أفادت تقارير إعلامية، في الأول من أبريل الجاري، بأنَّ إسرائيل استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق، بما أدَّى إلى مقتل قائد «فيلق القدس»، التابع للحرس الثوري في سوريا ولبنان، العميد محمد رضا زاهدي، إلى جانب ستة أفراد عسكريين آخرين، منهم نائبه محمد هادي حاجي رحيمي.
وجاءت الضربة تحقيقًا لأهدافٍ عسكرية وضعتها إسرائيل، ترمي إلى استهداف القوّات المسلَّحة الموالية لإيران في سوريا، وليست المرَّة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل مبنى دبلوماسيًّا إيرانيًّا، لكن إسرائيل هذه المرة شذَّت عن قواعد لعبة الاشتباك، فلم تستهدف إمدادات «حزب الله» من الأسلحة، أو تضرب بهدف إبعاد جماعات إيران عن حدودها، بل شنَّت هجومًا قصدت منه القضاء على مَنْ يُطلَق عليهم «مستشارون عسكريون إيرانيون في سوريا».
وجاء هذا التغيير الإسرائيلي في هجمات تل أبيب في سوريا، بعد السابع من أكتوبر، فقبل هذا التاريخ كانت أهداف إسرائيل العسكرية هناك تتمثَّل في استهداف الشركات التابعة لإيران أو وكلائها. أمَّا بعد ذلك التاريخ، أدركت إسرائيل أوجه القصور والضعف في إستراتيجية الاحتواء، التي تنتهجها مع القوّات الموالية لإيران في سوريا، إذ مرَّت الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في سوريا بتطوُّرٍ اتّضح في استهدافها الجنرال البارز في الحرس الثوري الإيراني، رضي موسوي، في دمشق، في 25 ديسمبر من العام الماضي، واستمرَّت الاستهدافات الإسرائيلية ضدّ عسكر الحرس الثوري الإيراني في سوريا، بعد دخول عام 2024م. فبعد الأشهر الستة الأولى، التي أعقبت هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023م، نفَّذت إسرائيل ما زاد على 50 غارة جوِّية في سوريا، خمسٌ منها على مطار حلب، واثنتان على مطار النيرب العسكري التابع له، وأربعٌ على مطار دمشق، وواحدة على مطار المزّة العسكري.
هذه الغارات استهدفت ما بين 18 إلى 20 من عناصر الحرس الثوري الإيراني في سوريا، إلى جانب نحو 32 من عناصر «حزب الله»، وعنصر واحد ينتمي لحركة «حماس».
وبعد هجوم إسرائيل على القنصلية الإيرانية في دمشق، أول أبريل الجاري، توعَّدت إيران بردٍّ «أقسى»، إذ صرَّح رئيس أركان القوّات المسلَّحة الإيرانية، اللواء محمد حسين باقري، بأنَّ «إيران ستُحدِّد توقيت ونوع عمليتها العسكرية ضدّ إسرائيل، وستنفِّذها بعناية، لتُلحِق أقصى الأضرار بالعدو، وتجعله يندم على ما أقدم عليه».
وقد باتت إسرائيل على تأهُّب للرد العسكري الإيراني، إذ أغلقت نحو 30 من سفاراتها حول العالم مؤقَّتًا، كما تهافت مواطنوها على تخزين الإمدادات من الماء والغذاء، إذ كان الرد الإيراني متوقَّعًا، لكن لم يُعرَف توقيته، ناهيك بمكانه.
ففي الثاني من أبريل، اليوم التالي للضربة الإسرائيلية، وكذلك في الرابع من أبريل، أُطلِقت صواريخ كروز وكاتيوشا باتّجاه الجولان، وكذلك اعترضت القوّات الأمريكية -في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية- طائرتيْن مسيَّرتيْن في سوريا، بما قد أشار إلى احتمالية استئناف الهجمات ضدّ القوّات الأمريكية من جديد، بعد أن كانت متوقِّفة منذ مطلع فبراير.
وعلى الرغم من أنَّ المرشد الإيراني علي خامنئي، وغيره من المسؤولين الإيرانيين، كانوا قد صرَّحوا بأنَّ بلادهم لن تترك الهجوم يمُرّ دون ردٍّ يكون كافيًا لردع إسرائيل عن تَكرار فعلتها أو التصعيد، فإنَّه لا يبدو أنَّ طهران كان أمامها كثير من الخيارات الجيِّدة، فإنْ أفرطت في الردّ وردَّت بضربة مباشرة من الأراضي الإيرانية ضدّ أهداف في إسرائيل، ستُخاطر بتصعيد عسكري واسع قد يُفضي إلى صراع مباشر بين إيران والولايات المتحدة. وهي كانت قادرة على استهداف المواقع الدبلوماسية الإسرائيلية في دولة ثالثة، في إفريقيا أو أمريكا الجنوبية أو آسيا، لكن قُدرتها على ذلك لن تجعل من استهداف الدبلوماسيات الإسرائيلية بالصواريخ والطائرات المسيَّرة، أو تنفيذ عملائها عمليات سرِّية، ردًّا يرقى إلى ردٍّ عسكري يردع إسرائيل عن مواصلة استهداف المصالح الإيرانية في سوريا وغيرها.
