّ هذه التوازنات تأتي لاحقًا بعد مسألة الأعلميَّة، لا سيما أنّ الأعلميَّة تدخل كمحدّد رئيسي حتى في ظلّ تجاذب النخبة الإيرانية حول تسمية خليفة القائد، إذ لا يمكن تجاهل مسألة الأعلميَّة في عملية اختيارهم وتوازناتهم، لمركزيتها في إيران ما بعد الثورة، ومركزيتها في الفقه الشيعي، وأهميتها في الدستور الإيراني والحياة السياسية بصفة عامّة، وكذلك بالنظر إلى عناصر الهيئات والمؤسسات المنتَخِبة والمرشِّحة للولي الفقيه بوصفهم عناصر مؤدلجة دينيًّا ومذهبيًّا، تؤمن بمركزية نظرية الأعلميَّة، وهو ما نحاول تفكيكه في هذه الدراسة.
أولًا: مبدئية الأعلميَّة
يجب الإجابة عن مبدئية الأعلميَّة من الأساس، فهل هناك أعلميَّة؟ بمعنى هل تسلم من الاستدراكات والمؤاخذات المنهجية والعلمية؟ وذلك بغض النظر عن تناقضها مع ولاية الفقيه من جانب، ومع واقع التصدر للمرجعية من جانبٍ آخر كما سيأتي.
تحرر عدد من فقهاء الشيعةِ من نظرية الأعلميَّة، بوصفها نظرية خلافية لا إجماعية، إذ لم تكن موجودة في العصر الشيعي الأول، ولم تكن متداولة -إلى حدّ كبير- قبل العصر الصفوي وبداية تمركز المؤسسة الدينية الشيعية.
فالمرجع محمد حسين فضل الله يقول في نقد الأعلميَّة: «إنني لا أقول باشتراط الأعلميَّة في المجتهد الذي يرجع الناس إليه في التقليد، لأنه لا دليل في نظري على اعتبار الأعلميَّة، بل صحّ عندي أنّ الشرط هو الاجتهاد والخبرة المنطلقة من الممارسة الطويلة، كما أنني لا أرى واقعية للأعلميَّة، فليس هناك في العالم كلّه في أي علم من العلوم من يمكن أن يُشار إليه أنه أعلم الناس جميعًا في هذا المجال أو ذاك، وقد يجري التفاضل بين مجتهد وآخر في بعض العناصر والخصائص التي يتميز بها في اجتهاده أو ما إلى ذلك»[3].
وحسب المرجع الديني كمال الحيدري فإنّ الشياع ليس دليلًا على حجية الشيء، وشهرة مرجع ما ليست دليلًا على أعلميَّته[4]. كذلك انتقد الحيدري عدم وجود معايير ثابتة لتحديد الأعلميَّة، فهناك عشرات الألوف من العلماء ومئات المراجع، ومن المحال أن يقوم أهل الخبرة والثقات بتتبع مشاريع وطروحات كل هذا العدد من المراجع والحكم على رسائلهم العلمية[5]. ويمكن القول إنّ الحيدري عمل على تجذير المسألة والنظر في الأُسس والمباني، لا أخذ القواعد مُسلّمة من التراث الشيعي والميراث الحوزوي، فحاول ترسيخ مبدأ خلافية القاعدة لا إجماعيتها. ولذا فقد تناول مسألة الأعلميَّة في أصل تكوينها، وسأل عن مصداقيتها ومبدئية القول بها. فالأعلم عند الأخباريّين يختلف عن الأعلم عند الأصوليّين، والأعلم عند من يعتمد الدرس الفلسفي والعرفاني غير الأعلم عند من لا يعتمده، وهكذا، بل إنّ الأصولي في نظر الأخباري ليس فقط لم يصل إلى درجة الأعلميَّة، بل لم يصل إلى درجة الاجتهاد، وكذلك الأخباري في نظر الأصوليّ!
ولذا وكما يقول المرجع الحيدري: «فإنّ هذه المسائل وما ذُكرت في الرسائل العملية في باب الاجتهاد كلها مبنية على مجموعة أوهامٍ لا أساس لها. أعلمُ على ماذا؟ على أي قواعد؟ على أي أُسس؟ على أي منطلقات؟»[6]. أي إنه يؤكد على خلافية النظرية وأنه لا يوجد إجماع علمائي شيعي عليها.
وقريبًا من طرح الحيدري يذهب المفكر الشيعي حيدر حب الله، إذ يُبطل نظرية الأعلميَّة من جذورها، لأن الأعلميَّة في نظره تتفاوت ولا تجتمع في شخص واحد، فالأعلم في الأصول غير الأعلم في الفقه، غير الأعلم في التاريخ والأدب وهكذا، وكل هذه الحقول من عوامل التأهل والتصدر للمرجعية، بل إنّها تتفاوت داخل مباحث العلم الواحد، ومِن ثَمّ فإنّ الحلّ الأمثل عند حيدر حب الله هو التوجه لتقليد كل عالِم مشهود له بالعلم والفقاهة، وله وزنه العلمي والاجتهادي، بحيث يُصنَّف في المستوى العلمي الرفيع، ويتمتع مع ذلك بالوعي السياسي والاجتماعي، وبالأفق المنفتح على النظريات الجديدة في عالم الفكر والفقه الإسلاميين، وبالحضور الميداني في الحياة، وهو طرح جديد وقريب من الواقع الاجتهادي السنّي في صورتيه الإحيائية والإصلاحية[7].
أمّا الشيخ الحكيمي -أحد مؤسسي المدرسة التفكيكية الإيرانية- فلا يعدّ أي معمم عالِم دين، بل ويسمي بعض المعممين «رجالَ دين مزيّفين»، وليس كل من يمتلك رسالة عملية مرجعًا دينيًّا، إنما هناك جملة من الخصائص والميزات -غير الفقه- لا بد من توفرها في المرجع[8]. لكن هذه الخصائص عند الحكيمي لم تصل إلى درجة المأسسة/المؤسساتية التي دعا إليها مثل باقر الصدر ومرتضى مطهري، على خلاف بينهما في المشروع والرؤية، فلم يتطرق الحكيمي وربما غيره أيضًا من دعاة الإصلاح إلى انتخاب المرجع من هيئة عليا، أو صيرورة المرجع مرجعًا بعد مؤهلات ودراسات واختبارات معيّنة وليس بمجرد التصدر وامتلاك الرسالة العملية، بل تطرق الحكيمي إلى «الورع» و«الوعي الزماني» و«التفاعل مع الواقع»، وهي عناصر نسبية مختلف عليها، فلأي مرجع أن يزعم الوعي الزماني والتفاعل مع الواقع عبر طريقته وأسلوبه، فاللغة السائلة والهلامية للحكيمي لم تؤطر لقواعد حاكمة ومؤسساتية وصارمة يمكن أن تحلّ إشكالية التصدر للمرجعية أو دعوى الأعلميَّة بخلاف ما هو في نفس الأمر. ويذهب الحكيمي إلى أنّ الأعلميَّة لا تكفي، إذ إنّ هناك أعلميَّة مقرونة بتخلف وانعدام وعي لدى المتصدر للمرجعية[9]، ولكنه لم يوضّح ما المراد بالتخلف وانعدام الوعي الزماني، وهل هي مصطلحات منضبطة أصوليًّا ومجمَع عليها، أم هي مجرد محاولة للتأطير القواعدي بعيدًا عن الإجماع العلمائي والمقبولية الحوزوية؟
ولكن بالنظر إلى هذه التقريرات التي نقلناها عن بعض فقهاء الشيعة حول عدم اشتراط الأعلميَّة، نجد أنّ المسألة لم تُحرر من كل جوانبها، فلم نجد تفريقًا بين الأعلم ظاهرًا بالنسبة إلى اعتقاد المقلّد أو غلبة ظنّه، وبين الأعلم في نفس الأمر الذي لم يطلع عليه أحد، ولا يكاد أحد من أهل الخبرة يجزم به، والمقلّد إنما يتبع غلبة ظنّه وليس مأمورًا بالبحث والتفتيش عمّا هو في نفس الأمر. قد يستدرك على النافين للأعلميَّة بهذه الحجّة، وهي وجيهة بالنسبة إلى قواعد أصول الفقه الشيعي والسنّي على السواء. فكلّ مرجع يعتقد في نفسه أنّه الأعلم، وكلّ مقلّد يعتقد أنّ مرجعه هو الأعلم، لكن لم يسَع أحدًا من المراجع ولا أحدًا من المقلدين حملُ غيره على مذهبه ومشربه الذي يعتقده لأصالة المبنى الاجتهادي، إذ إنّ فكرة فتح باب الاجتهاد تضمن هذه التعدّدية المرجعية، لا شكّ. لكن يتأتى الإشكال عندما تدخل عوامل أخرى ومؤثرات خارجة عن الحوزة لتحديد المرجعية العليا، إذ يتداخل في تحديدها وتقييمها واقعيًّا مؤثرات إعلامية وجماهيرية وسياسية.
1- المؤثر السياسي
إذْ تتدخل السلطات السياسية في كثيرٍ من الأحيان لحمل الناس على تقليدِ مرجعٍ بعينه، عن طريق «صناعة أعلميَّة» أو «إنتاج مرجعية» للفقيه الذي تريده السلطة السياسية، وصناعة الأعلميَّة تتداخل فيها السياسة والإعلام والاقتصاد وعدد من العوامل والمؤثرات المعقدة والمتشابكة. ففي عهد الصفويين خَلَّقت الدولة الصفوية جهازًا دينيًّا لعدد من الأغراض كالهيمنة على الجماهير وشرعنة النظام السياسي، ولضمان احتكار وتأميم المؤسسة الدينية لصالح الدولة، وكان على رأس الجهاز الديني شيخ الإسلام، المنصب الذي أول من تولاه الشيخ الكركي [ت: 940ه=1533م]، في محاولة من الدولة الصفوية لخلق مركزية تقليد شيعية، لإحكام السيطرة على شيعة الداخل والخارج إلى حدّ كبير، وهو ما نجح فيه الصفويون، إذ إنّ هذا النظام المرجعي شديد المركزية لا يزال هو المعتمد حتى اليوم[10].
ويتجلى العامل السياسي بصورة أكبر في عهد ما بعد الثورة الإيرانية، فعلى سبيل المثال كان المرجع الديني آية الله شريعتمداري هو المرجع الأعلى في إيران وكان مسؤولًا عن إدارة الحوزة مع زميليه مرعشي نجفي وكلبايكاني[11]، وسرعان ما تدخلت السلطة السياسية وفرضت الإقامة الجبرية عليه ليتصدر الخميني بالمرجعية الدينية والسياسية[12]، وكذلك حدث مع محمد الشيرازي وغير واحد من المراجع الكبار[13].
وبعد وفاة الخميني دخل العامل السياسي مرة أخرى كأداة من أدوات التأثير في صناعة الأعلميَّة، وتحديد المرجعية، إذ وضع النظام الإيراني كل ثقله خلف خامنئي ليجمع بين المرجعية الدينية والقيادة السياسية. فبعد وفاة الخميني لم يكن خلفه خامنئي في مرتبة علمية وحوزوية تؤهله لشغل موقع «الولي الفقيه» الذي يُشترط فيه أن يكون مرجعًا أعلى، أي في مرتبة «آية الله»، في حين كان خامنئي في ذلك الوقت في مرتبة «حجة الإسلام»، وهي مرتبة دُنيا في سلّم المرجعية، وكان هناك مراجع كُثر آخرون في مرتبة «آية الله»، لكن تمّ الزجّ بخامنئي في ذلك الوقت في منصب القيادة من قبل لوبيات المصالح والنخبة السياسية والعسكرية والدينية. فقد رأى حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني -الرجل الأقوى في ذلك الوقت- أنّ منح خامنئي القيادة سيُخلّص إيران من النائب القوي المعزول آية الله منتظري، الذي عُزل قبل وفاة الخميني بفترة وجيزة، كذلك للحفاظ على مصالح هذا الفريق في ذلك الوقت، وربما ظن رفسنجاني أنّ من السهل إدارة خيوط اللعبة من خلف ستار، بصفته هو من أوصل خامنئي إلى سُدّة القيادة، ولقوة شخصيته السياسية والإدارية، أو ربما أيضًا كان تقاسمًا ناعمًا للسلطة بين الصديقين رفسنجاني وخامنئي، للأول منصب الرئاسة الذي تعزز دوره بعد التعديلات الدستورية لعام 1989م، وللثاني منصب المرشد الأعلى[14].
على أي حال، بالمعايير والشروط الفقهية لم يكن خامنئي يستحقّ منصب الولي الفقيه؛ إذ إنه حسب المفكر الشيعي هاني فحص «كان غير خامنئي اليوم، كان مُثقفًا مطّلعًا على نتاجات العالم الثقافية، وكان البُعد الثقافي عنده أهمّ من البعد الفقهي. واجتهاده الفقهي أو أهليته لولاية الفقيه ليست مُسلّمة وإنما رواية رواها رفسنجاني البراغماتي الأصلي. هو روى أن السيد الخميني قال إن السيد خامنئي مؤهّل للقيادة، وبقي من يشكّ في أصل اجتهاده. أعتقد أنه بالمعايير الكلاسيكية الصارمة قد يكون ذلك صحيحًا لكنه لاحقًا اشتغل على نفسه فقهيًّا وتجاوز هذه الحالة وبقي عاقلًا وفهم أن مرجعيته لا تمشي. وإن كانت فتواه تُلزِم الجميع في إيران، فذلك عائد إلى قوة السلطة الحاكمة. حتى حزب الله مرّ بمرحلة لم يكن قادرًا فيها على فرض لا الخميني ولا خامنئي، لكنه الآن ارتاح لأن الحزبية أصبحت أكثر تماسكًا وأكثر قدرة على الإلزام، وأصبح عندنا حزب ستاليني بالمعنى الكامل»[15]. ولكن هذا الاستحقاق إنما تمّ لمؤثرات خارجية غير الشروط الفقهية والحوزوية.
ولكي يتمّ تمرير مرجعية خامنئي تمّ التلاعب في مواد الدستور عبر التعديلات الشهيرة سنة 1989م، وسيأتي تفصيلها لاحقًا، إلا أنّ المؤكد أنّ خامنئي لم يستسلم لوضعه الجديد كونه قائدًا سياسيًّا فقط، إذ إنّ «ولاية الفقيه» تقتضي شمولية الديني والسياسي، وإلاّ فهو إقرار بعدم أهليته للمنصب، ومِن ثَمّ حاول عبر أدواته مرارًا وتكرارًا الانقضاض على المرجعية الدينية، وقام بمناورات كثيرة في سبيل ذلك. إذ بعد وفاة الخميني ظلّ آية الله كلبايكاني على رأس المرجعية الدينية، وهو ثالث ثلاثة تولوا إدارة شؤون المرجعية بعد وفاة بروجردي سنة 1961م كما قلنا، لكنه كان أَبْعَد عن السياسة بخلاف رفيقه شريعتمداري. وهو وإن كان بعيدًا عن السياسة وضد نظرية ولاية الفقيه إلاّ أنّ هذا أفاد النظام الإيراني من جانب آخر، وهو عدم بروزه كمُعارضٍ لسياسات النظام من داخل الحوزة. فكان قادة الجمهورية الإسلامية في ذلك الوقت أمام خيارين، الأول: إمّا تعيين رجل دين محسوب عليهم يفتقر إلى المؤهلات التقليدية مرجعًا، والثاني: السماح لشخص من خارج دائرتهم بشغل هذا الموقع. ويُشكل الخيار الثاني حسب لندا والبرغ «خطرًا نظرًا لقدرة الشخص الذي يُعترف به مرجعًا على معارضة سياسات الحكومة بحصانةٍ نسبية”»[16]، وبغض النظر عن خطورة بروز مرجع ديني موازٍ لقيادة الولي الفقيه أو أعلى منها حوزويًّا إلاّ أنّ الثورة بعد استتبابها للخميني كان من أهدافها اندماج القيادة الدينية بالسياسية بوصفها دولة إسلامية على خلاف ما كانت عليه دولة الشاه. وكان هذا إشكالًا كبيرًا يواجه النخبة الحاكمة، وسيناريو تصدّر الخميني غير قابل للتكرار في هذه الحالة -حالة خامنئي بعد وفاة الخميني-، فعندما تجاوز الخميني المراجع الكبار [شريعتمداري وكلبايكاني ومرعشي نجفي] إنما تجاوزهم بحكم الحالة الثورية التي مرت بها الدولة والجمهور، وبحكم كاريزميته، ولذا فقد وقف مرجعية الثلاثي الذي كان يُدير المؤسسة الدينية، وبعد وفاته عاد اسم كلبايكاني مرة أخرى ليتصدر المرجعية تلقائيًّا بحكم سنّه وعلمه وبحكم ما فقده بسبب صعود الخميني المفاجئ. فإعادة تكرار هذا السيناريو مع خامنئي كانت صعبة للغاية، إذ إنّ خامنئي ليس في مرتبة آية الله، ولا يملك كذلك كاريزما الخميني، علاوة على وجود أقطاب آخرين في النظام الإيراني أصابهم القلق البالغ من جمع خامنئي بين المرجعية الدينية والسياسية، وعلى رأسهم مهندس النظام في ذلك الوقت هاشمي رفسنجاني.
ومن أجل هذه التعقيدات لجأ النظام إلى عامل الوقت، فالوقت كفيل بإفراغ الساحة من المراجع الكبار في المقام والعمر، على أن يستفيد النظام -بالتوازي مع ذلك- من عامل الوقت في تهيئة الرأي العام لقبول خامنئي في حالة اختفاء كلبايكاني -الذي يحظى باحترام حوزوي كبير- من المشهد الديني، وعمل النظام على ترميز خامنئي، وصناعة أعلميَّته عبر الزعم بأنّه تفقّه ووصل إلى درجة الاجتهاد.
وبالفعل بعد وفاة كلبايكاني سنة 1993م دعمت الحكومة آية الله آراكي -دعمًا تكتيكيًّا ومرحليًّا- رجل الدين المعمّر في ذلك الوقت، وكان من السهل التحكم به نظرًا لكبر سنّه، وكونه محسوبًا على النظام. وبعد سنة واحدة من وفاة كلبايكاني مات آراكي سنة 1994م. وفي ذلك الوقت شعر النظام أنّ الفرصة مناسبة لطرح اسم خامنئي مرجعية عليا، أي استدماج المؤسسة الدينية بالقيادة الحكومية[17]، أي العودة إلى المشهد الذي كان سائدًا في عهد الخميني.
2- المؤثر الأمني
للدولة أدواتها الأمنية الباطشة، وقد استعملت الدولة هذه الأدوات في مراحل كثيرة، أهمها عندما أرادت طرح خامنئي كمرجعية دينية بعد وفاة آية الله آراكي، هدفت الدولة إلى قمع المعارضة الدينية من داخل الحوزة، التي يُتوقع منها معارضة هذا الطرح.
وبحلول سنة 1995م كان المتقدمون للوظائف الحكومية يُسألون عن مرجع التقليد المفضَّل لديهم، والجواب اللازم من دون شكّ هو خامنئي[18].
وقبل ذلك وفي عهد الخميني عملت الأجهزة الأمنية للدولة على تلجيم المراجع المنافسين للخميني، وكذلك تقليل نسبة المقلدين لغير الخميني[19]، فكانت الأجهزة الأمنية متمرسة وذات خبرة عميقة في هذا المسار.
وحسب لندا إس والبرغ فإن الحكومة تمتلك أساليبها الخاصة في معاقبة من يصرّون على اتباع مرجع دين لا يحظى بدعم الحكومة، أو مصادقتها، وكان الشخص الذي يثبت اتباعه لآية الله منتظري -على سبيل المثال- يعاقب بدفع غرامة مالية إلى دائرة الضرائب[20].
وهناك مجموعة من المؤثرات الأخرى كالإعلام والمال[21] وما شابه ذلك، بيد أنّه من الملاحظ أن جميع تلك المؤثرات عائدة إلى السلطة السياسية.
هنا تبدو إشكالية تعامل النظام الإيراني مع مسألة الأعلميَّة، إذ كان بوسعه أن يتخلّص من النظرية بكاملها، ويُبطلها كما فعل إصلاحيون آخرون، لكن ليس هذا بالأمر السهل، إذْ إنّ الخميني نفسه رجل من رجال المدرسة التقليدية وتصدّر للمرجعية بحجة الأعلميَّة، ومِن ثَمّ فإنّ الإشكال الذي واجهه ولا يزال يواجهه النظام هو إسناد أمر القيادة للأعلم! ماذا لو كان هذا الأعلم ليس من خطّ الثورة ولا من رجال النظام؟ هنا تتدخل السياسة كمحدّد ومؤثر خارجي وتحسم الأمر لصالح غير الأعلم، أي عملية صناعة الأعلم إعلاميًّا وجماهيريًّا.
ثانيًا: تناقض نظريتَي الأعلميَّة وولاية الفقيه
بنظرة سريعة في سياقات ومفاهيم النظريتين: الأعلميَّة، وولاية الفقيه، نجد أنّ بينهما تناقضًا ملموسًا على مستوى التنظير وعلى مستوى التطبيق.
فعلى مستوى التنظير فإنّ الأعلميَّة تقتضي أنْ يتولى شؤون الشيعة المرجع الأعلى الأعلم في أي مكان بالعالم. فقبل الثورة الإيرانية كان محسن الحكيم -المرجع الأعلى في النجف- مرجعًا ليس لشيعة النجف أو العراق فحسب، بل لشيعة العالم قاطبة، وكذلك فإنّ الخميني يؤمن بنفس الفكرة، فكرة عالمية المرجع وأعلميَّته، بيد أن الافتراق يتأتى عندما يكون المرجع المؤهل الذي استوفى شروط التصدر عراقيًّا ويعيش بالنجف مثلًا، ففي تلك الحالة من المحال أن يتولى شؤون الدولة الإيرانية. فالمرجع الإيراني يريد أن يكون مرجعًا لشيعة العالم جميعًا[22]، و«ولي أمر المسلمين» كما يُطلَق عليه، بيد أنّ المرجع العراقي أو الأفغاني أو الباكستاني لا يحقّ له الولاية المطلقة بقراءتها الخمينية، ولا تنسحب صلاحياته لتشمل الجمهور الإيراني. وشهدت الساحة الشيعية صراعًا بين المراجع بسبب هذا التناقض، فوجدنا صراعًا بين الخوئي والخميني، وما زال مستمرًّا بين النجف وقم حتى اليوم. نعم، ربما تكتنف هذا الصراع محدّدات أخرى كمحدّدات اقتصادية وآيديولوجية، بيد أنّ المحدّد الرئيسي فيها بسبب تباين المنطلقات بين الفريقين.
هذا التناقض يتجلى عندما أراد خامنئي عبر أدوات الدولة والسلطة التصدر للمرجعية وجابهته معارضةٌ من حوزة قم وقتئذ، فأعلن أنّه لم يقترح ترشيحه مرجعًا داخل إيران، لكنه أعلن عن نفسه مرجعًا في باقي أنحاء العالم الشيعي، استنادًا إلى تفوقه على المجتهدين الآخرين لجهة سعة اطلاعه على الشؤون العالمية، وكان هذا خطأ دبلوماسيًّا كبيرًا، أدى إلى تساؤل الشيعة خارج إيران عن السبب في السماح للإيرانيين باختيار مرجعهم الديني، في الوقت الذي يُحرم فيه الآخرون من هذا الحق[23].
فالإيراني -بعبارة المفكر الشيعي هاني فحص- «استيلائي، لا يُحبّ أن يكون له دور وإنما نفوذ. الدور يعني الشراكة، الدور يشترط الآخر، والنفوذ استتباع واستلحاق، زبائني ريعي يشتري الرقبة والقرار، يهمّه الوصول إلى هدفه، هو براغماتي جدًّا ومسكون بهاجس الإمبراطورية التي يريد استعادتها بمنطق القوة الفارسية أو الشيعية أو الإيرانية مقابل الكثرة العربية»[24].
أيضًا نلمس تناقضًا واضحًا وملموسًا في نظرية ولاية الفقيه المطلقة، إذ تقتضي النظرية أن يكون للمرشد الإيراني هيمنة وسيطرة على عموم الشيعة، بل عموم المسلمين في العالم، فلا تؤمن بالمحلية، أو الدولة الوطنية، وهذا قريب جدًّا مما يُسمّيه بعض الإسلاميين «أستاذية العالم»، غير أن هذه الأستاذية يجب أن تكون بيد المرشد الأعلى فقط، لا بيد غيره حتى من مراجع الشيعة، ومن أجل ذلك سعت السلطة دائمًا إلى استدماج القيادتين، السياسية والدينية.
ومرجع ذلك التناقض الذي تعيشه القيادة الإيرانية هو عدم رغبتها في الفصل بين المرجعية الدينية والقيادة السياسية، وقد دعا لفصل الطرفين عدد من مراجع الشيعة وفقهاء إيران مثل محمد الشيرازي ومنتظري وغيرهما، لكن لم تلقَ هذه الدعوة اهتمامًا عند النظام الإيراني.
وعلى مستوى التطبيق فإنّ النظام الإيراني قد قفز على نظريتَي الأعلميَّة وولاية الفقيه بُعَيْد وفاة الخميني، فقد عمل النظام على تولية خامنئي رغم أنه لم يكن الأعلم -كان بمرتبة حجة الإسلام ولم يكن آية الله- وهذا مخالف للأعلميَّة من حيث عدم كونه مرجعًا أعلى، ومخالف لولاية الفقيه التي اشترطت المرجعية في القائد وتقتضي هيمنة القائد الإيراني على عموم الشيعة في العالم. تبقى هذه التناقضات حتى في ظل التعديلات الدستورية، لأن التعديلات وإن قللت من شروط القائد الأعلى إلا أنها لم تحدّ من صلاحياته المطلقة التي لا يمكن أن تتوفر سوى للمرجعية العليا، بل زادت منها. كذلك فإنّ خامنئي لا يملك رسالة عملية على غرار الرسائل العملية للمراجع الآخرين، بل إنّ رسالته العملية شُكِّك في طريقة رصفها وتبويبها ومضمونها، بكونها مخترعة في طريقة العرض وليست كافية في بيان منهجيته وأعلميَّته.
هناك تبايُن آخر بين الأعلميَّة والمرجعية، فالأعلميَّة تفترض أنْ يكون الأعلم من الفقهاء هو المرجع، وهو المُقَلَّد، في حين أنّ واقع التصدر للمرجعية ليس كذلك، فالمرجع الأعلى -واقعيًّا- هو من يُقلّده العدد الأكبر من الناس، أو من العوامّ حسب المصطلح الدارج في أصول الفقه السنّي، وهو الذي يملك من الموارد المالية ما لم يملكه المراجع الآخرون، بمعنى أنّ الذي يُحدّد المرجع الأعلى ليس الأعلميَّة، بل المال والنّاس. وذلك لا شكّ يفتح الباب أمام اختراقٍ كبير في المرجعية، بل إنّ مرتضى مطهري نفسه أبدى قلقه من سطوة العوامّ على شؤون المرجعية، وتزلّف الفقهاء إلى الناس والتجار والبازار. هذا الخلل أدى إلى اختراق الدولة للمرجعية، وتأميمها، أو التحكم في مساراتها.
هذا الإشكال نابع من طبيعة المرجعية وتشكّلها، وبنائها المعهود اليوم، هذه الطبيعة اصطدمت بنظرية ولاية الفقيه، التي لا تتماشى وطبيعة المرجعية وإرثها التاريخي.
ثالثًا: التصدر للمرجعية
مسألة التصدر للمرجعية مسألة معقدة، وليست سهلة لدرجة يمكن القول معها إنّ الأعلم يصير المرجع الأعلى. فرجل الدين -حسب صابرينا ميرفان- غالبًا ما يحتاج إلى مؤازرة شيخه أو راعٍ له مشهور، يكون بمثابة المرشد والضامن في آن معًا، حتى يستطيع أن يتبوأ منصبه الديني، ويستقرّ له[25].
ويؤكد هذه القراءة ما كان بين المرجع الخليلي، والميرزا الشيرازي الذي اعتاد إحالة مقلديه إلى فتاوى زميله عندما لا يكون لديه رأي قطعي، فيختار الاحتياط. وحسب توفيق السيف فهذه طريقة درج عليها كبار الفقهاء، وتعتبر في الحوزة العلمية دليلًا على أن المرجع الأعلى يرشح المحال عليه لخلافته، أو يعتبره التالي له مباشرة في مقامه العلمي[26].
أيضًا لا يتوقف الأمر على المرجع، بل على الطلاب الذين عادة ما يتوجهون نحو المرجع الأكثر مالًا وإنفاقًا، لا سيما أن معظمهم من خلفيات اجتماعية فقيرة وريفية، وكلما زاد عدد طلاب المرجع وزادت نفقاته صار في عِداد المراجع الكبار، وهذا يفتح الباب واسعًا لتمويل بعض المراجع من الأنظمة السياسية، وهو ما نسميه بصناعة الأعلميَّة، من خلال دعم المرجع وترميزه.
كذلك هناك منطق العائلة والأسرة التي لا يمكن الانفكاك عنها في الثقافة الشيعية، فقد ترسخ هذا المنطق مع الوقت حتى صار محدّدًا رئيسيًّا في أعلميَّة المرجع، وكفاءته، ونفوذه، وهيبته أمام مجتمع التقليد وطلاب الحوزة. ربما أساس هذا المنطق ومرجعه إلى ثنائية «السادة والمشايخ»، فالمجتمع الشيعي الديني ينقسم إلى سادة وهم الذين تعود أصولهم إلى آل البيت، والمشايخ وهم رجال الدين ممن لا ترجع أصولهم إلى آل البيت، وتزداد هيبة الرجل ونفوذه إذا جمع بين العنصرين فكان رجل دين وسيّدًا في نفس الوقت. فهذه الثقافة جعلت العقل التراكمي والجمعي الشيعي ينظر بإجلال وتبجيل إلى جماعة السادة وأُسَرهم وعوائلهم، وكذلك إلى رجال الدين بوصفهم نوابًا عن المعصوم. ويمكن القول إنّ صناعة المراجع لا يمكن أن تتمّ بصورة نهائية وراسخة ومستقرة إلا عبر هذه العوائل. ويجب أن نلاحظ هنا أنّ تلك العوائل تملك نفوذًا ماليًّا وسياسيًّا ضخمًا، ومصالح ممتدة ومتشابكة مع مصالح أنظمة وتجار، ومن مصلحة تلك العوائل تمتين الصلة بالتجار، ومن مصلحة التجار «دافعي الخُمس» تمتين الصلة بالمرجعية، وهذه هي العَلاقة الملتبسة التي أقلقت عددًا من رجال الشيعة وعلى رأسهم مرتضى مطهري، مما جعله يصف رجال الدين بالمقلدين للعوامّ، وتجار البازار[27].
إذًا ليس كافيًا أن يقول رجل الدين إنه الأعلم حتى يتصدر أو يلجأ إليه الناس لتقليده، بل هي عملية متشابكة ومعقدة ويتداخل فيها عدد كبير من المحدّدات والعناصر. وهنا يُطرح السؤال المهم بناءً على تلك المعطيات السابقة: ماذا بعد خامنئي؟
رابعًا: ماذا بعد خامنئي؟
السؤال الذي يُطرح دائمًا بين المهتمّين بالشأن الإيراني، ماذا بعد خامنئي؟ هل يمكن للنظام الإيراني أن يُصدّر مرجعية من خارج المراجع المحسوبين عليه وفقًا لنظرية الأعلم؟ أم أن ضمان الولاء للنظام وخط الإمام هو المحدّد الرئيسي في عملية الاختيار؟
إذا كان النظام قد قفز على شروط النظريتين -الأعلم وولاية الفقيه- بعيد وفاة الخميني، ووجد التبريرات المختلفة لتمرير عملية الاختيار، فمن باب أولى تمرير نفس السيناريو بعد وفاة خامنئي، إذ ليس من مصلحة النخبة الحاكمة في إيران إدخال أي مرجعية دينية مستقلة عن سياسات النظام/خط الإمام، لأسباب عديدة. فخليفة خامنئي لن يكون إلا من جناح الثورة والمحسوبين عليها. قد تحدث توافقات بين المؤسسة الدينية والحرس الثوري -بصفته المؤسسة التي تحتكر القوة والسلاح- بشأن خليفة خامنئي، وقد تحدث صفقات ما، لكن الأمر المؤكد أنّ خليفة خامنئي سيكون أحد رجال الدين التابعين لنظرية ولاية الفقيه والمعدودين في خندق خطّ الإمام. وليس من المتوقع بأي حال من الأحوال أنْ يكون هو الأعلم وفقًا لنظرية الأعلميَّة، لكنه أيضًا من المرجح أن يكون في مرتبة آية الله وليس حجة الإسلام.
من المتوقع أن تتمّ عملية ترميز إعلامي وجماهيري، وصناعةِ أعلميَّة، وفارق كبير بين الأعلميَّة وصناعتها، تمامًا كما حدث مع خامنئي بعد وفاة الخميني لكنها ستكون أسهل، إذ إنّ خامنئي كان بمرتبة حجة الإسلام مما صعّب المهمة على النظام في ذلك الوقت. أي إنّ النظام سوف يتمسك ظاهريًّا بالتقليدية الشيعية التي ينطلق من وعائها، ثمّ يقفز عليها عمليًّا بتولية من تريده النخبة السياسية والعسكرية والدينية في سدّة القيادة. وقلنا إنّ من المرجح لجوء النظام إلى مرتبة دينية عليا محسوبة عليه، بمعنى أنه سيلجأ إلى أحد «آيات الله» وليس إلى مرتبة أدنى «حجة الإسلام» كما فعل مع خامنئي، وذلك لأنّ مناخ التشيع الآن وحضور إيران الواسع في الإقليم يُحتم على النظام ذلك كي لا يفقد حواضن شيعية في وقت يسعى فيه لنجاح المشروع الجيوبوليتيكي القائم عليه، أو يُواجَه بتشكيك فقهي في الأوساط الشيعية هو في غنى عنه الآن. كذلك فإنّ اللحظة الراهنة غير اللحظة التي تولى فيها خامنئي، فاللحظة الراهنة ستكون أشبه بتسليم القيادة لرجال الجيل الثاني، أو الطبقة الثانية من الجيل الأول، كآية الله الشاهرودي وطبقته مثلًا، بالإضافة إلى أنّ موقع تلامذة الخميني بعد وفاته في الحوزة لم تكن لتؤهلهم ليتبوأ أحدهم موقع المرجعية العليا لصغر أعمارهم مقارنة بغيرهم في ذلك الوقت[28]، أما الآن فمعظمهم حصل على مرتبة «آية الله» وكَبُر في السنّ بما يؤهله لتولي القيادة.
نجد مثال تولية علي خامنئي دليلًا على صوابية هذا الطرح، إذ إنّ تعديلات الدستور سنة 1989م خلت من أي إشارة إلى مجلس القيادة الذي كان موجودًا في دستور 1979م، وخففت من الشروط الواجب توفرها في القائد الأعلى كاجتماع أغلب الجماهير عليه ورضاها به، وبعبارة دستور 1979م: «تكون ولاية الأمر وإمامة الأمّة في جمهورية إيران الإسلامية على عاتق الفقيه العادل التقي العارف بشؤون عصره، الشجاع، المدير والمدبّر، الذي تعتبره أكثرية الجماهير قائدًا لها، وترضاه، وعندما لا يحرز أي فقيه تلك الأكثرية فيتولى القيادة مجلس قيادة يتشكل من الفقهاء الحائزين على الشرط المذكور آنفًا”. فاكتفى دستور 1989م بعبارة: «في زمن غيبة الإمام المهدي تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيد الفقيه العادل المتقي العالم بأمور زمانه، الشجاع الكفء في الإدارة والتدبير»، فنُحي الجمهور دستوريًّا، والجمهور هو المخوّل باختيار المرجع الأعلى في الفقه الشيعي حسب العرف المتداول والموروث، إذ إنّ الكشف عن الأقدرية لا يكون إلا بكثرة المقلدين، وحصص الأموال، بعبارة أدقّ كما قلنا إن النظام الإيراني اعتمد الأعلميَّة نظريًّا، وقفز عليها سياسيًّا وواقعيًّا.
التناقض الآخر أنّ دستور 1979م اشترط أعلميَّة القائد بمقتضى الدلالة، ومع ذلك لم يُخوّل له حق الانفراد بالحكم والرأي النافذ على بقية السلطات التنفيذية والتشريعية، لكن دستور 1989م ورغم أنه خفف من شروط القائد وشروط أعلميَّته عبر إلغاء رضاء الجماهير ومقبولية أكثرية المؤمنين، فقد أعطاه من الصلاحيات ما لم تُعطَ لمن توفرت فيه الشروط في دستور 1979م، فنقل دور القائد من الإشراف على السلطات الثلاث إلى التنفيذ، فصار هو المنسق الوحيد بين هذه السلطات بعد إلغاء دور رئيس الجمهورية الذي كان منسقًا أساسيًّا بين تلك السلطات وفقًا لدستور 1979م. وحدث نفس التناقض في عدد من المواد الأخرى. والمفترض أن يتم تقليص صلاحيات القائد ما دام أنه ليس الأعلم، لا أن يتم العكس.
هذه التعديلات ضربت شرعية الثورة والحكم ونظرية ولاية الفقيه من أساسها، إذ إنّ بعد وفاة الخميني -وفقًا للمادة 107 من دستور 1989م- الذي هو المرجع المعظّم والقائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، الذي اعترفت الأكثرية الساحقة من الناس بمرجعيته وقيادته، توكل مهمة تعيين القائد إلى الخبراء المنتخبين من الجامعين للشرائط المذكورة في المادتين الخامسة والتاسعة بعد المئة، ومتى ما شخصوا فردًا منه باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية، أو المسائل السياسية والاجتماعية، أو حيازته تأييد الرأي العام، أو تمتعه بشكل بارز بإحدى الصفات المذكورة في المادة التاسعة بعد المئة، انتخبوه للقيادة، وإلا فإنهم ينتخبون أحدهم، ويعلنونه قائدًا. ويتمتع القائد المنتخب بولاية الأمر ويتحمل كل المسؤوليات الناشئة عن ذلك.
وكان أصل المادة في دستور 1979م: «إذا اختارت الأكثرية الساحقة للجماهير أحد الفقهاء الحائزين على الشروط المذكورة في المادة الخامسة من هذا الدستور، مرجعًا وقائدًا لها، كما حصل بالنسبة إلى مرجع التقليد الكبير وقائد الثورة آية الله العظمى الإمام الخميني، عندها يتولى هذا القائد ولاية الأمر وجميع المسؤوليات الناشئة عنها. وإلا فإن الخبراء الذين انتخبهم الشعب يتباحثون حول كل من يصلح للمرجعية والقيادة ويتشاورون في ما بينهم، فإذا وجدوا مرجعًا يمتلك مميزات بارزة خاصة يقدمونه إلى الناس كقائد، وإلا فيختارون ثلاثة أو خمسة من المراجع الحائزين على شروط القيادة يقدمونهم إلى الناس كأعضاء في مجلس القيادة».
ونلاحظ أن دستور 1989م ألغى التحاكم إلى الجماهير بدايةً بعد أن كان البدء به في دستور 79، وجعل البداية باختيار مجلس الخبراء. وكذلك ألغى دستور 89 فكرة مجلس القيادة أو وجود أكثر من شخص في سدة القيادة، وحصرها في شخص واحد حتى ولو لم يكن مؤهلًا أو مستوفيًا للشروط، وذلك لسدّ الباب أمام كلّ رجال الدين والمرجعيات الأخرى التي لا تدور في فلك النظام السياسي. الأمر اللافت أيضًا أنّ شرعية الخميني اعتمدت على الجماهيرية الطاغية كما نصّ الدستور وتفاخر بها، وهو نفس الدستور الذي ألغى اعتبار الجماهيرية والأكثرية ورضا الأمة لصالح النصب، أي تمّت دسترة النصب قبال إلغاء الاختيار والانتخاب[29].
خاتمة: أزمة الشرعية
بناءً على هذه التباينات والتناقضات في العَلاقة بين المرجعية والنظام الإيراني، يبدو جليًّا أزمة الشرعية التي يُعاني منها النظام، إذْ يُعاني النظام من أزمة شرعيتين: الشرعية السياسية والشرعية الدينية.
فبالنسبة إلى الشرعية السياسية هناك سخط شعبي على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: السخط الشعبي على القائد الأعلى. والمستوى الثاني: السخط الشعبي على النظام والحكومة. والمستوى الثالث: السخط الشعبي على السياسات العامة الخارجية والداخلية.
هذا السخط تمثل في مظاهرات واسعة النطاق شملت عموم المناطق الإيرانية منذ قيام الثورة وحتى الآن، وصل بعضها إلى ما يمكن تسميته بالثورة، وقد جوبهت تلك المظاهرات بالقمع الشديد، والضغط الأمني العنيف. وينبغي أن نلاحظ هنا أنّ النظام لا يُلقي بالًا للانتخابات واختيار الجماهير، ومقبولية المؤمنين حسب عبارة الفقه الشيعي، بل إنّ نظرية النصب -لا الاختيار- هي المعتمدة عند فلاسفة النظام والمتحدثين باسمه، مما يبرهن على مركزية نظرية الحق الإلهي في عقل النظام السياسي. فالنظام لم يعتمد نظرية الإنجاز، على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فالاقتصاد متدهور ويمرّ بأزمة ربما هي الأعنف في تاريخ إيران الحديث، والعَلاقات الدولية للدولة الإيرانية مهترئة وتواجه إيران عقوبات من المجتمع الدولي جراء سياستها الطائفية والميليشياتية في الإقليم، ونسيج المجتمع الإيراني متفكك ويواجه تحديات دينية وأخلاقية كبرى. ولم يعتمد كذلك الديمقراطية والعلمانية الجزئية أو العلمانية المؤمنة بتعبير شمس الدين، كسبيل للخروج من المأزق الإيراني الراهن، واعتماد الشعب كمرجع لخلافات القوى السياسية، ومنحه حقوقه المسلوبة في الثروة والدولة. فلم يبقَ من شرعية النظام سوى اعتماده على القوة العسكرية الضاغطة.
أما الشرعية الدينية فقد قفز النظام على نظريتي الأعلميَّة وولاية الفقيه بقراءتها الكلاسيكية، ولم يلتزم بأي منهما، بل مارس تناقضات تحطّ من شأن النظريتين وتخترق رسوخهما في البيئة الشيعية.
ولكن كيف قابلَ النظامُ أزمة الشرعية التي واجهته؟ وكيف تعامل معها؟ تعامل النظام مع أزمة الشرعية بسياسة التجاهل والاستعلاء تارة، والضغط الأمني تارة أخرى، فالنظام يُصدر للداخل والخارج صورة المقبول جماهيريًّا، وفي نفس الوقت يُطلق يد القوّات الأمنية والحرس الثوري والباسيج لخنق المجتمع على مستوى الحريات السياسية والاجتماعية، وممارسة القمع العشوائي والاعتقال على أوهى الأسباب، وإصدار وتنفيذ الأحكام دون أي حقوق قانونية أو قضائية، مما خلق فضاءً عامًّا غير مناسب لأي إصلاحات سياسية بالهيكل السياسي القائم، وبيئة خاضعة غير مناسبة لحركات تمرد وتغيير كبرى، وأنتج ما يمكن تسميته «دولة الخوف».
أخيرًا.. يمكن القول إنّ النظام الإيراني تسبّب في إضعاف المرجعية وتحجيمها بسبب ممارساته التي أرادت الجمع بين الديني والروحي والسياسي، أي جمع واستدماج القيادة الدينية والسياسية في شخص المرشد الأعلى، وهذه هي النقطة الحرجة التي لا طالما تخوّف منها النظام، أي بروز مرجعية دينية توازي أو تكبر المرجعية السياسية، ومِن ثَمّ فإن المرجعيتين حتمًا سيحدث الصدام بينهما، ولذا آثرت القيادة السياسية الإيرانية اندماج الجناحين في شخص المرشد الأعلى. وارتأت أنّ هذه السياسة هي السياسة المثلى في ظلّ وجود نظامٍ إسلامي يُعبّر عن الشريعة والدين والحوزة، فلا حاجة إذًا لبروز رجال دين مناوئين لخطّ الإمام، إذ كان هذا متصوّرًا في عهد الشاه وما قبله فلم يكن من حقه تأميم الدين والحوزة لصالحه، لأنه نظام غير إسلامي، أمّا مع وجود نظام ينوب عن الإمام فأي مساس به أو معارضة له تُعدّ معارضة للإمام المعصوم، والردّ عليه كالردّ على الله لا شكّ.
وخلاصة القول هي أننا أمام عملية تأميم للدين والحوزة والمرجعية بسيف السلطة السياسية، وتقليص أو إلغاء المساحة التاريخية بين المرجعية والسلطة، ذلك أنّ النظام يدرك أهمية الحوزة في البيئة الشيعية عمومًا والإيرانية خصوصًا، والتأثير الذي لعبته قديمًا وحديثًا، بل وكانت سببًا في نجاح ثورة 1979م، وهو ما لا يريد النظام ولا أحد من مؤسسيه وأركانه تكراره بصورة عكسية ضدهم كنخبة سياسية ودينية حاكمة، ولذا فمن المتوقع أن يستمر اعتماد النظام لنظرية الأعلميَّة نظريًّا وتقليديًّا، وفي نفس الوقت يقفز عليها عبر صناعتها بالأدوات المعهودة.