وفي حال كان الرد العسكري الإيراني خفيفًا، فستكون له انعكاساته في الداخل الإيراني، إذ سُيضعِف قوَّة الحرس الثوري داخل إيران، الذي يواجه السخط في الشارع، وكذلك سيُشجِّع معارضي النظام على التمرُّد على الأجهزة الأمنية، وسيفتر عزْم مؤيِّدي الحرس الثوري «المتشدِّدين» على دعْم النظام، إذ بدأ «المتشدِّدون» الإيرانيون يطالبون بردٍّ انتقامي فور وقوع الهجوم الإسرائيلي، وخلال الفترة السابقة على الردّ الإيراني، كانت احتمالية ألّا تأخذ القيادة الإيرانية هذا الضغط الداخلي في الحسبان بشأن قرارها، واردة.
وآخر الخيارات المُحتمَلة أمام طهران، كانت مواصلة استخدام وكلائها وشركائها في مضايقة القوّات العسكرية الإسرائيلية، إذ كانت إيران قادرة على تكثيف الهجمات بالوكالة، أو إمداد وكلائها بأسلحة أكثر تطوُّرًا. وهذا الخيار كان الأقلّ ملاءمة، لأنَّ طهران كانت مضطرَّة إلى أن تكون المسؤولة الأولى عن الهجوم. كما أنَّ هذا الخيار -في ظل التغيير الأخير في إدارة إيران رُقعة نفوذها الذي أبرز تدخُّلاتها وإشرافها المباشر على وكلائها في الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر- قد يفشل في إرضاء الأطراف «المتشدِّدة» في إيران، وفي ردْع إسرائيل عن شنِّ مزيد من الهجمات ضدّ القوّات الإيرانية في سوريا.
وسواء أدَّى الانتقام العسكري الإيراني إلى تصعيد إقليمي أوسع أم لا، فإنَّ هدف طهران واضح، وهو ردْع إسرائيل عن أيّ هجوم في المستقبل، وفي نفس الوقت عدم استثارة حربٍ بين إيران والولايات المتحدة. والتباين في هذا الهدف، هو ما جعل معايرة الردّ أمرًا صعبًا على الإيرانيين، بعد الهجوم الإسرائيلي في سوريا. ففي نهاية المطاف، فإنَّ أولوية المرشد الإيراني قبل اتّخاذ أيّ قرار هي ضمان بقاء النظام، وعدم فتْح صراعٍ أيديولوجي أو عسكري مباشر ضدّ إسرائيل أو ضدّ القوّات الأمريكية في المنطقة.. وبالتالي، كان الخوف من سقوط النظام هو العقبة السياسية الكبرى أمام تحديد طبيعة الردّ الإيراني على الهجوم الإسرائيلي.
ويبدو أنَّ الأحداث الأخيرة شكَّلت «ردًّا إيرانيًّا»، وتدور أنباء عن احتمالية شنّ وكلاء إيران في لبنان وسوريا والعراق هجمات أيضًا، كما أطلقت إيران -بغرض تخفيف لذعة الانتقادات المتوقَّعة- صواريخ باتّجاه إسرائيل، إلى جانب أسراب من الطائرات المسيَّرة.. فالنظام الإيراني يُدرِك أن بإمكان الدفاعات الجوِّية الإسرائيلية اعتراض تلك الطائرات بسهولة، لكنّه أقدم على هذا الردّ بهدف حفظ ماء وجهه، وتخفيف الانتقادات الموجَّهة إليه، وتعزيز تأييده وشرعيته في الداخل، لا سيّما بين ناخبيه «المتشدِّدين».. إذ تهدف إيران بهجومها الناعم المباشر على إسرائيل، إلى ترميم بعض الردع، لتجنُّب مزيد من الهجمات الإسرائيلية، وكذلك تجنُّب المواجهة المباشرة معها.
ومن المرجَّح أن يردع هذا الردّ -على الرغم من فشله- إسرائيل عن شنِّ هجمات مباشرة على إيران، لكنّه لن يقِف في وجه استمرار الاستهداف الإسرائيلي لمصالح إيران ووكلائها وبنيتها التحتية في سوريا وأفراد الحرس الثوري هناك، ومَن له علاقة ببرنامج إيران النووي أيضًا. وبعد أن ردَّت إيران ردّها المرتقب طويلًا، أصبحت الكُرة في ملعب إسرائيل، ولا يُمكن الجزم بما ستؤول إليه الأمور، لكن من المؤكَّد أنَّ إدارة بايدن ستضغط على حكومة نتنياهو حتى تُثنيها عن الردّ، أو على الأقلّ تحدُّ من ردِّها، بهدف منْع تصعيدٍ متبادلٍ قد يرمي المنطقة بأكملها في براثن الصراع.
المصدر: عرب نيوز
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد